السينوغرافيا في المسرح السوري بين التنظيرالمصطلحي والتطبيق العملي
يعرف المعجم المسرحي -الذي وضعته الدكتورة حنان قصاب حسن والدكتورة ماري الياس- السينوغرافيا المسرحية بأنها:« كلمة تستخدم في كل اللغات وتعني فن تشكيل الفضاء العرض والصورة المشهدية للمسرح والأوبرا والباليه والسيرك وغيرها من المجالات. وهي مجال إبداعي فني يفترض معرفة بالرسم والعمارة –الصور والألوان والحجوم والأشكال- وبالتقنيات المستخدمة في المسرح –الإضاءة وهندسة الصوت- إضافة إلى القدرة على تحليل العمل لتجسيده.» إذاً تعنى السينوغرافيا بتنظيم الفضاء المسرحي بأبعاده وعناصره المختلفة من تصميم العمارة المسرحية بالتعاون مع المهندس المعماري، وتصميم مكان العرض بشكل يخدم بالدرجة الأولى الرؤية الدرامية والتأثير المرجو على المتفرج، وتنفيذ الديكور وجميع ما يتعلق في العرض المسرحي. وبدوره عرف المخرج المصري الدكتور كمال عيد السينوغرافيا المسرحية بقوله: «إنها تعني الخط البياني للمنظر المسرحي حرفياً، هذا ضمن التعبير المسرحي، أما معناها الفلسفي فهي علم المنظر الذي يبحث في ماهية كل ما هو على خشبة المسرح وما يرافق فن التمثيل من متطلبات ومساعدات تعمل في النهاية على إبراز العرض المسرحي جميلاً، متكاملاً، ومبهراً أمام الجماهير» وبقراءة أكثر بساطة لمفهوم السينوغرافيا، نجد أن الإنسان العادي يمارسها في حياته اليومية بتفاصيلها البسيطة، وتتفاوت هذه الممارسة الفعلية من شخص إلى آخر، وتتمثل بطريقة توزيع الديكور والإكسسوار في المنزل، أو بطريقة اختيارنا للملابس مثلاً، فنحن عندما نقرر أي من تلك الملابس سنرتدي، أو عندما نغير من توضع الأثاث في غرف المنزل، تتشكل لدينا صورة ذهنية تلقائية، نحدد عبرها ماهية الفضاء والمحيط الذي سنعيش ضمنه، ونوع النشاط الإنساني الذي سنمارسه فيه، مما يولد رؤية خاصة بنا، فالتصميم السينوغرافي بمعناه البسيط هو عمل أساسي عند كل إنسان، والرغبة في النظام والتصميم والتنظيم الرؤية البصيرة تعتبر سمة إنسانية مشتركة.
السينوغرافيا: لمحة تاريخية
مع تطور الفنون جميعاً بما فيها المسرح بفنونه وأشكاله ومدارسه المختلفة، من التأليف والإخراج والتمثيل، ظهرت مفاهيم ومصطلحات جديدة بشكل يوازي عملية التطور، من أهمها في العصر الحديث السينوغرافيا المسرحية التي باتت تحمل معنى المسرحية وتبلور أفكارها وتساعد على إيصال مضامينها الجمالية، بعد أن كانت عبارة عن مجموعة قواعد وقوانين المتنوعة لتوضع الديكور المسرحي والأزياء والماكياج وعناصر الإضاءة المختلفة، أصبحت الآن عنصراً أساسياً يلعب دوراً كبيراً بإنجاح العرض المسرحي أو يكون سبباً مباشراً في سقوطه.
تشير المصادر التاريخية إلى أن الذكر الأول لكلمة سينوغرافيا كان في اللغة اليونانية وهي مشتقة من كلمة skenographia وتعني فن الزخرفة والتزيين في المسرح اليوناني، وفي عصر النهضة بقيت التسمية نفسها لكن بدلالة مختلفة حيث أصبحت تعني تكنيك الرسم وتلوين عمق اللوحة، وتطورت هذه التسمية وتغيرت دلالاتها ومعانيها وإن كانت بالمجمل مرتبطة بالفن المسرحي، فالسينوغرافيا بمفهومها الحديث هي إعادة اكتشاف وبلورة لمفاهيم قديمة وليست اخترعاً جديداً، ويعود السبب في ذلك إلى الرحلة الطويلة التي مر بها فن تصميم المناظر المسرحية عبر العصور المختلفة، حيث يعصب حقاً على أي باحث أو متخصص بالفنون المسرحية وعلومها المختلفة تحديد الخط الفاصل بين رحلة تصميم المناظر المسرحية وعناصر الديكور المختلفة بمعناها التقليدي الشائع، وبين السينوغرافيا الحديثة، ويمكن السبب الفعلي وراء ذلك إلى التطور التدريجي الذي مر به هذا الفن وابتعاده عن النقلات المفاجأة أو النوعية. وعلى الرغم من التطور الكبير الذي شهده فن السينوغرافيا في وقتنا الحالي، إلا أنه ما يزال يعتبر من أكثر المصطلحات المسرحية التباساً، بسبب الحدود العملية والنظرية الملقاة على السينوغراف وأدواته التعبيرية والفنية والعلمية الكثيرة والمتداخلة فيما بينها، ولكون الأبحاث والدراسات النظرية المعنية بالسينوغرافيا الحديثة على مستوى التداول والممارسة هي نادرة أو قليلة حتى وقتنا الحالي. وإن وجدت فهي لا تتعدى الاجتهادات والمقالات المتفرقة لبعض المهتمين بهذا الاختصاص القديم الحديث في وسطنا المسرحي.
على المستوى الغربي، صدرت منذ ستينيات القرن الماضي الكثير من المجلات والدوريات المتخصصة في علوم السينوغرافيا بجوانبها المختلفة، بعد أن شاع هذه المصطلح بكثرة بعد منتصف خمسينيات القرن الماضي، وظهر ما سمي لاحقاً بالسينوغرافيا الحديثة في المسرح الأوروبي، وإن كان المسرح الفرنسي السباق إلى طرح والعمل على مصطلح السينوغرافيا، حيث تميز عن غيره من المدارس المسرحية الغربية، بعمله على صعيد الصالة والخشبة على حد سواء، وعلى التداخل بين هذين الفضائين. أما في أمريكا وبريطانيا فقد تأخر ظهروه بالمقارنة مع بقية الدول الغربية ومدارسها المسرحية المختلفة.
السينوغرافيا في المسرح السوري
ظهر مصطلح السينوغرافيا في المسرح العربي في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، وربما كان المسرح المغربي أول من عرف هذه الفن على الصعيدين التطبيقي والنقدي لاتصال العاملين به الدائم والمباشر مع الثقافة الفرنسية، أما في المسرح السوري أخذ هذه المصطلح في التداول منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وبغض النظر عن الكثير من الوجهات النظر المتباينة حينا ومتقاربة أحيان أخرى، تبقى الحقيقة الثابتة التي مفادها أن السينوغرافيا هي فن أكتشف في الغرب وانتقل إلينا حديثاً جداً، وبقي حضورها على الساحة المسرحية السورية –كما هو الحال مع باقي الدول العربية- مهمشاً إلى درجة كبيرة، وإن وجدت في عرض مسرحي غابت عن عروض كثيرة.
وإذا ما قورن فن السينوغرافيا مع بقية عناصر العرض المسرحي في مجل العروض السورية، نجد تجاهلاً واضحاً في غالبيتها لهذا العنصر الجديد مقابل بقية العناصر الأخرى مثل النص والموسيقا والأداء التمثيلي..الخ. لذلك تبقى هذه العروض تعاني من خلل واضح في بينتها واضطراب في إيقاعها وعدم تناسق في الخطوط والأحجام والإطار العام للفضاء المسرحي الذي يقدم ضمنه العرض، للغياب الواضح لبينة الصورة المشهدية الواضحة وقواعد المنظور التي تعطي ماهية وشكلاً للفراغ المسرحي.
قسم السينوغرافيا في المعهد العالي للفنون المسرحية
سعت إدارة المعهد العالي للفنون المسرحية في السنوات القلية الماضية إلى افتتاح أقسام علمية جديدة، من أجل مواكبة التطور والتقدم الذي يشهده العالم في العلوم المسرحية بمختلف اختصاصاتها وتوجهاتها، وكان قسم السينوغرافيا المسرحية من الأقسام الأولى التي تم افتتاحها. ويهدف هذه القسم إلى تخريج متخصصين في مجال التصميم المسرحي والسينوغرافيا، وبعد مرور عدة أعوام على افتتاح هذه القسم وتخريجه عدة دفعات، لم يحقق هذا القسم النتائج المرجوة منه إلى الآن، فالمتابع لمجمل عروضنا المسرحية المحلية التي يقدمها المسرح القومي، أو التابعة لجهات خاصة أخرى مختلفة، يلاحظ الغياب الفعلي لأسماء هؤلاء الطلبة الخريجين عن المشاركة وتقديم الخبرات التي تعلموها في المجال السينوغرافيا بمعناها الأكاديمي الاحترافي إلا في عروض قليلة جداً، حيث تقتصر مشاركتهم على تصميم الأزياء أو الديكور، وما تزال معظم بروشورات العروض تدرج اسم مصمم الديكور أو الأزياء ويغيب عنها اسم تصميم السينوغرافيا! ومن أهم خصائص مخرجينا المسرحيين المحليين هو ولعهم وشغفهم بتصميم السينوغرافيا لعروضهم –كما هو الحال مع المخرج زيناتي قدسية- عبد المنعم عمايري- فايز قزق وغيرهم- في الوقت الذي ينتظر الكثير من خريجي قسم السينوغرافيا فرصة حقيقية لإثبات وجودهم. حتى بتنا نتساءل عن الجدوى الحقيقة من إحداث هذا القسم الذي من الممكن أن يحقق تطويراً ودفعاً فعليين لعروضنا المسرحية، أم أنه سيخرج عدداً ليس بقليل من العاطلين عن العمل؟
السينوغرافيا تطبيقات عملية
في إحدى حواراته الصحفية قدم الدكتور المخرج جواد الأسدي قراءته الشخصية لمفهوم السينوغرافيا: «لا تنبع فكرة السينوغرافيا من ثرثرة الموبيليا، ولا من بهرجة الألوان والأضواء، حتى ولا من الأشكال الهندسية التي تشكل الفراغ تشكيلاً عضوياً» ويعتبر الأسدي واحداً من المخرجيين الذي يضعون السينوغرافيا لعروضهم المسرحية دون الرجوع إلى أحد المتخصصين بهذا المجال، وفي عرضه «الخادمتان» عن نص للكاتب الفرنسي جان جينيه الذي قدمه مؤخراً بدمشق، شاهدنا واحدة من التطبيقات القليلة الناجحة لمفهوم السينوغرافيا المسرحية التي اعتبرها الكثيرون الحامل الأساسي للعرض ومن أكثر عناصره نجاحاً وإبهاراً للمتلقي، حيث بنى الأسدي خشبة مسرحية غير اعتيادية مرتفعة ومائلة باتجاه الجمهور احتوت على فتحات عدة موظفة درامياً، مقسما الفضاء المسرحي إلى جزأين أثنين بشكل يتناسب مع عوالم الشخصيات، كما عمل على تغيير شكل القاعة متعددة الاستعمالات في دار الأسد للثقافة والفنون عندما ألغى أماكن جلوس المتفرجين في الطابق الثاني، وحول إحدى شخصيات النص الأصلي الذي عمل على إعداده إلى مجموعة صور عرضت ضمن العرض بواسطة جهاز إسقاط ضوئي مما أغنى العرض من ناحية المشهدية البصرية، قدم الاسدي بذلك قراءة سينوغرافية ناجحة بكافة المعايير الفنية لعرض لم يوفق بقراءة ما أراده جينيه من نصه فكرياً، هذه إن دل على شيء إنما يدل على أن التطبيق الصحيح والناجح لعنصر السينوغرافيا في العرض المسرحي والذي نفتقده مع الأسف في الغالبية العظمى في عروضنا المحلية، يساهم في إنجاح العمل وتغطية عيوبه الأخرى. ومن أهم السينوغرافيين العاملين في وسطنا المسرحي السوري الأستاذ نعمان جود الذي ساهم بتأسيس قسم السينوغرافيا في المعهد العالي للفنون المسرحية، وشارك بوضع مناهجه العملية، وقدم على مدى أكثر من عقدين من الزمن العديد من القراءات السينوغرافية المختلفة للكثير من العروض المسرحية الناجحة، وبشكل خاص مشاريع تخرج طلبة قسم التمثيل، والتي كان آخرها «مهاجر بريسبان»الذي قدم مؤخراً، حيث اعتمد على قراءة منطقية ومدروسة بعناية لنص الكاتب اللبناني جورج شحادة المغرق في الشاعرية التي تقارب مفهوم العبث، معتمداً على البساطة تصميم العناصر المختلفة وترجمة شاعرية شحادة -التي غيبها النص الذي أعده المشرف على عرض التخرج الأستاذ مانويل جيجي- إلى لوحات جمالية ومشاهد بصرية متناغمة فيما بينها، استطاعت إنقاذ العرض من السقوط المدوي وفسح المجال للطلبة الخريجين بالدخل في روح الشخصيات وتفاصيلها المختلفة.
ومن أهم التجارب التي قدمها المسرح السوري في الآونة الأخيرة على صعيد السينوغرافيا المسرحية، عرض «المهاجران»للكاتب البولوني سلافومير مروجيك الذي أخرجه الدكتور سامر عمران ووضع له سينوغرافيا اعتبرها البعض من أنجح ما قدمه المسرح السوري ضمن هذه الفن الجديد. حيث عمل عمران على تقديم عرضه في ملجأ تحت الأرض، ليعش المتفرج ساعتين ونصف مع ممثلين جسدا شخصيتي مهاجران في أحد البلدان الغربية، يقضيان عيد رأس السنة وحيدين في أحد الأقبية، نفذ عناصر سينوغرافيا العرض محمد قزق الذي جعل أنابيب المياه تتوزع على جدران الملجئ وسقفه، كل شيء تفوح منه رائحة النتانة والعفونة، هنا نجح عمران بتقديم سينوغافيا أثرت نفسياً إلى جانب التأثير الجمالي والفكري على المشاهد، ليدخله في دوامة الشخصيات وأحوالها وبينتها وتناقضاتها وصراعاتها المختلفة. مقابل هذه النجاحات القليلة لتطبيق مفهوم السينوغرافيا في عروضنا المسرحية المحلية، تظهر بالمقابل الكثير من التجارب التي تدعي جزافاً أنها قدمت قراءة سينوغرافية صحيحة وعلمية، لكن في حقيقة الأمر إنها محاولات لم تستطع حتى ملامسة هذه الفن الحديث البريء من هذه التجارب وأصحابها.
إذاً إن ظهور فن وعلم السينوغرافيا في المسرح السوري كمفهوم جديد ومستحدث، جعل منه موضع لبس بين أوساط المهتمين والعاملين في المجال المسرحي بمختلف توجهاتها ومدارسه، وبقيت المواضيع المتعلقة بفن السينوغرافيا تطرح وتعالج مع كثير من الاستحياء والتردد والا موضوعية في كثير من الأحيان، حتى بدت سمة الغموض تتصدر الغالية العظمى من التنظيرات والخطابات المتداولة في أوساطنا الثقافية. ولعل حداثة هذه الفن أو المصطلح جعلت الباحثين والمهتمين بتداوله ومحاكاته كل على هواه وبطريقته الخاصة، لعلهم يتمكنوا من حل لغزه وشيفراته المختلفة، مما ساهم بظهور العديد من الفلسفات المتشابكة والمتناقض في كثير من الأحيان، جعلت هذه الآراء والتنظيرات تتأرجح بين مصمم السينوغراف من جهة، والسينوغرافيا كعلم وفن من جهة أخرى.
أنس زرزر- جريدة النهضة السورية
إضافة تعليق جديد