الكذبة الكونية التي شرعت لدمار هائل
تحلّ علينا الذكرى الخامسة لتفجيرات 11 أيلول. جورج بوش الملتهي عن الواقع بالهلوسة يزعم أن العالم بات أكثر أمناً. يضع مصائر دول وشعوب على بساط البحث، يعمّم الخراب والفوضى، ويصرّ على ضرورة التقدّم على الطريق نفسها. يُبالغ ويُزايد عشيّة الانتخابات النصفية التي ستشهد، على الأرجح، نوعاً من المحاسبة الشعبية الأميركية له ولقادة حزبه المدافعين عنه. أما شريكه في الاندفاعة العدوانية طوني بلير فهو في المنطقة لتفقّد مسارح الجرائم التي ارتكبها. إلاّ أن الجديد في الأمر هو أنه اضطر إلى إعلان موعد انسحابه المسبق من الحياة السياسية في بلاده.
ليس غريباً، والحالة هذه، أن يرى الرسّام الكوبي آريس، في هذه الذكرى، انهيار، أو بداية انهيار، البرجين بوش وبلير اللذين حوّلا رداً يمكنه أن يكون مشروعاً على الاعتداء إلى بعث لكولونيالية تدميرية.
جديد هذه الذكرى الخامسة قد يكون النجاح النسبي الذي تحقّقه «نظرية المؤامرة» في احتلال موقع لها بين «التفسيرات» المُعطاة لما حصل في 11 أيلول 2001. لقد كانت تلك النظرية حاضرة على الدوام، بتنويعات مختلفة، منذ اليوم الأول. ولكن هذا شيء وشيء آخر أن يقول 36 في المئة من الأميركيين إنهم يعتقدون بأن مسؤولين حكوميين سمحوا بحصول الهجمات أو قاموا بها. هذا انتقال لدُعاة «المؤامرة» من الهامش إلى المتن.
روايات «المؤامرة» أكثر من أن تُحصى. موجودة في كتب، ومجلات، ومواقع إنترنت، وأفلام... كان القائلون بها يبدون مثل مشعوذين هامشيين مرذولين. كانوا، في أحسن أحوالهم، مثار سخرية ومدعاة للهزء. كانوا طرفة. كانوا فرقة من نوع الفرق التي تعجّ بها الولايات المتحدة وتصدّرها إلى العالم. لم يعد الوضع كذلك. ولم يعد في وسع الإعلام المركزي الأميركي تجاهل الظاهرة واكتسابها مواقع جديدة وتزايد الانحياز إليها.
تكثر التفسيرات العقلانية لهذا اللامعقول. يقال، مثلاً، إن هناك من يرفض أن يكون تقليدياً، ومن يحب الانشقاق، ومن يفضّل الاعتراض، كما أن هناك من يسعى إلى البحث عن تفسيرات مثيرة أكثر من تلك الشائعة لحدث استثنائي لا بد من «الارتقاء» نحو شرحه. إلاّ أن هذه التفسيرات لا تكتمل من دون الأخذ في الاعتبار الميل المتعاظم لدى قطاعات واسعة من الرأي العام، في أميركا والعالم، إلى التشكيك في إدارة بوش وملاحظة فقدانها صدقيتها وميلها إلى الكتمان والسرية. وبما أنه يكاد لا يمر يوم إلاّ يكتشف الأميركيون كذبة جديدة لهذه الإدارة، فإن من المنطقي اللجوء إلى اللامنطق من أجل رفض الرواية الرسمية وتعريضها للشك.
عندما يلاحظ سيناتور أميركي ديموقراطي (روكفلر) أنه «لا سابق في التاريخ الأميركي لمثل هذا التلاعب بالرأي العام» يصبح من حق الرأي العام أن يتفلّت من أسر الأطروحة الرسمية حتى لو قاده ذلك إلى إطلاق العنان لخيالاته.
ملاحظة السيناتور الأميركي جاءت في معرض التعليق على الأجزاء التي نشرتها لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ من التحقيق الذي قامت به حول مطابقة التقديرات الاستخبارية والتصريحات الرسمية في مرحلة ما بعد 11 أيلول وفي سياق الحرب على العراق. وكان روكفلر نائب رئيس هذه المجموعة المؤلفة من ثمانية جمهوريين وسبعة ديموقراطيين وقد أمكنها نشر استنتاجاتها لأن اثنين من «حزب الرئيس» مالا إلى «خصومهم».
كان التحقيق مضنياً ومديداً وجرى عبر الاطلاع على وثائق وإجراء مقابلات واستجوابات قبل أن يصدر في حوالى 400 صفحة. تناول بالتفصيل عملية التضليل التي قام بها «المؤتمر الوطني العراقي» بزعامة أحمد الجلبي ولكننا نكتفي، هنا، باستعراض سريع لما أورده عن العلاقة المزعومة بين نظام صدام حسين و«القاعدة» وأسامة بن لادن.
كشف التقرير بما لا يدع مجالاً لأي شك أن النظام العراقي السابق لم يكن على صلة بـ«القاعدة» إطلاقاً. لا بل كشف عن عداء يكنّه النظام لهذه المجموعة، وعن محاولة قام بها لاعتقال أبو مصعب الزرقاوي، وعن رفض طلبات مساعدة من بن لادن وعن أوامر عامة مُعطاة تحظر أي تعامل معه.
الأهم من ذلك أن التقرير، إذ يشير إلى امتلاك أجهزة الاستخبارات معلومات خاطئة عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، فإنه يحسم في أن الأجهزة نفسها كانت تجزم على الدوام بانعدام أي أساس لأي معطيات عن علاقة النظام السابق بـ«القاعدة».
ففي شباط 2002 قالت الأجهزة إنه لا تعاون في مجال الأسلحة المحظورة بين بغداد و«الإرهابيين» إلاّ أن بوش أكد لاحقاً أن صدام حسين وفّر تدريباً لـ«القاعدة» على الأسلحة الكيميائية والبيولوجية. وفي حزيران وتموز وأيلول 2002 أكدت الأجهزة انعدام الصلة وأسقطت مقولة «اجتماع براغ» بين محمد عطا ومسؤول عراقي. ولكن، في كل مرة، كان نائب الرئيس ديك تشيني يتغاضى عن هذه «الحقائق» ليصرّح بعكسها. وفي كانون الثاني 2003 أشارت تقارير الأجهزة إلى أن صدام حسين يعادي القاعدة فتولّى تشيني، في اليوم التالي، إعلام الأميركيين بأن «صدام حسين يساعد القاعدة ويحمي تنظيمها».
وفيما اجتهدت الأجهزة لنقض شائعات تلك العلاقة فوجئ الجميع بوزير الخارجية آنذاك كولن باول في خطابه أمام مجلس الأمن تمهيداً للحرب على العراق يذكر اسم الزرقاوي 20 مرة مصرّحاً بأن العراق «يحتضن شبكة إرهابية قاتلة». ولقد اعترف مدير الاستخبارات المركزية السابق جورج تينيت أمام لجنة التحقيق بأن البيت الأبيض ضغط عليه من أجل دعم حجج الإدارة الذاهبة نحو حرب مقرّرة سلفاً.
ولاحظت وسائل إعلام أميركية أن بوش ماضٍ في محاولته. ففي خطاب له قبل حوالى عشرين يوماً (21 آب الماضي) سأل مواطنيه «هل تتخيّلون عالماً فيه صدام حسين المالك لإمكانية صنع أسلحة دمار شامل ولعلاقة مع الزرقاوي؟» علماً بأن العالم كله بات يدرك «أنه لا أسلحة ولا زرقاوي»!
ليس غريباً، إذاً، أن أقلّ من نصف الأميركيين يعتقد، اليوم، بأن صدام حسين كان وراء تفجيرات 11 أيلول. وليس غريباً أن يخرج السيناتور كارل ليفين عن طوره فيتّهم الرئيس بـ«التزوير وإطلاق التصريحات الخاطئة» (أي بـ«الكذب»).
«لقد استغلّت الإدارة الشعور العميق بعدم الأمان بين الأميركيين بعد 11 أيلول من أجل قيادة الغالبية منهم للاعتقاد ــ خلافاً لتقديرات الاستخبارات في ذلك الوقت ــ بأن للعراق دوراً في هجمات 11 أيلول». القول للسيناتور روكفلر وفيه تعريف واضح لـ«المؤامرة».
في عالم «الكذبة الكونية»، الكذبة التي تشرّع لدمار هائل، يجب ألا ينسب البعض إلى الإدارة «مؤامرات» إذا كان ذلك يعني أن الفرق شاسع بين ما تقوله وتفعله وبين الحقيقة الجاري تعطيلها قصداً.
كلا لم تدمّر الإدارة البرجين ولكنها دمّرت بلداناً وشعوباً على قاعدة حجج تعرف أنها غير صحيحة. «نظرية المؤامرة» لا تؤذي إلاّ المؤمنين بها. أما «المؤامرة» فيدفع الآخرون ثمنها الفادح.
جوزف سماحة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد