لغز والت ديزني بين أوربا العلمية وأمريكا الشعبية
هل يجوز عرض الرسوم المتحركة التي أنتجها السينمائي الشهير والت ديزني (1901-1966) في متحف باريسي مهم مثل «القصر الكبير؟ سؤال سيطرحه نقاد وصحافيون كثر في الأيام المقبلة، ويختلفون في الإجابة عليه، بعد افتتاح معرض مثير حول هذا الفنان في «المعبد» الذي استقبل منذ تشييده أبرز الوجوه والحركات الفنية التي عرفتها أوروبا في العصر الحديث. نموذجٌ للتسلية الشعبية السطحية، بالنسبة إلى البعض، قصّاصٌ عبقري، وفقاً للبعض الآخر، ها انه اليوم يدخل المتحف، وليس أي متحفٍ، ويُرقّى إلى مرتبة كبار الفنانين في تاريخ الفن الحديث. فهل من مبالغة؟
الجدير ذكره أولاً هو أن شهرة ديزني الواسعة التي ستساهم بسرعة في فرضه كأحد أبرز ممثلي الثقافة الجماهيرية، ستحجب في الوقت ذاته الظروف المثيرة التي انطلقت فيها مغامرته الفنية. فهذا الرجل الذي لم يكن مثقفاً بالمعنى العميق للكلمة وكان يخشى أن يُنظر إليه انطلاقاً من هذا الاعتبار، تمتع منذ بداية مساره بفضول وشغف أولئك الذين يتعلمون على ذاتهم. وثقافته المكوّنة من عناصر قليلة التجانس هي التي غذّت مختلف جوانب إبداعه، بينما قاده حدسه الفني غالباً إلى مناطق لا نتوقع عادة أن يبلغها مؤلّف رسوم متحركة.
ومنذ منتصف الثلاثينات، جمع ديزني جميع المعلومات الممكن الحصول عليها حول الفنانين الأوروبيين الذين يمكن لأساليبهم أن تناسب مشاريعه، وكان من الذكاء بحيث قام بتوظيف عددٍ مهم من الفنانين الذين كانت تتخطى معارفهم بكثير ثقافته المتواضعة، ومعظمهم من أوروبا، مثل السويسري ألبر هورتر والسويدي غوستاف تينغرين والدنماركي كاي نيلسن والهنغاري فردينان هورفاث والإيرلندي دايفيد هول. وبالفعل، دخل هؤلاء الفنانون المتعلمون في أرقى الأكاديميات الأوروبية إلى محترفاته وفي جعبتهم مهاراتهم الفنية التقنية (رسم، تلوين، نحت أو تزيين كتب) ولكن أيضاً التقاليد الجمالية الخاصة بموطن كل واحدٍ منهم. ولم يكن الفنانون الأميركيون الذين استقدمهم ديزني للعمل أيضاً في محترفاته، أقل مهارة من زملائهم الأوروبيين، ونذكر منهم جو غرانت المولع بفن دوميي، وفلاديمير تيتلا الذي كان تلميذ رودان، وإفيند إيرك المتخصص بالفن الفلمندي والإيطالي.
أبحاث ديزني الأولى انحصرت خلال فترة العشرينات في إتقان تقنية الرسم المتحرّك، فقرأ أهم الكتب المتوافرة حول هذا الموضوع وتوقف خصوصاً عند أعمال المصور البريطاني-الأميركي إدفيرد مويبريدج (1830-1904) وابتكارات الفرنسي إميل رينو (1844-1918) في ميدان الصورة المتحرّكة. وبعد مرحلة استيعاب التقنيات المتوافرة، لاحظ أهمية الأدب الأوروبي كمصدر مواضيع لا ينضب لأفلامه القصيرة. وبمساعدة الفنانين المحيطين به ونصائحهم، بدأ باقتناء أعدادٍ كبيرة من الكتب وشيّد عام 1934 مكتبة ضخمة لهذا الغرض داخل أحد محترفاته لا تزال موجودة إلى حد اليوم. ولن تلبث هذه المكتبة أن تمتلئ بسرعة بالمراجع الأدبية والفنية، خصوصاً بعد سفره إلى أوروبا عام 1935 لمدة ثلاثة أشهر حيث اشترى مجموعة ضخمة من الكتب (350) نعثر داخلها على نسخ مختلفة التزيين لحكايات إيزوب الخرافية ومغامرات بينوكيو (كولّودي) وقصص بيرو والأخوين غريم وكتاب «أليس في بلاد العجائب» (لويس كارول)... كما نعثر داخل هذه المجموعة على جميع الرسامين الأوروبيين الذين عملوا في مجال تزيين الكتب مثل غوستاف دوري ودوميي وغرانفيل وأرثور راكام ولودفيك ريختر وويلهايم بوش وهينريش كلاي وأتيليو موسّينو وشارل فولكارت...
ويحاول المعرض الحالي إلقاء الضوء على غنى مصادر وحي ديزني وتنوعها المذهل بغض النظر عن إنتاج المؤسسة التي تحمل اسمه ومن دون السعي إلى مقاربة شاملة لأعماله. فكثير من المشاريع التي حققها أهملت، مثل الأفلام الوثائقية أو العادية (بشخصيات واقعية)، بهدف التركيز على أفلام الرسوم المتحرّكة الطويلة التي تم انتجت تحت إشرافه الشخصي، أي من فيلم «الثليجة البيضاء والأقزام السبعة» (1937) وحتى فيلم «كتاب الغابة» الذي خرج بضعة أشهر بعد وفاته. وعلى أساس هذه المادة المحدودة (15 فيلماً)، أُعيد تشكيل مصادر وحي ديزني وترتيبها وفقاً لتسلسلها التاريخي، الأمر الذي يمنح الزائر فرصة الإمساك داخل هذه الأفلام بالروابط التي تجمع بين ثقافة أوروبا العلمية (savante) وثقافة أميركا الشعبية. ولهذه الغاية، تم، وللمرة الأولى، مقابلة الرسوم الأصلية لمحترفات ديزني والأعمال الفنية الأوروبية التي أوحت بها والتي تنتمي إلى الحقبة الممتدة من القرون الوسطى الغوطية وحتى السوريالية. وبالفعل، يتبين لنا داخل هذه الرسوم آثار فن غوستاف دوري ودوميي والرسامين الرومانسيين والرمزيين الألمان والرسامين الإنكليز الذي قلدوا الأسلوب الفني الإيطالي السابق لرافاييل، والرسامين البدائيين الفلامنديين والسينما التعبيرية الألمانية.
ويستحضر المعرض في بدايته خطوات ديزني الأولى مع ابتكاره شخصية «ميكي» (Mickey) داخل أول فيلم قصير بالرسوم المتحركة في تاريخ السينما. أما الصالات التالية فقد خُصصت تباعاً لمصادر ديزني الأدبية والسينمائية المذكورة أعلاه، ثم للمصادر التي أوحت له بديكور أفلامه وبالمشاهد الطبيعية الحاضرة في هذه الأفلام. ويتوقف المعرض خصوصاً عند التعاون المثير بين ديزني وسلفادور دالي عام 1946 حول مشروع فيلم «قدر» (Destino) الذي لن يرى النور إلا عام 2003، والذي نتج عنه نحو مئة لوحة يمنحنا المعرض فرصة مشاهدة عددٍ منها للمرة الأولى، قبل أن ينتقل بنا إلى التأثيرات التي خلّفها إنتاج ديزني على الفن الحديث والمعاصر.
وبالفعل، أثار هذا الإنتاج اهتمام الفنانين الغربيين باكراً، وبخاصة في الحقل السينمائي. فقبل إخراج فيلم «إيفان الرهيب» (1945)، اهتم السينمائي الكبير آيزنشتاين والموسيقار بروكوفييف بالعمل الذي حققه ديزني والموسيقار ليوبولد ستوكوفسكي في فيلم Fantasia. وعند منتصف الستينات، حوّلت حركة «بوب آرت»، ولو على خلفية نقدية، شخصيَات ديزني إلى أيقونات فنية. فمع أن أندي وارهول أراد من وراء تكرار شخصيتي ميكي ودونالد بشكل تسلسلي في عددٍ من لوحاته، نقد الثقافة الشعبية التي ينتميان إليها، مثلما فعل مع صورة مارلين مونرو وعلبة الفاصولياء، إلا أنه امتدح في العمق، وفي هذه اللوحات بالذات، المطاوعة الاستثنائية لرسم ديزني والتحوّلات التي لا تحصى لخطّه الذي يظهر كنتيجة لقابلية النسخ ولكن أيضاً كشرط لها.
أنطوان جوكي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد