وتوحد الفضاء العربيّ ضدّ المهرّج السفّاح
للمرة الأولى منذ انطلاق الثورات العربية، بدت تغطية الفضائيات الإخبارية متشابهة إلى حدّ ما. من «الجزيرة» إلى «العربية» مروراً بـ«الحرة»، و«بي بي سي عربي»، وقفت هذه القنوات إلى جانب الشعب الليبي في مواجهة المجازر التي يرتكبها معمّر القذافي ونظامه. ورغم أن بعض المراقبين وجدوا في تغطية «العربية» ميلاً إلى «الوسطية» مع انطلاق الثورة الليبية، إلا أن الوضع تغيّر، وخصوصاً بعد خطاب القذافي الأول الذي هدّد شعبه بما يشبه الإبادة الجماعية. هكذا تابعنا إعلاميي الفضائية السعودية يجادلون المسؤولين الليبيين. حتى إن أحدهم لم يتردّد بتذكير سفير ليبيا الجديد في الهند «بأن التاريخ سيسجّل ما فعله نظامكم بالشعب».
طبعاً لا يخفى على أحد أنّ للخلافات الليبية ــــ السعودية دورها في تجييش «العربية» ضدّ نظام القذافي، وخصوصاً بعد المشاحنات التي وقعت بين الملك عبد الله ومعمّر القذافي في القمم العربية. لكن الحملة التي تشنّها الفضائية على النظام الليبي لم تمنع بعضهم من طرح علامات استفهام عن كيفية حصولها على مضمون خطاب القذافي قبل إذاعته على الهواء. ولعلّ ما زاد من علامات الاستفهام هو صدور قرار يسمح لعدد من قنوات التلفزة بينها «سي. أن. أن» والفضائية السعودية بتغطية الأحداث والعمل بحرية داخل ليبيا.
على جبهة «الجزيرة»، غابت هذه المرة علامات الاستفهام التي رافقت تغطيتها (أو لاتغطيتها) لأحداث البحرين، لتستعيد الفضائية القطرية ألقها الذي اعتاده المشاهد خلال ثورتَي تونس ومصر. إلا أن القناة وجدت نفسها في موقف حرج، بعد إطلاق الشيخ يوسف القرضاوي مباشرة على الهواء فتوى تبيح إهدار دم القذافي تفادياً لسقوط المزيد من الضحايا في صفوف المدنيين. هنا، امتنعت المحطة عن بثّ الفتوى في خبر عاجل، على عكس ما فعلت باقي المحطات، ولا حتى ذكرته في نشراتها الإخبارية اللاحقة أو تقاريرها. ما يفسّره بعضهم بخوف قطري من ملاحقة قضائية قد تتعرّض لها الفضائية من شركات الكابلات والأقمار الصناعية في أوروبا والعالم، بحجة التحريض على القتل، تماماً كما حصل سابقاً مع «المنار» اللبنانية التي اتهمت زوراً وبهتاناً بـ«التحريض على العنف وقتل المدنيين الإسرائيليين».
وفي إطار تغطية «الجزيرة»، كان لافتاً الغياب المفاجئ لفريق عمل المحطة في طرابلس والمدن الليبية. إذ اختفى المراسل خالد الذيب وزملاؤه بعد تقرير يتيم حمّل الثوار «مسؤولية تحطيم الممتلكات العامة والخاصة»! ورجّحت مصادر من داخل القناة أن تكون إدارة المحطة قد تفهّمت الظروف الصعبة للعمل في الوقت الراهن، فأعفت مراسليها من مهماتهم، وخصوصاً في ظل التضييق الكبير على صحافيي «الجزيرة» الذي يتهمهم النظام بالعمل وفق أجندات مخفية تهدف إلى إسقاط النظام.
وينتظر كثيرون لمعرفة طريقة تعاطي الفضائية القطرية مع الأحداث في حال سقوط النظام الليبي قريباً. وتجري المقارنة حالياً بين أداء المحطة بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي، ويوم تنحّي حسني مبارك. ويرى المنتقدون أنّ القناة لا تزال تغنّي على أنغام مصرية، فتبثّ أغاني أم كلثوم، والشيخ إمام في أشرطتها الترويجية، فيما امتنعت عن بثّ أي أغنية وطنية تونسية منذ سقوط النظام.
وإن كانت مساندة «العربية»، و«الجزيرة» للثورة الليبية متوقعة إلى حدّ ما، فإن المفاجأة جاءت من «الحرة» الأميركية. هنا، طغت أخبار التطورات في ليبيا، فتصدّرت نشرات الأخبار. ورأى بعضهم في ذلك مفارقة «لطيفة»، وخصوصاً أن مواقف الإدارة الأميركية لا تزال ملتبسة حتى الساعة.
وأخيراً، تأتي قناة «بي. بي. سي عربي» التي برزت على نحو لافت في الأسابيع الأخيرة، بعدما كانت تغطيتها للشأن العربي متواضعة منذ انطلاقتها عام 2008. مع ثورة ليبيا، لم تتردّد المحطة في التعبير عن موقفها المساند للشعب، فهاجمت خطاب القذافي الأول، وذكّرت مراراً بالتعابير التي استعملها في وصف شعبه كـ«الجرذان، والجراثيم، والمرتزقة». كذلك انفردت بعدد من الأخبار الحصرية مثل استقالة عدد من الدبلوماسيين الليبيين في الهند والصين... كذلك عرضت مجموعة تقارير خاصة استطاع مراسلوها تصويرها على الحدود الليبية ــــ المصرية، أضاءت على معاناة مئات الأجانب الذين يحاولون مغادرة ليبيا. إلى جانب المعلومات الخاصة، اعتمدت القناة على اتصالاتها بناشطين ليبيين لإمدادها بالمعلومات مباشرة من ساحة الحدث، أي من بنغازي، والعاصمة وغيرهما...
وإن كان الموقف البريطاني من الثورة الليبية بدأ يتّضح تدريجاً، يرى كثيرون على «فايسبوك» أن التغطية التي قدمتها bbc أدت دوراً كبيراً في إحراج الإدارة الإنكليزية، ودفعتها إلى اتخاذ مواقف واضحة من المذبحة القذّافية.
الياس مهدي
قاموس الفضائيّات العربيّة في زمن «الثورة»
بعد يوم على استخدامها عبارة «انتفاضة الجماهيرية»، غيّرت «العربية» التسمية إلى «ثورة ليبيا». يبدو ذلك تغييراً كبيراً من المحطة السعودية، ليس تجاه تعاملها مع القذافي، فالخلافات معروفة بين قائدَي ليبيا والمملكة، بل تجاه القاموس الذي تستقي منه المحطة لغتها الإخبارية.
في اجتماع «مجموعة العشرين» الاقتصادية، منعت السعودية والصين بقية الدول المشاركة ــــ ومعظمها غربي ــــ من توجيه التحية إلى النضال الديموقراطي في مصر وتونس. واكتفى بيان المجموعة وقتذاك بإعلان استعداد الدول المذكورة لتقديم الدعم الاقتصادي إلى البلدين. لم يتحدّث هذا البيان عن أي «ثورة». مع ذلك، وقفت له السعودية بالمرصاد. لكنها الآن، وقد عوّضت، تقريباً، من خلال «العربية» دور «الجزيرة» (المشوّش عليها) تجاه الحدث الليبي، تبدو عند مفترق طرق: الحدث لم ولن يتوقف عن الانتشار في باقي العالم العربي. وهي تضع نفسها ـــ المحطة والمملكة ـــ عند التزام بأن لا تغلق قاموسها المستحدث إزاء بقية الانتفاضات العربية، ويبدو أن ذلك لن يكون سهلاً.
لا تزال «العربية» تستخدم عبارة «مصر بعد مبارك» عنواناً لتغطية الحدث المصري. ربما وجدت في العنوان حلاً توفيقياً وموضوعياً للّغة. الموضوعية هنا بمعنى عدم التورّط في إطلاق الحكم على ما جرى في مصر. وعلى عكس وضوح المجزرة الليبية التي قضت على شرعية القذافي مهما كانت التطورات اللاحقة، يبدو الصراع المصري الداخلي الآن محتدماً بين أطراف لا تزال كل منها تمتلك الكثير من أوراق القوة والسياسة. الشعب والجيش وبقايا النظام السابق يمارسون رقصة خطرة فوق أرض ملغومة.
موقف «العربية» هنا قد يكون مبرَّراً للمرة الأولى في تمايز واضح عن موقفها المنحاز إلى نظام مبارك طوال الثورة؛ إذ أطلقت على الأحداث المصرية في بداياتها عنوان «مصر... الأزمة»، قبل أن يتحرك العنوان قليلاً مع اتضاح إصرار الثوار إلى «مصر... التغيير».
كل ما قيّد تغطيات «العربية» وعناوينها، كان هو نفسه الذي أطلق العنان لـ«الجزيرة». الدولة القطرية الصغيرة تحررت دوماً من تبعات المحاور. أحداث مصر وتونس وليبيا بدت فرصة لهذه المحطة كي تؤكد اتساقها مع نفسها، فساندت الثوار من دون أن تتوقع امتداد التأثير إلى البحرين. هنا أصيبت بأول ارتباك في تاريخها الإعلامي. مع ذلك، فمساندتها غير المشروطة لثورتَي تونس ومصر حررتها من الحاجة إلى إثبات أنها مع الشعب الليبي، فوضعت عنوان «ليبيا... انهيار جدار الصمت».
وبعدما قدّمت نفسها ذراعاً إعلامية لثورة تونس، واستحقت تسميتها «قناة الثورة المصرية» أثناء إطاحة مبارك، أمكنها أن تعود ـــ في تغطيتها لليبيا واليمن ـــ إلى عناوين مبتكرة لا تتوجس من أي اتهامات، على عكس «العربية» التي تقف مبدئياً ضدّ الثوار في أي شارع عربي.
من «ثورة شعب» إلى «الشعب ينتصر» في مصر وتونس إلى انتفاضة الليبيين، تبدو العناوين التلفزيونية موضوع جدل ونقاش لدى علماء الاجتماع والسياسة الذين يفضلون غالباً التمهل، ومنح التاريخ فرصته قبل إطلاق تسمية «الثورة» على ما يجري. ويطرح ذلك سؤالاً حديثاً من نوعه، عما إذا كان للثورة توصيف إعلامي يضاف إلى التوصيفَين الاجتماعي والسياسي، ثمّ الحكم التاريخي؛ إذ إنّ التاريخ هو علم دراسة الماضي. أما الميديا فهي فن إطلاق الأسماء. التاريخ ينتظر، الميديا لا يمكنها الانتظار.
محمد خير
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد