أسبوع السينما الصينية في دمشق: أفلام تحتفي بالتفاصيل الواقعية
ربما لا تزال السينما الصينية الأبعد بالنسبة للمشاهد العربي، رغم ما حققته تلك السينما من إنجازات وما حصلت عليه من جوائز في السنوات الأخيرة، مع أنّ المسألة لا تتعلق بالمسافات الجغرافية، ولا بالفروقات اللغوية، بقدر ما تتعلق بتلك النجمة الحمراء التي فرضت نفسها في كل مجالات الإبداع والفن ولعقود خلت. لكنها بدأت تتراجع عن ساحة الرؤيا دون أن يخف الاهتمام بالتفاصيل الواقعية للمجتمع والحياة في الصين، وهي تبدو الآن ' واقعية بلا ضفاف' واقعية تنشد الجمال.
برزت هذه الواقعية الجميلة بعيداً عن ضفاف الأيديولوجيا والألوان الحمراء، كما شاهدنا في أغلب أفلام ' أسبوع السينما الصينية' الذي أقامته المؤسسة العامة للسينما في سورية مؤخراً بالتعاون مع السفارة الصينية في دمشق، ولا سيما في فيلم الافتتاح ' المشي إلى المدرسة' للمخرج ' بنغ تشن' الذي حضر إلى دمشق بهذه المناسبة. تدور أحداث هذا الفيلم في منطقة فقيرة من شنغهاي وهو فيلم رشيق يتحدث عن حلم الأطفال بالذهاب إلى المدرسة في أجواء تعيشها أسر في تلك المنطقة، والصعوبات التي يواجهها الآباء في تحقيق أحلامهم وأحلام أطفالهم بالدراسة.
وقال ' بنغ تشن' مخرج الفيلم: إنه اقتبس فيلمه عن قصة حقيقية تدور أحداثها حول فتاة وأخيها الذي يتمنى هو الآخر أن يذهب إلى المدرسة، لكنه يصبح من الصعب تحقيق هذا الحلم إثر سقوط شقيقته من فوق الحبل الذي يعبر من فوقه يوميا طلاب هذه القرية إلى الجهة الأخرى من النهر حيث توجد المدرسة. وأضاف مخرج الفيلم مشيراً إلى اهتمامه بالحياة التقليدية في منطقة شمال غرب الصين وواصفاً الفيلم بأنه جميل ودافئ، لكنه حزين وقاس مشيراً إلى أن هذا الفيلم يستطيع أن يعبر الحدود لأنه يعبر عن مبادئ إنسانية سامية كالصدق والجمال.
الشيء الآخر الذي يلفت الانتباه في السينما الصينية هو الحضور القوي للمسألة الوطنية، وبشكل خاص في سنوات الحرب العالمية الثانية واحتلال اليابان للصين، ذلك الجرح الذي لم يندمل بعد، رغم مرور أكثر من نصف قرن عليه، لكننا نلاحظ أيضاً اختلاف المعالجات الفنية بين مرحلة ' الثورة الثقافية' ونجمة ' ماوتسي تونغ'، وبين ما تقدمه السينما الصينية حالياً.
ففي فيلم ' رجل آي بي' كنا أمام شخص هادئ جداً و معطاء يعيش في بلدته مسالماً، في حين كان الكثيرون يهتمون برياضة ' الكونغ فو'، وتعلّم سبيل القوّة، كان هو الأقوى، لكنه يرفض احتراف الرياضة سبيلاً للعيش، أو سبيلاً لإذلال الآخرين. وحين جاء الاحتلال الياباني، وعمّ الخراب في أنحاء الصين المترامية الأطراف كان البعض يرى في هذه القوة سبيلاً إلى كسب العيش ولو عن طريق سلب الناس وقطع الطرق، أو حتى لو دفع بعضهم حياته ثمناً للحصول على ما يُقيت عائلته وأطفاله. وحده ' آي بي' رأى في هذه الرياضة تفوقاً صينياً على اليابانيين لأنها تحتاج إلى طاقة روحية، وهو ما يفتقده المحتلون اليابانيون، وعندما يتعرّض لمحاولة اغتيال إثر انتصاره الرياضي على الكولونيل الياباني، تثور جموع الناس وتختطفه وهو جريح. يعيش ' رجل آي بي' بعد انتهاء الاحتلال الياباني، ويُنشئ أهم مدرسة لتعلم هذه الرياضة في جزيرة هونغ كونغ، دون أن ننسى دلالة الاسم، والتي تعني رجل الهوية، حيث تتحوّل إلى هوية للعشب الصيني بأكمله في لحظة من التاريخ.
الطرح الجديد بالنسبة إلى السينما الصينية، أنها فصلت مؤخراً بين المسألة الوطنية وبين السياسة كعمل حكومي وأيديولوجي أيضاً، وربما يكون هذا أوضح في الفيلم الآخر ' المفتون للأبد' للمخرج ' تشن كايغه' الذي سبق وشاهدناه في ختام مهرجان دمشق السينمائي الأخير.
في هذا الفيلم الرومانسي يعيدنا المخرج إلى شخصية تاريخية وواقعية أيضا، فيصور بطريقة ملحمية حياة ماي لانفانغ ( ليون لاي) أشهر مطرب وممثل أوبرا في تاريخ الصين. ومع أن لانفانغ كان رجلاً إلا أنه اكتسب شهرته الواسعة على أساس أدائه أدوار الشخصيات النسائية، بل إنه في الحقيقة عاش حياته الخاصة يعاني من كبت المشاعر. وهو مغني أوبرالي برع في لعب الدور النسائي بما يتطلبه ذلك من صوت وماكياجات. دون أن يعني ذلك انحرافاً جنسياً، وفي مرحلة لاحقة ينقلب لانفانغ على الأنظمة الاجتماعية التي تحد من نشاطاته الشخصية بمنتهى الصرامة، ثم تنتقل الأحداث لمدة عشر سنوات حين يتدبر لانفانغ أمر تلك القيود الاجتماعية ويؤسس اسمه كأشهر نجم أوبرا في الصين كلها. ثم يحتدم الصراع وإنما هذه المرة على خشبة المسرح بين لانفانغ والفنان سوالو 13 ( وهي شخصية غامضة تمثل تركيبة مكوّنة من عدة شخصيات في الحياة الواقعية) لا سيما أن أسلوب سوالو 13 يشكل النقيض الكامل لأسلوب لانفانغ. ثم ينقل المخرج كايغه زمن أحداث فيلمه لاستكشاف جهود لانفانغ الرامية إلى الاقتران بزوجة ثانية، فو زيفانغ ( تشن هونغ) وعلاقته مع مديرة أعماله كيو روباي ( سن هونغ لي) التي تعشق أداء لانفانغ على خشبة المسرح وتعلقها الشديد بشخص لانفانغ نفسه. ثم يواجه لانفانغ مأزقاً حقيقياً عندما تدخل معجبة شابة تدعى مينغ زياودونغ ( زانغ زيي) حياته الشخصية ويتوج التعارف بينهما إلى علاقة غرامية قوية. وفي هذا الفيلم يتعرّض البطل لمحنة الاحتلال الياباني رافضا التعامل مع الاحتلال أو الغناء في ظل التعسف الذي أصاب الصينيين.
نلاحظ في هذه الأفلام مزيداً من الواقعية التي نزلت إلى عمق الخراب الذي خلفته الحرب بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي، لكنها أكدت على صمود الروح الوطنية لدى الصينيين من خلال أشخاص واقعيين، وأحداث أخذت بعداً أسطورياً في الرياضة أو في الغناء الأوبرالي، لكنّ الأجمل هو ما رأيناه أو تعرفنا إليه من فن الأوبرا الصينية، حيث لم نتعرّف إلى هذا الفن سابقاً إلا بوصفه فناً غربياً، وافداً إلى الشرق.
أنور بدر
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد