المواقع الآثرية السورية: بعثات اعتذرت.. مواقع خربت.. تلال جرفت وأخرى سرقت
تزخر أرض سورية بتراث حضاري إنساني، دللت عليه أعمال المسح والتنقيب الأثري التي أجريت منذ خمسينيات القرن الماضي، وأثبتت نتائج تلك الأعمال وجود الإنسان على الأرض السورية منذ العصور الحجرية الحديثة، والتقارير الصادرة عن بعثات التنقيب تؤرخ وجود الإنسان على أرض سورية في العصر الحجري الوسيط، ولغاية الفترات الإسلامية المختلفة من خلال دراسة ما خلفته تلك المجتمعات من مبان سكنية وإدارية ودينية وموانئ، وأيضاً ما عثر عليه من لقى أثرية نتاج صناعات محلية أو مستوردة من الحضارات الأخرى المجاورة أو البعيدة عنها، ومازالت تلك الأعمال الميدانية مستمرة من أجل إلقاء المزيد من الضوء على تلك الحضارات، وأيضاً إبراز وتبيان مدى مساهمة تلك المجتمعات في بناء الحضارة الإنسانية الإقليمية والعالمية، كل هذه الحضارة التي نفخر بها تتعرض اليوم لحرب شرسة من تخريب وسرقة وسطو ونهب وضياع بهدف محو الهوية الحضارية لسورية اليوم.
توقف عمليات التنقيب
على مدى موسمين أثريين 2011- 2012، تتعثر أعمال التنقيب في المواقع الأثرية في المحافظات السورية التي تقوم بها البعثات الوطنية والأجنبية والمشتركة بسبب الأحداث الأمنية التي تشهدها المحافظات السورية، ما أدى إلى اعتذار البعثات الأثرية عن متابعة أعمال التنقيب والترميم في المواقع الأثرية، ناهيك عن إيقاف آلاف العمال العاملين مع بعثات التنقيب عن العمل ما شكل أعداداً إضافية في صفوف العاطلين عن العمل.
وعن تعثر العمل في المواقع الأثرية أكد معاون مدير التنقيب في المديرية العامة للآثار والمتاحف أحمد فرزت طرقجي توقف العمل في كل المشروعات الأثرية التنقيبية من جراء الأحداث الأمنية التي تسببت في اعتذار الكثير من بعثات التنقيب الأثرية الأجنبية عن القدوم إلى سورية ولاسيما أن عمل هذه البعثات يتوضع في المحافظات الساخنة كحلب وإدلب وحماه ودرعا وغيرها. وقال طرقجي لـ«تشرين»: إن إجمالي عدد البعثات العاملة في سورية /110/ بعثات تعمل في 110 مواقع أثرية، وهذه البعثات تقسم إلى ثلاث فئات، منها البعثات الوطنية التي كوادرها من المديرية العامة للآثار والمتاحف وكذلك تمويلها، وأما البعثات الأجنبية، وهي تعمل ضمن تراخيص معينة تكون كوادرها من الجهة المرسلة (معهد- جامعة- شركة... الخ) وهذه البعثات ترافقها المديرية العامة خلال عمليات البحث والتنقيب.
وأما البعثات المشتركة فتكون من الجانبين الوطني والأجنبي والتمويل كذلك الأمر... وعن مشروعات التنقيب عن الآثار قال طرقجي: إن كل مشروعات التنقيب التي تقوم بها بعثات سورية وأجنبية ومشتركة، والتي تزيد على مئة مشروع تنقيب، توقفت، وذلك بسبب الأحداث والرغبة في الحفاظ على الآثار في ظل الوضع الأمني الحالي.
غير أنه أكد استمرار العمل في كل مشروعات التنقيب التي تنفذها بعثات أجنبية ينتمي أغلبها إلى دول أوروبية.
وقال: أغلبية البعثات المشتركة والأجنبية كانت لديها النية بالقدوم ومتابعة أعمال التنقيب في المواقع الأثرية المعتمدة، لكنها اعتذرت عن ذلك بسبب الأوضاع الأمنية.
وأضاف: البعثات الوطنية عام 2011، عمل قسم منها في مختلف المحافظات السورية وحققت نتائج جيدة، إلا أن الظروف الأمنية حالت دون تحقيق المزيد من أعمال البحث والتحري والتنقيب.
ولفت إلى أنه في عام 2012 الحالي لم تصل إلى المديرية العامة أي بعثة سوى طلبين من قبل بعثة مشتركة، وأخرى أجنبية وذلك للتنقيب في محافظتي حماة وطرطوس، لكن الجهات المختصة لم تمنح الموافقة بسبب الظروف والأوضاع غير الآمنة في مواقع التنقيب.
وأشار إلى أن البعثات الوطنية خلال الموسم عملت في بعض المحافظات، وبعضها الآخر لم يعمل، مشيراً إلى أنه جرى تخفيض الموازنة المرصودة لأعمال التنقيب.
وبيّن أن توقف البعثات الأثرية عن عمليات التنقيب يؤدي إلى توقف آلاف من العمال عن العمل، وبمعدل وسطي يقارب الـ/5/ آلاف عامل في كل محافظة لمدة شهرين وأحياناً ثلاثة ويتقاضى العامل الواحد راتبا شهريا 12- 13 ألف ليرة، وقال في بعض المحافظات، كالحسكة وإدلب وديرالزور والرقة، يتهافت العمال للعمل لدى البعثات الأثرية.
وكان طرقجي قد أشار إلى أن التأخر في عمليات التنقيب، لا يؤثر سلباً في المواقع وإنما يكون التأثير في النواحي الإنشائية (تدمر- أفاميا) التي تجري فيها أعمال الترميم فالانقطاع عن الترميم يساهم في تراجع الموقع الأثري.
وقال: على الرغم من أن معظم المواقع الأثرية خاضعة لحراس من قبل المديرية العامة، لكن هؤلاء الحراس على حد قوله تعرضوا للتهديد بسبب حملهم السلاح، وهذا ما جرى في تدمر، ما اضطرهم إلى تسليم السلاح للجهات المختصة خوفاً على أرواحهم، مشيراً إلى أن معظم المواقع الأثرية تعرضت للاعتداء، سواء تلك التي تجري فيها أعمال تنقيب أم تلك التي لاتزال بكراً.. وبيّن أن اللصوص قاموا بنهب الكثير من المواقع والأمكنة الأثرية (الرقة والحسكة)، وخربوا أكثر من تل أثري، حيث جرى تجريف التلال بقصد إقامة السواتر الترابية.
ولفت إلى أن المديرية العامة للجمارك قامت بمصادرة أعداد كبيرة من القطع الأثرية التي تمت إعادتها إلى المديرية العامة للآثار والمتاحف.
اعتراف صريح
اعتراف المديرية العامة للآثار والمتاحف بأن متاحف ومواقع ومخازن أثرية عديدة في مدن سورية تتعرض للسرقة، أو لأضرار، خلال الأحداث الأمنية 2011- 2012، يدلل على أن المخزون السوري في خطر، وعلى إثرها قامت وزارة الثقافة ممثلة بالمديرية العامة للآثار والمتاحف بالتعاون مع المجتمع الأهلي بوضع خطة متكاملة لحماية جميع المتاحف الأثرية، من حملات أمنية، وطوارئ، وتشديد المراقبة من خلال وضع كاميرات في الأماكن الأثرية، ونشر العناصر البشرية للحفاظ على الآثار السورية من السرقة.
وقالت مصادر: إنه تم العثور على عدد من القطع الأثرية عن طريق الجمارك، ووضعت في أماكنها في المتاحف والمخازن الأثرية، وتم تشديد الحراسة عليها من قبل رجال الأمن. كما أعلنت المديرية العامة عن سرقة للقطع الأثرية السورية التي سرقت خلال العام الماضي والحالي من المواقع والمتاحف والمدن الأثرية، للمساعدة في استردادها، حيث تهدف هذه القائمة إلى مساعدة الجمارك، والشرطة، وحائزي القطع الفنية والتراثية، والمتخصصين في هذا المجال، في التعرف على القطع التي خرجت من سورية بطرق غير مشروعة، إضافة إلى أنه تم ترميم جميع القطع الأثرية التي كانت قد كسرت أثناء هجوم اللصوص على المواقع والمراكز الأثرية.
سرقة وتخريب
من يطلع على الواقع الأثري عن كثب، يلاحظ أن الأحداث الأمنية ساهمت بشكل كبير في تخريب ثروة أثرية كبيرة كانت ولاتزال بلادنا تعلق عليها آمالاً كبيرة، فقد حذّر خبراء الآثار من مخاطر التدمير والنهب المحدقة بالكنوز الأثرية في سورية، بما فيها آثار مدينة تدمر والآثار اليونانية والرومانية في أفاميا، بسبب الأحداث.
وحسب مصدر مطلع فإن أكثر الآثار تعرضاً للخطر، تلك المتوضعة في مناطق ساخنة، حيث نشطت فيها حركة سرقة القطع الأثرية من المتاحف ومواقع الحفريات.
وكانت المديرية العامة قد بيّنت أن العديد من المواقع قد تعرضت للتخريب والسرقة والسطو، وهذه المواقع هي ضمن مواقع التراث العالمي التي تقع في مدن (دمشق وحلب وبصرى وقلعة الحصن وصلاح الدين وموقعي تدمر والقرى المنسية في محافظة إدلب). ويذكر أن مدينة تدمر الأثرية والى جانبها المدن المنسية في شمال سورية في إدلب، تعرضت للتخريب، كما أن متحف معرة النعمان الذي يضم أكثر من ألفي قطعة أثرية تعرض للسطو المسلح، لكن جهود الأهالي في المعرة حالت دون ذلك، ناهيك عن مهاجمة حراس المواقع الأثرية في جبل الزاوية وسرجلا والمناطق المحيطة بجبل سمعان.
وقالت: إن متحف حماه تعرض للسطو والسرقة إذ سرق منه تمثال ذهبي صغير الحجم يعود للفترة الآرامية إضافة إلى بعض اللقى والمقتنيات الأثرية الموجودة في خزائن المتحف... وقلعة شيزر ومدينة أفاميا شهدتا تنقيباً سرياً وتخريباً ونهباً وكذلك غيرهما من المواقع الكثيرة التي تعرضت لتلك الأعمال.
ويصل عدد المواقع الأثرية المفتوحة في سورية إلى ما يقارب 4 آلاف موقع تصعب حراستها.
جرأة
مصادر شرطية في العديد من المحافظات التي شهدت مواقعها الأثرية أعمال التخريب والسطو المسلح أكدت أن سارقي الآثار، أصبحت لديهم جرأة غير مسبوقة حيث إنهم يقومون بالحفر في المناطق الأثرية الشهيرة وفي مواقع بارزة وهناك من يقوم بالحفر في المواقع القريبة من الأماكن الأثرية الرئيسة فيما يقوم البعض الآخر بالحفر في المناطق التي لاتزال بعد خارج أعمال البعثات الأثرية ففي إدلب على سبيل المثال تمكنت الجهات المختصة من إلقاء القبض مؤخراً على 15 شخصاً من الضالعين بعملية حفر ونبش المواقع الأثرية في المحافظة أثناء محاولتهم سرقة بعض الآثار في منطقة حارم 50 كيلومتراً شمال مدينة إدلب في موقع بنقوسا في جبل باريشا الأثري، وقالت مصادر: إن الأشخاص الذين ألقي القبض عليهم متلبسين في الموقع المذكور ينتمون إلى محافظات حماه وحمص وريف دمشق وإدلب كشفوا خلال التحقيق معهم أنهم قاموا بتصوير الكتابات الموجودة في الموقع الأثري وعرض تلك الصور على خبير اثري في ريف دمشق أكد لهم بعد ترجمة تلك الكتابات أن هناك في الموقع لقى أثرية ثمينة وبناء على هذه المعلومات قامت عناصر العصابة بالحفر في الموقع المشار إليه أكثر من مرة، باحثين عن اللقى الأثرية الثمينة، حيث تم رصد تحركاتهم عند ممارستهم عمليات النبش والبحث، مستخدمين الصواعق وأدوات الحفر الكهربائية والأسلحة لمواجهة أي طارئ، وقد تمت مصادرتها جميعاً وقدمت معهم للقضاء.
إشارات ضوئية
توقف البعثات الأثرية عن أعمال التنقيب أدى إلى تراجع عائدات السياحة التي تمثل مصدراً من مصادر الدخل القومي، ولاسيما بعد اندلاع الأحداث الأمنية في المحافظات السورية، أدى إلى نشوب الأزمة المالية لدى أصحاب المنشات السياحية.
يشار إلى أن السياحة تعتمد في ميزانيتها على الدخل الذاتي من الآثار وذلك من خلال الدخل التي تدره كل من المتاحف والمواقع الأثرية في سورية عند فتحها أمام السياح والمعارض الأثرية التي تتم إقامتها خارج البلاد.
ويذكر أن الأحداث الأمنية أدت إلى توقف العمل في كل المشروعات الأثرية أهمها مشروع الترميم والتنقيب في موقع إيبلا في محافظة إدلب الذي تعرض للنهب.
على قائمة التراث العالمي
منظمة اليونسكو كانت قد أدرجت ستة مواقع على لائحة التراث العالمي وهي أحياء دمشق القديمة، وحلب القديمة، وقلعة المضيق وقلعة الحصن، ومدينة بصرى القديمة، ومدينة تدمر، والقرى المنسية الأثرية في محافظة إدلب.
وعن إدراج المدن المنسية في إدلب على قائمة التراث العالمي، أشار ميمون فجر- مدير السياحة في إدلب إلى أن هذا المشروع يسهم في تفعيل الجانب السياحي لهذه المواقع والتي تقف شاهداً حضارياً على ما تتميز به هذه المنطقة من إرث حضاري وغنى متميز، مشيراً إلى أن هذه المواقع تضم خمسة تجمعات لقرى أثرية.
خوف ورعب
خلال الزيارة التي قمنا بها إلى المديرية العامة للآثار والمتاحف وجدنا في كلام كل من التقيناه وعيون كل من حاورناه، أن هناك شعوراً بالرعب وخوفاً حقيقياً على آثار سورية، وهي تسعى جاهدة لمنع عمليات الاعتداء على المواقع الأثرية من نهب وتخريب وسرقة وتنقيب سري وغيره مما يطول الحضارة والتاريخ السوري.
وبالفعل كانت الآثار السورية قد عانت وتعاني كثيراً من موجات الإرهاب التي عاشتها وتعيشها المدن السورية خلال الأشهر الماضية، فقد استغلوا هذه الأماكن النائية الخالية من السكان وجعلوها مخبأ مناسباً لهم، يمكنهم من التحرك ومن مقاومة رجال حفظ النظام ومن الانقضاض على القرى الآمنة، ولم يقتصر الأمر على استغلال المكان لكنه امتد إلى التخريب والتدمير، ولعل أكبر مثال على ذلك هو ما حدث للعديد من المواقع الأثرية، وموقع مملكة إيبلا اكبر دليل على ذلك هذه المملكة التي سطعت مكتشفاتها في جميع أنحاء العالم إذ بينت المحفوظات الملكية في مدينة إيبلا تعود إلى النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، نصوصها مكتوبة بالخط المسماري وبلغة جديدة لم تكن معروفة سابقًا وهي لغة إيبلا التي عرفت وانتشرت قبل حوالي خمسة آلاف عام.
حماية الآثار مسؤولية جماعية
بما أن حماية الممتلكات الثقافية والحضارية تحتاج إلى تضافر جهود الدولة السورية بأجهزتها وإداراتها المختلفة ودعمها لقطاع الآثار، مع همة المجتمع المحلي الذي يعول عليه من خلال وعي المواطن، فإننا نأمل كذلك في أن يصبح قطاع الآثار في بلادنا شأناً ثقافياً لا يقتصر على من يشتغلون في هذا المجال وعلى ثلة من المثقفين الذين يحسون بأهمية الموروث الثقافي والحضاري لبلادهم، بل يجب أن يحس المواطن بأهمية الآثار، كونها المعبر المادي عن تاريخه الحضاري ولهذا فإنه يجب أن تكون هناك خطة طموحة تهدف إلى توعية الفرد بالتاريخ الحضاري لأرضه التي استوطنتها شعوب مختلفة تركت آثارها وحضاراتها على هذه الأرض.
والبحث عن صيغة تضمن حماية أفضل للمواقع الأثرية في مدننا نطرح السؤال الآتي: ما دور الحكومة والمجتمع المحلي في حماية المواقع الأثرية السورية؟
علام العبد
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد