ستيفان هيسل يواجه حرباً ضروساً على كتابه «إغضبوا»
لأسباب قد لا تبدو واضحة للبعض، تحول كتاب ستيفان هيسل «إغضبوا»، في نهاية العام الماضي (2010) كتابا حدثا في العاصمة الفرنسية، وفي بعض البلدان الأخرى التي ترجم الكتاب إليها. إذ تجاوزت مبيعاته نصف مليون نسخة، في شهر واحد، بينما كان الأمر لا يوحي بأنه سيكون في قلب نقاش ثقافي طويل، لم ينج منه كاتبه من الهجوم العنيف من بعض المؤسسات اليهودية، ولولا أن الكاتب يهودي وأحد المقاومين السابقين ضد النازية، لما كان ليخرج من ذلك بأقلّ الأضرار الممكنة.
فهيسل هو فرنسي ولد في برلين من أب يهودي. التحق بالمقاومة ضد النازية قبل أن يلقى القبض عليه ويرسل إلى معتقل بوخنفالد خلال الحرب العالمية الثانية. في عام 1948 كان أحد المشاركين في صوغ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، قبل أن يعين سفيرا لفرنسا في بعض الدول.
بدأت القصة بأسرها حين أصدر هيسل كتيبا صغيرا يقع في ثلاثين صفحة، عبارة عن «موقف غاضب» ـ إذا جاز القول ـ يعلن فيه اتهاماته لحالات الغنى المتصاعد عند البعض الذين بدأوا يحكمون العالم اقتصاديا، ليشكلوا طبقة متفردة تدير شؤون الجميع، كما هاجم «النقص في الإنسانية» الذي تتحلى به الحكومات الغربية تجاه المهاجرين غير الشرعيين الذين لا يملكون أي أوراق رسمية، كما تطرق إلى دكتاتورية اقتصاد السوق والمكتسبات الاجتماعية التي سبق أن حصلت عليها الثورة مثل التقاعد والضمان الاجتماعي، اللذين حاولت الحكومة الفرنسية إلغاءهما.
غزة سجن كبير
في هذا الجزء، لا شيء غير عادي بعد في طروحات هيسل، إذ إنها من الموضوعات التي يتطرق إليها الجميع في فرنسا، من كتاب ومفكرين ومثقفين، كما أفراد الطبقات الاجتماعية المختلفة. لكن الذي اثار حفيظة البعض هو «جرأة» المقاوم الفرنسي القديم على التطرق إلى موضوع، يبدو كأنه أصبح نوعا من «تابو» لا يجوز المساس به أو حتى الاقتراب منه. «خطيئة» هيسل المميتة أنه طالب بالتالي: «مقاطعة البضائع الإسرائيلية التي تدخل إلى فرنسا، والسبب في ذلك اعتماده على الحرب التي دارت في غزة عام 2009، منددا بانتهاكات إسرائيل لحقوق الشعب الفلسطيني، وما يتعرض له الفلسطينيون من قمع وإذلال.
لم تتأخر ردود الفعل على كتيب هيسل، إذ وجد المقاوم القديم نفسه، في وجه حرب ضروس وأمام شكوى قضائية رفعها ضده سامي غزلان، مدير المكتب الوطني المعادي للسامية، كما أمام 30 قضية أخرى، تدور في الفلك نفسه. من هذه القضايا الأخرى، ما كتبه يومها بيار أندريه تاغييف على صفحته في «الفيسبوك» بأننا «حين نجد أن ثمة أفعى سامة مسلحة بوعي كبير مثل هذا المدعو هيسل، نفهم عندها لماذا نشعر بالغربة وبأن نسحق لها رأسها». صحيح أن حساب تاغييف على الفيسبوك تم إقفاله لكنه كان وجد الوقت ليعلن: «كان عليه بالتأكيد أن ينهي حياته بطريقة أكثر لباقة من دون أن ينادي بكراهية إسرائيل، لأنه بذلك ضم صوته إلى صوت أسوأ المعادين للسامية».
هكذا، بين ليلة وضحاها، تحول المقاوم للنازية إلى «معاد للسامية» فقط لأنه قال (ص 28): «أما غزة فهي سجن كبير غير مسقوف لمليون ونصف مليون من الفلسطينيين. سجن ينتظم الناس فيه من أجل البقاء على قيد الحياة. وما يتردد في ذاكرتنا ويساورها أكثر من مشاهد التدمير المادي التي عايناها، مثل تدمير مستشفى الهلال الأحمر بـ«الرصاص المسكوب»، هو سلوك الغزاويين، وطنيتهم، وحبهم للبحر والشاطئ واهتمامهم الدائب براحة أطفالهم...».
لم يرق هذا الكلام للمؤسسة الرسمية، كما لم يرق لها ما قاله أيضا (في الكتاب عينه): «وأعتقد يقينا أن الإرهاب غير مقبول، لكن يجب الاعتراف بأنكم إذا كنتم محتلين بوسائل عسكرية متفوقة للغاية على أسلحتكم، لا يمكن لرد الفعل الشعبي أن ينحصر في اللاعنف».
بالتأكيد لم يكن يطلب هيسل، وهو الآتي من سياق تاريخي معين، إلغاء دولة إسرائيل، بل كل ما فعله الإشارة إلى «حق شعب ما في رفض الاحتلال»، إذ عاد وقال في حديث صحافي (منشور على موقع اليوتيوب) إنه يأمل في أن يتعايش الفلسطينيون والإسرائيليون بسلام لكنه يعتقد أن مسؤولي القدس لا يرغبون في ذلك: «ليس لدى الإسرائيليين اهتمام حقيقي بالسلام. إنهم يرغبون في الاحتفاظ بالمستوطنات، يريدون إبقاء الاحتلال. وهذا ما يخالف القانون الدولي ومعاهدات جنيف. أنا مدافع شرس عن القانون الدولي الذي تلتهمه إسرائيل».
نقاش آخر
كلام لم يسر بالطبع اللوبي الصهيوني الإسرائيلي الذي صب جام غضبه على الكاتب، حتى إنه منع المؤلف من إقامة ندوة يتحاور فيها مع بعض المفكرين والفلاسفة، في دار المعلمين العليا، ليشرح فيها موقفه، وكان وراءها كل من المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا كما كل من آلان فينكيلكورت وبرنار هنري ليفي.
قضية المنع هذه تفاعلت بدورها، إذ وجد باسكال بونفياس «أليست الرغبة في منع حوار اعترافا بالضعف؟»، ليناقش القضية معتبرا أن كلا من ليفي وفينكلكورت بتأييدهما منع انعقاد الندوة «يصنفان نفسيهما في فئة ممارسي الرقابة». كما صدر بيان وقعه الفلاسفة ألان باديو واتيان باليبار وجان رانسييه كما مثقفون فرنسيون آخرون نددوا فيه بهذا الإلغاء، معتبرين أنه «منذ زمن بعيد والمجلس اليهودي وبعض الشخصيات المرتبطة به يمارسون ألوان الافتراء والتخويف بحق المناضلين، فنانين وجامعيين يهوداً وإسرائيليين، بجريرة معارضة انتهاكات القانون الدولي التي ترتكبها دولة إسرائيل..».
كتاب هيسل هذا، يصدر اليوم بالعربية عن منشورات الجمل، بترجمة من صالح الأشمر، ويضيف إليه الناشر مجموعة من المقالات التي أعدها حول القضية الكاتب العراقي كاظم جهاد، الذي أعاد قراءة الترجمة قراءة أخيرة، لنكون بذلك ليس أمام النص فقط، بل أمام الخلفيات أيضا التي صاحبت هذا النقاش وهذا المنع، لنتعرف فعلا على هذه «الديموقراطية الغربية»، التي لا تتناسى إلا مصالح غيرها. لهذا نحن أمام عمل، عدا كونه مهماً، يستحق فعلا أن نقرأه، لنفهم أكثر خلفيات هذا الحدث – القضية، الذي أسال الكثير من الكلام، ولعله الآن بالعربية، يثير نقاشا آخر.
إسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد