«مدينة الخسارات والرغبة» لمحمود شقير..شخصيات تخرج من الركام بكل بهائها
عبثاً ستكون كلّ محاولة في تأطير كتابات الكاتب الفلسطيني محمود شقير، تحت يافطة معينة. وعبثا ستكون محاولتنا البحث عمّا إذا كانت قصصا قصيرة، أو نصوصا مفتوحة، أو متواليات سردية، قد تملك لحمة ما، تجد خيطا رفيعا يجمعها في العمق لتشكل في النهاية، نوعا من رواية. لكن ما ليس عبثا، هو أن نقرأ هذا الأدب الجميل والمدهش، الذي يعرف كيف يوصل إلينا هذه التفاصيل الأثيرية التي تشكل حياة كاملة تنساب أمامنا، لتشدّنا إليها، وكي لا تترك لنا أيّ مجال، بالمرور إلى جانبها مرور الكرام.
نحن أمام كتابة لا تخص إلا كاتبها، أقصد، أنها كتابة لا نجدها عند أيّ كاتب آخر. بهذا المعنى، نجح محمود شقير، في أن ينحت تفرده الخاص، وكتابته الخاصة، التي عرف كيف يبني عمارتها بطوابقها المتعددة، من كتاب إلى آخر. عمارة تمتدّ اليوم إلى عشرات الأعمال (بعيدا عن تلك التي كتبها للأطفال والفتيان) التي صاغت رؤية ما للمكان الذي تنبع منه، وللزمن الذي تتحرك ضمن أطره، كما للشخصيات التي تمرّ بها. شخصيات تأتي في أغلب الأحيان، من هامش العيش هذا، أي من هامش الحياة، التي لا ننتبه لها في العادة، وبخاصة إذا كنا مأخوذين بلعبة القضايا الكبرى والإيديولوجيا الرنانة المعتمدة على شعارات كبيرة. وربما يذهب الأمر إلى ابعد من ذلك، القضايا الصغيرة هي الأساس، وهي التي تؤسس لكل هذه الحياة الكبيرة.
منفى داخلي
شخصيات محمود شقير، هي تلك الساكنة في تعبها، أي الساكنة في تفاصيلها الصغيرة، وهي التفاصيل التي تشكل الحياة الحقيقية والواقعية في نهاية الأمر. إنها تتحرك فوق هذه الأزقة الصغيرة، في هذه المصائر العادية التي تفتح أمامنا نوافذ للحلم والرغبة، التي تفتح حيوات وحيوات، لا نهائية، نُشرف منها على عالم يتشكل من السكون والصمت والإقصاء القسري وحتى الإلغاء من قبل الآخر. لكنها في العمق، هي شخصيات لا تصنع مصائرها الخاصة فقط، بل مصائرنا كلنا، من هنا نفهم مثلا هذه الجملة التي يستشهد بها شقير – في مفتتح كتابه الأخير «مدينة الخسارات والرغبة» (منشورات نوفل، بيروت) – للكاتب الأرجنتيني الكبير خوليو كورتاثار (من كتاب «كلّ النيران») الذي يقول: «ينتابني شعور بأننا، إلى جانب مصائرنا كأفراد، نشكل أجزاء من أشخاص لا نعرفهم».
جملة، إن دلت على شيء، فهي تدل على هذا المشروع الكتابي بأسره، تشير إلى الفكرة الخفيّة التي تنبني عليها هذه النصوص. ما يفعله محمود شقير، في كتابته هنا، «تنقية» هذه الشخصيات من الركام المحيط بها، ليخرجها إلى العلن، وليظهر لنا كم أن المصائر تتقاطع. وكأننا هنا أمام مقاطع من سيرة ذاتيّة «مقنعة»، أقصد في هذه اللعبة الثنائية، المزدوجة، لا يكتب محمود شقير فقط «للتوصيف» بل يكتب هذا التماس العميق بينه وبين شخصياته، التي تصبح بهذا المعنى «حُجّة» كتابية للدخول أكثر إلى أعماقه هو.
علينا أيضا أن نفهم جملة كورتاثار ببعدها الآخر. فهذا الكاتب الذي عاش غالبية حياته منفيا، وجد في تقاطعاته مع الشخصيات الأخرى، رجعا لصدى بعيد أعاده إلى ذكرى البلاد، بلاده هو. الكتابة عن هذه الشخصيات، عند محمود شقير، ليست أيضا سوى هذا الرجع للصدى، عن ذكرى بلاد، يعيش «منفاها الداخلي»، وهو باستعادته لهذه التفاصيل، يظهر لنا بلدا آخر يعتاش من قوته اليومي، المتمثل بهذه الشذرات الحياتية الذاهبة هنا وهناك. هي حياة مدينة القدس اليومية التي لا ينتبه لها إلا الغارق فيها حتى أقصاه.
كاتب الخسارات
مرة أخرى، يكتب محمود شقير عن مكانه المفضل. فكما رسم خطوطا متعددة في كتبه السابقة عن هذه المدينة، نعود لنجد كل هذا البهاء، في كتابه الأخير «مدينة الخسارات والرغبة». هي الخسارات التي نفتقدها لحظة إثر أخرى. لكن ومع ذلك كله، تبقى هذه الرغبة في الحب، الرغبة في العيش، والرغبة في الاستمرار، إذ لربما كانت الكتابة عنها، ليست «عملية إنقاذ» أخيرة لها من الاندثار، بل هي المفصل الأساس لتشييد حياة وعالم، أو بالأحرى لتذكيرنا بأن عالماً حيا لا يزال واقفا في مكانه، كشاهد على مكان «يندثر» بفعل العديد من العوامل. وهنا يكمن «درس» هذه الكتابة، أي أن تقترب من القضية الكبيرة، بدون أن تسقط ولو للحظة، في لعبة الشعارات التي أثقلت كاهل الأدب.
ثمة الكثير من الحكايات التي يلتقطها محمود شقير في كتابه هذا، كما في كتبه الأخرى بطبيعة الحال والتي تنتمي إلى الشريان نفسه، على الأقل فيما قرأت من مثل «صورة شاكيرا»، و«ابنة خالتي كوندوليزا»، «باحة صغيرة لأحزان المساء»، و«احتمالات طفيفة» و«القدس وحدها هناك»... حكايات، لا اعرف لماذا أجدها تشبه مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي نجدها في قلب صندوق عتيق، كنا نسيناها في غفلة من الزمن. لكن حين نفتحه ونبدأ بالنظر إليها، تقفز إلينا هذه الذكريات التي تفوح منها، والتي لا يمكن أن تختفي على الرغم من مرور السنين. لكنها هنا، هي أيضا ذكريات اللحظة الراهنة، أي أن الكاتب يلتقط لها صورا خاصة به، كي يضعها لاحقا، في صندوقه القديم، وسيأتي أحد فيما بعد، ليعيد النظر إليها، كي يتنشق كل هذه الذكريات. وبانتظار ذلك، لا شيء ممكناً آخر، سوى أن نقرأها نحن، لنكتشف أننا لسنا أمام كاتب الخسارات، بل أمام كاتب هذه الحيوات الجميلة.
إسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد