خلفيات الظاهرة العرقية السياسية البلجيكية وامتداداتها الأوروبية
الجمل: أسفرت نتائج الانتخابات البلجيكية العامة الصادرة صباح اليوم عن فوز تيار الفلامانيين العرقي-الانفصالي, الأمر الذي عزز الشكوك والمخاوف إزاء مدى مصداقية بقاء الدولة البلجيكية موحدة, إضافة إلى مدى احتمالات انتقال عدوى صعود النزعات العرقية الانفصالية: ما هي خلفيات الظاهرة العرقية-السياسية البلجيكية, وما هي امتداداتها الأوروبية المحتملة؟
بنية الصراع السياسية البلجيكي: المعطيات والعوامل
تعتبر بلجيكا من بين أبرز البلدان الأوروبية الغربية لجهة العراقة والعمق في التقاليد الثقافية-العلمانية الأوروبية, وقد ظلت بلجيكا تمثل لدى الأوروبيين الغربيين نموذجا حيا للتعايش الحيوي-السلمي بين مكونات الثقافة الاجتماعية والتربية الأوروبية الغربية.
تبلغ مساحة بلجيكا 30,528 كم مربع, (أي ما يعادل ثلاثة أضعاف ونصف مساحة لبنان), ويبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي البلجيكي 382,8 مليار دولار, وعدد السكان 10,8 مليون نسمة, بمعدل دخل سنوي للفرد في حدود 35,500 دولار أميركي.
أبرز الملامح الجيوسياسية تتمثل في المكونات الديموغرافية-الثقافية البلجيكية, وذلك بسبب, انقسام الشعب البلجيكي على أساس اعتبارات الخلفيات الثقافية اللغوية إلى ثلاثة مكونات, هي:
• كتلة سكانية ناطقة ناطقة باللغة الفلامانية وترتبط بثقافات شمال أوروبا الاسكندنافية ذات الطابع الساكسوني, إضافة إلى الارتباط بالمسيحية البروتستانتية, وبقدر أكبر تمثل امتدادا للثقافة الهولندية المجاورة لبلجيكا من ناحية الشمال, ويتمركز البلجيكيون الفلامانيون في النصف الشمالي من بلجيكا, ويشكلون 58% من إجمالي سكان بلجيكا.
• كتلة سكانية ناطقة بالفرنسية, وترتبط بثقافات جنوب أوروبا ذات الطابع اللاتيني, إضافة إلى الارتباط بالمسيحية الكاثوليكية, ويتمركزون في النصف الجنوبي من بلجيكا, ويشكلون 32% من إجمالي سكان بلجيكا.
• كتلة سكانية ناطقة بالألمانية, وترتبط بثقافات وسط أوروبا, إضافة إلى ارتباطها الشديد بألمانيا, ويتمركزون في أقصى شرق بلجيكا ويشكلون 10% من إجمالي سكان بلجيكا.
تأسست الدولة البلجيكية بشكلها الحالي في 4 تشرين الأول (أوكتوبر) 1830م, واستمرت ضمن نموذج النظام الملكي, حتى لحظة التحاقها بعضوية الاتحاد الأوروبي كدولة مؤسسة ساهمت في مسيرة العمل الأوروبي المشترك وجهود الوحدة الأوروبية منذ لحظة بداياتها في 25 آذار (مارس) 1957م.
الصراع السياسي البلجيكي: تأثير العامل الثقافي الإثنو-لغوي
ظلت الدولة البلجيكية أكثر التزاما بالحفاظ على الحقوق الثقافية-اللغوية لمكونات المجتمع البلجيكي الثقافية-اللغوية الثلاثة: الفلامانية في الشمال, والفرنسية في الجنوب, والألمانية في الشرق, وعلى أساس هذه الاعتبارات تم تقسيم المحافظات وكيانات الحكم الإقليمي المحلي الأخرى.. إضافة إلى مراعاة تقسيم الدوائر الانتخابية وتخصيص المواد السياسية, بما يوازن بين المصالح السياسية لهذه المكونات على مستوى السلطة التشريعية (البرلمان) ومستوى السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء), ومستوى السلطة القضائية (المحكمة العليا), وتأسيسا على ذلك:
• تمتعت المجتمعات البلجيكية الثلاثة بحرية الاستخدام اللغوي.
• تمتعت المجتمعات البلجيكية الثلاثة بحرية الاعتقاد الديني.
• تمتعت المجتمعات البلجيكية الثلاثة بحرية التعبير السياسي.
• تمتعت المجتمعات البلجيكية الثلاثة بالمساواة الكاملة على أساس اعتبارات المواطنة.
ولكن, وبرغم الانفتاح البلجيكي غير المسبوق على القيم الليبرالية والتعددية فقد برزت خلال الحقبة الماضية عملية صعود تدريجي منتظم لعمليات تسييس الخلافات الثقافية الإثنو-لغوية, وتشير التحليلات بأن عملية العولمة كان لها تداعياتها الإيجابية على كل القارة الأوروبية, ولكنها في بلجيكا وبرغم تداعياتها الإيجابية فقد كانت لها تداعياتها السلبية, ويمكن الإشارة إلى هذه التداعيات ضمن الآتي:
• المبدأ الأول: أكدت عملية العولمة على ضرورة الانفتاح.. وقد انفتح البلجيكيون على كل شعوب وثقافات العالم.
• المبدأ الثاني: أكدت عملية العولمة على ضرورة احترام الثقافات.. وقد سعى البلجيكيون إلى التأكيد على ثقافاتهم المحلية الخاصة..
وعلى هذه الخلفية, فقد كان تأثير المبدأ الثاني على البلجيكيين أكثر, فقد سعت النخب البلجيكية باتجاه الانكفاء والتكتل ضمن بنياتها الثقافية-اللغوية-الإثنية الثلاثة, بما أدى إلى تسييس المكونات المجتمعية الثقافية الإثنو-لغوية.. الأمر الذي أدى بدوره إلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية الحزبية البلجيكية وفقا للمكونات الآتية:
• أحزاب سياسية ذات نزعة قومية-اجتماعية فلامانية تنشط في شمال بلجيكا.
• أحزاب سياسية ذات نزعة قومية-اجتماعية فرنسية تنشط في جنوب بلجيكا.
• أحزاب سياسية ذات نزعة قومية-اجتماعية ألمانية تنشط في شرق بلجيكا.
• أحزاب سياسية ذات نزعة دينية مسيحية تنشط في أوساط المتدينين المسيحيين.
• أحزاب سياسية ذات نزعة علمانية تنشط في أوساط العلمانيين بمختلف اتجاهاتهم الليبرالية والماركسية.
ظلت القوى السياسية البلجيكية ذات التوجهات الليبرالية الغربية والمسيحية الديموقراطية الأكثر حضورا في الساحة السياسية, ولكن هذه المرة, خسرت هذه القوى الرهان الانتخابي, فقد صعدت الحركات والقوى السياسية ذات التوجهات القومية-الاجتماعية إلى مقدمة الصراع السياسي, وأصبحت تمثل الأطراف الرئيسية في الصراع السياسي البلجيكي-البلجيكي, بعد أن ظلت طوال الحقب الماضية تمثل الأطراف الثانوية.
الكابوس العرقي البلجيكي: الاتحاد الأوروبي في مواجهة الخطر الجديد
ظل الأوروبيون الغربيون, أكثر تفاخرا واهتماما بإظهار تجربة الوحدة الأوروبية وصعود قوة الاتحاد الأوروبي خلال الحقبة الماضية باعتبارها تشكل تجربة نموذجية يتوجب على شعوب العالم الأخرى اعتمادها كصيغة ذات مصداقية في تحقيق السلام والاستقرار والتعاون والتعايش والتكامل.
وبرغم ذلك, فقد أطل الكابوس المزعج هذه المرة من النافذة البلجيكية, وكأنما أراد التاريخ أن يمد لسانه ساخرا, فبلجيكا التي برزت فيها ظاهرة الانقسام العرقي الإثنو-لغوي الأوروبي, هي ليست مجرد دولة أوروبية غربية عادية, وإنما هي مقر رئاسة الاتحاد الأوروبي, وبكلمات أخرى, فقد وقع اختيار الأوروبيين الغربيين على بلجيكا لكي تكون مقرا لمؤسسات الاتحاد الأوروبي, باعتبار أنها تمثل رمزا للتعايش بين المكونات الثقافية والدينية والعرقية واللغوية الأوروبية الغربية, ولكن, إذا كانت معطيات خبرة الوحدة الأوروبية التي انطلقت عام 1957 قد انتهت بقيام الاتحاد الأوروبي وتمركز مؤسساته في بلجيكا, فإن نزعة الانقسام والانفصال, وعدم التكامل الثقافي والديني والعرقي واللغوي الأوروبي قد انطلقت هذه المرة من بلجيكا!!! هكذا تقول سخرية القدر, فأي كابوس ينتظر الوحدة الأوروبية, إذا تزايدت النزعة العرقية البلجيكية وانتقلت عدواها عبر الحدود إلى بقية دول الاتحاد الأوروبي, بما يمكن أن يدخل شعوب القارة الأوروبية في سيناريوهات الخلافات العرقية, على غرار الأمم غير المتحضرة ؟!
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد