صحافة الدكاكين والباعة الجوالين
الجمل ـ سعاد جروس: بعد أكثر من خمس سنوات على حلحلة طوق احتكار الصحافة السورية، ثمة واقعاً جديداً فرض نفسه، إلا أنه واقع مشوه يؤسس لصحافة ستبقى متأخرة النمو، طالما أن غالبية الصحف والمجلات الخاصة التي ولدت وتولد بصكوك غفران حكومتنا الغراء، هي في حقيقتها صحيفة واحدة، لا يميز بينها سوى الشكل والجهة الداعمة. وإذا كنا سابقاً نقول عن الصحف الرسمية الثلاث (واحد بثلاثة) فيمكن القول الآن عن الصحافة الخاصة( مائة أو مائتين بواحد)، ولعل أهم ما كسبته صحافتنا الخاصة هامش الحرية الواسع في تعميم ثقافة الفرفشة والنعنشة وجرائم الشرف الرفيع.
فالنقص الشديد في أوكسجين الحرية، يعتبر العامل الرئيسي في التشوهات التي تعاني منها مهنة الصحافة في بلادنا، تضاف الى تراكم الأمراض المزمنة الناجمة عن الانقطاع الطويل للصحافة الخاصة عن الحياة، الذي أفرز جملة ممارسات خاطئة تحولت بالتقادم الى تقاليد راسخة، وبتحديد أكثر فإن تفرد الصحافة الرسمية بالساحة السورية لمدة طويلة، أنتج نموذج رسمي لممارسة المهنة، وكل خارج عنه يصنف ضمن خانة الصحفي المشاغب، أو الجريء ، وهذا أسوأ ما جناه الصحفي السوري، رغم اعتبار هذا التصنيف امتيازاً يمنح للصحافي الذي يتجاوز القوالب النمطية والخطوط الحمراء ، لكنه تعبير أيضاً عن غياب المهنية، إذا لا يوجد في أي بلد يتوفر فيه شيء من الديموقراطية مثل هذا التصنيف، فالمعيار الحقيقي للصحافة ليس بجرعة الحرية التي يقتنصها الصحفي، وإنما بجرعة المعلومات الصحيحة التي يضخها في المادة الإعلامية، وبدرجة أمانته للمهنة وللرأي العام. أما الشجاعة فتتمثل في نزاهة كشف الحقائق، وقد قدم الصحافي الأمريكي سيمور هرش أمثلة صارخة على هذه الشجاعة في كشفه انتهاكات "سجن أبي غريب" ومؤخراً "مخطط العدوان على لبنان" ، والتي أكسبته مصداقية كبيرة . هكذا تجارب تكاد تنعدم في مجتمعاتنا العربية وليس فقط في سوريا، بسبب التعقيدات الكثيرة التي تواجه عمل الصحفي في تحصيل المعلومات ، إلا أنه في بلدنا هناك مشكلة أكبر من شح المعلومات وهي صعوبة نشر وتداول ما قد يحصله الصحفي باجتهاد خاص، لقلة منابر النشر من جهة ولغياب قانون يحمي الصحفي من جهة ثانية.
وهنا لا بد من الإشارة الى مسألة القانون التي ينظر إليه الممسكون بزمام الأمور على انه لضبط الصحفي وأداة لمعاقبته إذا خرج عن الصراط الرسمي، فيما يراه الصحفي سيفاً مصلتاً على عنق قلمه، إن لم يكن على عنقه، والتجربة أكدت أن قانون المطبوعات لا يستخدم وإذا استخدم فلا يتجاوز استخدامه كأداة للقمع. إذ أن المشكلة ليست في القانون رغم علاته الكثيرة بل في استخدامه، ولذلك لا نتوقع في حال تم تعديله أن يتغير بالأمر شيئاً، طالما نظرة السلطة الى الصحفي لم تتغير، فهي لا يمكنها التعامل معه إلا بصفته "أجير بكعكة"، بمعنى مستخدم ينقل المعلومات التي تلقم له، ويتلقى مقابل ذلك أجراً معلوماً بدء من ثمن المادة الصحفية 500 ليرة سورية أو الراتب الضحل ومروراً بمكاسب دسمة مهمات وبيت وسيارة وليس انتهاءً بالامتيازات الاستثنائية من مناصب وغيرها، وكلما كان الصحفي المرضي عنه ناقلاً جيداً ، ومجتهداً في التلميع نال المزيد من العطايا والهبات. وعلى هذا الأساس فالصحفي لا يحتاج الى المهنية ولا الى موهبة خاصة، بل إذا وجدت قد تعذب ضمير صاحبها، لذا ليس من الضروري أن يكون صحفياً بالأساس ، وبإمكان كل من فك الحرف أو كتب قصيدة مديح عصماء أن يصبح رئيس تحرير وحتى مدير عام، لأن كل الأدوات اللازمة لممارسة الصحافة في بلادنا قد يكون لها علاقة بكل شيء إلا الصحافة، يعني ممكن أي يكون خبير بتسليك البلاليع قادر على التنظير للعملية الإعلامية ويستحق تسلم موقع إداري أو إصدار صحيفة أكثر من أي صحفي موهوب.
ومن خلال هذا النمط في التعاطي مع "مهنة المتاعب" تم تخليصها أولاً من المتاعب ، وتحولت الى مهنة آمنة ومهبرة للانتهازيين والوصوليين والمرتزقة الذين وفدوا إليها وتربعوا على عرشها في غفلة من الزمن استمرت لعدة عقود ، كانت كفيلة بخلق واقع مشوه نقطف ثماره المرة مع كل أزمة، وهو الواقع الذي استعصى على الحل ، لأن الحاصل على الامتيازات لن يسمح بتهديد مصالحه، من قبل صحفيين موهوبين أو ناشئين يحلمون بعودة الروح الى الصحافة السورية، كما أن السلطة مازالت بغنى عن طويلي اللسان حتى لو كانوا مهنيين، لذلك لا منافذ أمام مارقي الصحافة سوى متابعة الزحف الى الصحافة الخارجية أو الالكترونية التي تتلقفهم كالأرض العطشى كونهم عمالة رخيصة أولاً وموهوبين ثانياً، وينفعون في التنويع على وتر الرأي والرأي الأخر .
وضع الصحفي لن يتحسن مالم يتغير واقع الصحافة، والذي يعتمد أساساً على إرادة سياسية . فإما سوريا بحاجة لصحافة أو لا ، وإذا كان لا ؟ وكما هو ظاهر لغاية الآن، فإننا على موعد مع مزيد من صحافة الدكاكين، ومزيد من الباعة الجوالين للمواد الصحفية. وعلى مبدأ حمرة وريانة ، وأصابيع البوبو ولا تشلحو بيشلح لحالو .
الجمل
إضافة تعليق جديد