المسرح والقراءة الدراماتورجية
لم يحظ المصطلح المسرحي "الدراماتورجيا"، اليوناني الأصل، بأي مرادف عربي دقيق حتى الآن، شأنه شأن العديد من المصطلحات الأجنبية الإجرائية في الفنون البصرية والسمعية والمشهدية مثل: الكوريغرافيا، الغروتسك، الماكياج، البارودي، السيناريو، الفودفيل، الكواليس، السينوغرافيا... إلخ.
إن كلمة الدراماتورجيا، بحسب المعجم المسرحي، لها مجال دلالي واسع لأنها تدل على وظائف متعددة ظهرت تباعاً مع تطور المسرح، وهي مأخوذة من الفعل اليوناني الذي يعني يؤلّف، أو يشكل الدراما، وتُستخدم بلفظها اللاتيني في غالبية لغات العالم، وكذلك في اللغة العربية، اذ لم يُعرف المفهوم، ولا يوجد له مرادف، بل تُستخدم مصطلحات أخرى تغطي بعض الجوانب الدلالية لمصطلح دراماتورجيا، مثل تكييف، أو إعداد، أو قراءة، أو كتابة. في الخطاب النقدي الحديث صارت تضاف، في بعض الأحيان، صفة "الدراماتورجيا" إلى هذه الكلمات، فيقال "تكييف دراماتورجي" و"قراءة دراماتورجية". وبحسب ليتري، فإن الدراماتورجيا، في أبسط معانيها، "فن تركيب النصوص المسرحية"، أي إنّ المصطلح يُطلق على مؤلف النصوص المسرحية، وذلك لتمييزه عن مؤلف النصوص الروائية أو النصوص الشعرية، بل يطلق لتمييز كتابات المؤلف الواحد بعضها عن بعض.
في القرن السابع عشر كان مؤلف النص المسرحي في أوروبا يسمّى الدراماتورج، ومصطلح الدراماتورجيا يعني فن تأليف المسرحيات. وتطور المعنى في ما بعد، مع انتقال مركز الثقل تدريجياً من النص إلى العرض، ومن مؤلف النص إلى معدّ العرض.
تمثّل التجربة الألمانية في المسرح أول انفتاح في معنى الكلمة على مدلولات جديدة تتخطى عملية الكتابة لتشمل العمل المسرحي في مجمله بما فيه عمل الممثل وشكل العرض. وقد ثبّت الكاتب الألماني لسنغ المعنى الجديد للكلمة، في القرن الثامن عشر، في كتابه "دراماتورجيا هامبورغ" الذي انطلق فيه من الرغبة في الخلاص من هيمنة النموذج الكلاسيكي الفرنسي، وتثبيت الخصوصية المحلية الألمانية. وميز لسنغ بين مؤلف النصوص المسرحية بالمعنى الذي كا ن سائداً، والدراماتورج، وبذلك خرجت الدراماتورجيا من الأفق المحدود لتأخذ معاني ودلالات أخرى أوسع، بحيث أصبحت تعني الاستشارة الأدبية. فالدراماتورج مستشار أدبي يهتم أولا بالنصوص وبالمخطوطات الموجهة للعرض، والدراماتورجيا، في هذا الاطار، تعني قراءة النصوص، وأحياناً ترجمتها أو إعدادها، وأصبحت توجد في تقاطع العلائق التي يفرضها الانتاج المسرحي: التأليف، الاخراج، النقد، والصحافة، لذلك نجد وظيفة الدراما تورج تعطى لأشخاص كانوا يمارسون الصحافة، وثمة من جمع بين الدراماتورجيا والتأليف، ومن مرّ منها إلى الاخراج. ثم جاء بريشت فطوّر أسلوباً في التحليل الدراماتورجي للنص، والعمل مع الممثل لكي يبدأ هذا المفهوم في الانتشار بمعناه الجديد، وصار مصطلح "الدراماتورجيا" يغطي مجال المسرح كله بما فيه كتابة النص، وتحضير العرض، ودراسة تاريخ المسرح والنقد. وقد عمل بريشت دراماتورجاً مع المخرج ماكس رينهاردت، وعلى يده أصبحت الدراماتورجيا تعني الوظيفة الايديولوجية، بحيث أصبح لها دور خاص في الانتاج المسرحي، إذ هو المسؤول عن الانتقال من النص الى العرض، تالياً أصبحت مهمة الانتاج المسرحي تتقاسمها الدراماتورجيا والاخراج. فحين يقوم الاخراج بالاعداد التقني المشهدي للعمل المسرحي، تقوم الدراماتورجيا بالاعداد النظري وخصوصاً بناء الحكاية. وقد جعل بريشت من الدراماتورج المسؤول عن العرض ومنسقه، وهذا ما فعله بعض المسرحيين بعده مثل البولوني نتاديوش كانتور، الذي كان يصعد الى الخشبة، ويظهر أمام الجمهور بوصفه منسقاً للعرض المسرحي.
سبق مفهوم الدراماتورجيا مفهوم الإخراج ومهّد له. وفي كل الأحوال يعدّ ظهور الدراماتورجيا والإخراج تحولاً في المنظور للمسرح وانبثاقاً لما يسمّيه الناقد الفرنسي برنار دوت "الذهنية الدراماتورجية"، فهو يرى أن تراجع أهمية الأعراف التي كانت تتحكم بالكتابة والعرض جعل العملية الدراماتورجية عمليةً مهمةً لأنها تبني علاقةً جديدةً بين النص والعرض بمعزل عن القواعد.
في المسرح العربي تعرضت وظيفة الدراماتورج، خلال العقدين الماضيين، إلى كثير من التشويه والتسطيح، إذ بدأنا نلاحظ ظهور اسم الدراماتورج مع المخرج في بعض العروض المسرحية، من دون أن يكون له جهد دراماتورجي حقيقي في التجربة، إما بسبب عدم إدراك الدراماتورج لوظيفته، وإما بسبب دكتاتورية المخرج، وإما لجهل الطرفين العلاقة بين عمل المخرج وعمل الدراماتورج. وقد خضت شخصياً تجربتين دراماتورجيتين مع مخرجين اثنين من المخرجين العرب هما العراقي عزيز خيون في مسرحية "يا أهل السطوح"، والأردني غنام غنام في مسرحية "كأنك يا بو زيد..."، وأعترف بأنني نجحت نجاحاً محدوداً في التجربة الأولى، وفشلت في التجربة الثانية، على الرغم من تقديم المسرحيتين في مهرجانين دوليين، وظهور اسمي إلى جانب المخرجين خيون وغنام في الوثائق المنشورة.
في الواقع أن الدراماتورجيا، بوصفها ممارسةً ذهنيةً وعمليةً، سادت في العملية المسرحية، وأصبحت جزءاً من العمل الإخراجي حتى في حال غياب الدراماتورج، فبات الكثير من المخرجين يقومون وحدهم بنوع من القراءة الدراماتورجية من أجل التحضير للعرض، هذه القراءة يمكن أن نطلق عليها عملية "مسرَحَة" أو "تمسرح".
من بين هؤلاء المخرجين، في المسرح العربي، تمثيلاً لا حصراً، صلاح القصب، قاسم محمد، وكاظم النصار (العراق)، الفاضل الجعايبي، ومحمد إدريس (تونس)، سليمان البسام (الكويت)، وحكيم حرب (الأردن). لقد اتخذ هؤلاء المخرجون الخيار الدراماتورجي منهجاً في عملهم المسرحي، على الرغم من اختلافهم في التجربة المسرحية منحى وأسلوباً، فالقصب اجتهد مخرجاً دراماتورجاً طوال ربع قرن من خلال مسرح الصورة ونصوص عالمية، أغلبها كلاسيكي، معتمداً قراءةً تأويليةً تختزل النص، وتعصف به أحياناً. واجتهد قاسم محمد في إطار التراث والثقافة الشعبية، إلى جانب نصوص شرقية وعربية، شاحناً إياها بدلالات إنسانية وقيم نبيلة مطلقة، من خلال صوغ مسرحي يقوم على الطقس الشعبي، والاحتفال، واللعب، والحكي، وغير ذلك من أساليب التعبير المحلي.
تميز الجعايبي وإدريس بإضفاء جمالية رفيعة على تجاربهما التي تنهل من الواقع موضوعات في غاية الحساسية والجرأة، وأحياناً المسكوت عنها، أو غير المفكّر فيها، بسبب هامشيتها من وجهة نظر الخلاّقين التقليديين. ويتصدر هذه التجارب عادةً أداء أخّاذ وغير مألوف للممثلين من خلال حرفية عالية المستوى في استثمار طاقاتهم الجسدية والصوتية، إضافة إلى التشكيلات البصرية المبهرة التي تسحر العين وتثقفها.
استخدم البسام "مبضعه" الدراماتورجي في تشريح أشهر تراجيديات شكسبير (هاملت، ماكبث، كليلة ودمنة، وريتشارد الثالث)، وحوّل شخصياتها الكلاسيكية شخصيات منبوذة معاصرة (الإرهابي، الطاغية، وتاجر الحروب)، متخذاً اسلوب الإسقاط السياسي من خلال ربط أحداث هذه المسرحيات بقضايا الساعة في الواقع العربي والدولي بما تحمله من سلبيات وآلام ومحن، وإثارة تساؤلات حول الكثير من الأزمات والصراعات الإنسانية والسياسية. وقد وصفت صحف بريطانية أحد عروضه "مؤتمر هاملت" بأنه أجرأ عمل سياسي يفضح الاستبداد والحروب، وينتقد الدول المتسلطة المتاجرة بمآسي الشعوب. وكان عرضه الثاني "ماكبث 60 واط" قطعةً فنية هجينة تقع في منتصف الطريق بين السرد الروائي والرسم التجريدي، بين فن العرض الحيّ والمسرح، فضلاً عن كونه لعبةً مثيرة عمد البسام من خلالها إلى جعل الشخصيات في وضع تنسى فيه معظم حوارات المسرحية، ولكنها تستمر في إدارة الأفعال الدرامية بنوع من التحريف المتكرر والمستمر.
وبرز الجهد الدراماتورجي في تجارب المخرج حكيم حرب (المتمردة والأراجوز، كاليغولا، سمفونية الدم، ماكبث، ومأساة المهلهل) التي ركز فيها على البعد الوجودي- الفانتازي للتراجيديا العالمية والمحلية، جاعلاً أبطالها المستبدين يندفعون إلى الأمام، من دون تروٍّ، لتحدّي نواميس الطبيعة والقوى الميتافيزيقية، وملاقاة أقدارهم المأسوية بلغة مشهدية بصرية شديدة الإيحاء، تتداخل فيها مناخات وأطر تاريخية وحديثة ذات نزوع غرائبي يجمع الوهمي بالواقعي، والمعقول باللامعقول، محفزاً ذهن المتلقي على نوع من التأويل الحر، وفكّ الاشتباك بين البنى المتعارضة في الفعل الدرامي.
عواد علي
المصدر: النهار
التعليقات
الدراماتورج
إضافة تعليق جديد