اللغة والحرب: أردأ الذرائـع أفضلها
لم تكن «حرب تحرير الكويت» تحتاج إلى ذرائع لفظية، تعبوية، أو أي ضرب من التضليل اللغوي، لأنّ الحجة القانونية والأخلاقية والسياسية كانت متوافرة بقوة: الدفاع عن استقلال دولة عضو في الأمم المتحدة. أما التعابير الموجهة إلى الخصم فقد تركزت في ثلاثة تعابير: «استئصال»، «عملية قيصرية» و«إعادتهم إلى العصر الحجري». وهي تعابير متشابهة المضمون، وردت على لسان قائد «عاصفة الصحراء»، الجنرال شوارتزكوف.
أما حرب احتلال العراق، التي ينقصها التبرير القانوني والإجماع الدولي، فقد نُفذت تحت مظلة وهمية وتضليلية، اسمها «أسلحة الدمار الشامل»، من دون وجود معيار قيمي، دولي وقانوني، يحدد ويقيس نوع وحجم القوة التدميريه لهذه الأسلحة، باعتبارها خطاً أحمر، يمنح الإذن الشرعي بالحرب. أما الخصم فقد واجهوه بعبارة «نحيلهم إلى دخان»، التي أطلقها جورج بوش عشية الغزو.
تعتمد لغة الحروب غير الشرعية على عنصرين جوهريين: الإيهام والإبهام.
يتم الإيهام عادة من طريق تزييف الأهداف. ففي غزو العراق كان الهدف «البحث عن أسلحة الدمار الشامل». أما الإبهام، فلا يرتبط، كما نظن دائماً، بصحة وخطأ الشرط الأول (الإيهام)، والذي يعني في الحالة العراقية صحة وجود أو عدم وجود هذه الأسلحة. إن الإيهام هنا ملحق فرعي، مرهون بتأويل الإبهام. أي ارتباط الايهام والإبهام بمن يحدد حجم الدمار في هذه الأسلحة، ومن يقيسه، وبأي معيار، ومتى وكيف، وما عواقب ذلك؟ ففي العراق جرى الحديث، لحقبة طويلة، عن مفاعلات نووية كورية وروسية وحتى أفريقية، ثم انعطف البحث إلى التفتيش عن الغازات: السارين مرة، وغاز الخردل مرة ثانية، والغاز المزدوج مرة ثالثة، ثم تحوّل إلى السلاح الجرثومي: الجمرة الخبيثة. لكنه استقر أخيراً عند تعبير «أسلحة الدمار الشامل»، المبهم قانونياً واصطلاحياً. وقد قام «جورج تينيت» بصناعة الصورة الحسية لمفردة الإبهام والإيهام قبيل غزو العراق. جاء هذا على لسان أحد عناصر الحلقة الضيقة، التي اتخذت قرار الحرب: وزير المالية «باول أونيل»، الذي قال: إن «جورج تينيت» فاجأهم بعرض مجسم مصوّر لمنشآت، «ادعى» أنها أقبية سرية، لمعامل الأسلحة الكيميائية والجرثومية العراقية، وأنها موجودة في منطقة محددة من بغداد (تقيم عليها السفارة الأميركية اليوم). كانت الصور ملفقة، كما يقول أونيل. وهي الصور ذاتها التي نشرتها صحيفة «الحياة»، مرفقة بتعليقات استخباراتية عالية السرية. نُسب تحرير التعليقات إلى شخص لا تتجاوز رتبته رتبة «عريف» سابق في الجيش العراقي، وقد تحوّل محرّر الخبر فجأة، عند احتلال العراق، رئيساً للصحافيين العراقيين، ورئيساً لأكبر صحيفة في العراق.
حينما لم يتم العثور على تلك الأسلحة، تم تغيير الرواية على مراحل. وقد استقرت الرواية عند تفسيرين. الأول: أن صدام حسين عجّل بتدمير تلك المختبرات. والثاني: أنه حوّلها إلى مختبرات متنقلة تحمل على شاحنات. وقد صممت هذه الرواية من قبل السويديين جان إلياسون سفير السويد في أميركا ــ نفّذ مهمات دولية في الحرب العراقية الإيرانية، وكوفئ بتولي رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2005 ــ ورالف ايكيّوس، الذي فشل في العثور على المواد الكيميائية، لكنه أقر بأن لجنته زودت إسرائيل بمعلومات عن العراق. كان هدف الرواية الملفقة الطعن في تقرير السويدي «هانز بلكس»، الذي أثبت أن تلك الذريعة «كذبة كبرى».
إن تعبير «قنبلة ذكية» يساوي القتل الذكي، وتعبير «طائرة بلا طيار» يساوي القتل من دون وجود مجرم، و«الحرب على الإرهاب» يساوي حرية تحريك الجبهات عالمياً. الديمقراطية، الربيع، الكرامة من دون وجود كرامة، أضحت مفردات الإيهام والإبهام للمرحلة الراهنة.
قبل أكثر من قرن وربع، كتب «غوستاف لوبون» عن دور اللغة في صناعة الوهم قائلاً: «إن قوة الكلمات مرتبطة بالصور التي تثيرها، وهي مستقلة تماماً عن معانيها الحقيقية. والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق هي التي تملك أحياناً أكبر قدرة على التأثير والفعل». وأضاف: «العقل والمحاججات العقلانية لا يمكنها أن تقاوم بعض الكلمات والصياغات التعبيرية. فما إن تلفظ بنوع من الخشوع أمام الجماهير حتى تعلو آيات الاحترام على الوجوه وتنحني الجباه لها».
أي أن الإبهام والإيهام هما الشرطان الأساسيان لنجاح فاعلية اللغة، وهما شرطان لازمان في الحروب الأهلية والعدوانية كلها. وقد لاحظ العراقيون ذلك، وشاركهم في ذلك كل من راقب بيانات مجلس قيادة الثورة في العراق، عند بدء اندفاع القوات العراقية عبر الحدود الإيرانية عام 1980.
كيف انتهت الحرب العراقية الإيرانية؟ إن التجربة العملية ــ تجربة صدام الشخصية، الحسية ــ لا كلمات إعلامه الكاذبة، التي شكلت ذرائع الحرب، كشفت له حقيقة مرعبة: إن جمود حالة الحرب، مخططة ومصممة أجنبياً. فعلى الرغم من هجمات العراق الكاسحة، وعلى الرغم من موجات الهجوم الإيرانية المضادة، ظلت حدود الحرب ثابتة لا تتحرك، إلا قليلاً. لقد لاحظ مُشرّع الحرب نفسه صدام حسين، أن طائراته، التي تقصف عمق الأراضي الإيرانية، لا تصيب أهدافها بشكل فعال يؤثر على سير المعارك. ولاحظ الإيرانيون أن دفاعاتهم الجوية لا تستطيع إنهاء أو ايقاف أذى الطائرات العراقية المغيرة. كان التوازن تاماً على الجبهة الأرضية وفي السماء. لقد أخفقت محاولات إيران في شراء منظومة دفاع جوي حاسمة تكون غطاء لتحرك قواتها الأرضية، وأخفق العراق في الحصول على قوة تدميرية جوية فعالة وحاسمة. كان توازن الموت هو اللغة التي فرضتها شركات بيع السلاح على الطرفين. وكان الهدف، كما أحس الفريقان، هو استمرار اشتعال الحرب، والتدمير المنهجي لكلا الطرفين. المفارقة المميتة التي ابتلعها صدام، هي أن مصانع الأسلحة الجوية المطلوبة، التي تعتمد عليها القوة الجوية العراقية بشكل رئيس، كانت ملكية خاصة، لشقيق الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، صديق العراق المفضل.
لقد اكتشف صدام أن إيهام وإبهام خطابه الحربي، انقلب على يد القوى الدولية، الى إيهام وإبهام حربي دولي، موجه ضده، لم يفهم رسائله. لذلك اتخذ قرار القبول بإيقاف الحرب على «مضض». لكنه أوهم مرة ثانية بإمكان قيام (نصر) حرب جديدة، بذرائع ومبهمات جديدة، فكانت عملية احتلال الكويت، تحت الشعار الايهامي، الغوغائي، المثير للجماهير، ولكن المبهم: «عودة الفرع الى الأصل»!
لقد رافق الانتفاضة الفلسطينية، عند صعود نجم «حماس»، تعبيران، خرجا معا من فم إسرائيل، وأضحيا فور النطق بهما، جزءاً عضوياً من لغة التعبئة العالمية ومن قاموس الحرب، هما تعبيرا «ناشط» و«مطلوب»، اللذان يقومان على الإبهام والإيهام العدواني المطلق.
مصطلح «شبيحة» رافق انطلاق المعارضة السورية، التي ألبست هذه المفردة البشعة كل من ليس معها، وجعلته يستحق القتل «الحلال»، أمام عدسات التصوير. بذلك فقدت المعارضة، وليس الكلمة وحدها، مساحة الأرض المحايدة، التي هي قاعدة الثورات الحقيقية. إن الإبهام والإيهام يفقدان فاعليتهما التحريضية، في حال سوء استخدامهما، وليس بسبب خواء وفساد محتواهما، اللذين يشكلان قوتهما الحقيقية.
إن اشتداد وتعقد الأزمة السورية دفع الذرائع، المعدة سلفاً، إلى التقلب والتنوع، طبقاً لميزان الضعف والقوة عسكرياً: معسكرات مهجرين، حماية الحدود، مناطق آمنة، مناطق عازلة، باتريوت، مناطق حظر جوي، تدخل محدود، استيراد نفط من ميليشيات، وصولاً إلى آخر مبتكرات الذرائع الإيهامية، المبهمة: «الأسلحة الكيميائية»، باعتبارها خطاً أحمر.
ما يميز السلاح الكيميائي السوري، انه اكتشاف أميركي وبريطاني ذاع قبل نشوء القتال بزمن طويل. وانه عرض من قبل السلطة نفسها، باعتباره دليلاً على سوء نيات المعارضة ومهندسيها الدوليين. لكنه يختلف عن سابقه العراقي بأنه ليس مبهم «النوع». فهو مادة محددة سلفاً، اسمها «غاز السارين».
المواد الكيميائية العراقية تقلبت تقلباً كبيراً في كمياتها ونوعها. والمثير للعجب هنا، هو أن الشركات الغربية، والأميركية تحديداً، تعرف بدقة تامة حجم مشتريات العراق وطبيعة ما يمكن تصنيعه من تلك المواد. وحتى المرأة التي لقبها الإعلام الأميركي بالدكتورة جرثومة، هي هدى عماش، الحاصلة على تعليمها الجرثومي الرسمي من جامعات أميركا نفسها. فلم يكن في الأمر خفايا سرية على الإطلاق.
إن موضع الإبهام في الحالة السورية لا يكمن في نوع المادة، بل في حجمها: هل كميتها تساعد على قيام حرب أم لا؟ قسّم الأميركيون أنفسهم كالعادة إلى فريقين متعارضين في الفروع، لكنهما يثبّتان معاً، من دون أدنى لبس أو شك، حقيقة وجود هذا السلاح، أي حقيقة وجود ذرائع قيام الحرب. الفريق الأول يقول نعم، الكمية كافية لشن الحرب، والثاني يقول: «استخدم على نطلق ضيق». كلمة «استخدم» تشبه كلمتي «ناشط» و«مطلوب» الإسرائيليتين تماماً. أي أنّ وجود السبب أمر لا جدال فيه، ووقوعه أمر مؤكد لا يناقش. إن الفريقين يعملان بانسجام وتواز يقود إلى وجهة واحدة: تهيئة شروط الحرب، بعد أن تتم زراعة مفردتين وتثبيتهما كمسلمات عقلية وقانونية: «استخدام»، و«نطاق ضيق». وكلتاهما تعني وقوع سبب الحرب. لكن هذه الحرب لن تحصل، إلا بعد أن يتم التأكد تماماً من تمزق النسيج الداخلي للمجتمع السوري. وهي الغاية من ثبات حالة توازن الموت القائمة منذ سنتين.
بيد أن الأيام القليلة السابقة حملت مؤشرات أوليّة على ظهور تغيير في معادلة التوازن لصالح النظام. لذلك ظهرت فجأة نظرية تجاوز الخطوط الحمر.
إن لحظة توازن الموت السورية، تشبه نهاية الحرب العراقية الإيرانية، وتشبه لحظة توازن مرحلة الحصار في العراق. هدفها، كما عبر جورج بوش، كسر المجتمع بطريقة «لا رجعة فيها»، أي أن لا يعود قادرا على الاشتغال. وهي اللحظة المحددة للبدء بما يعرف بإعادة بناء المكونات، التعبير الجديد، الذي حلّ محل تعبير الحربين العالميتين الأولى والثانية: التقاسم الدولي، وإعادة رسم الحدود، على ضوء نتائج الحرب.
عند الحديث عن لغة الحرب، لا نستطيع فهم المعادلات والإشارات والرموز من دون أن نفهم النقطة الجوهرية المميزة للحظة التاريخية، التي تصنع الحدث والخطاب. عند احتلال العراق تم تغيير طابع الحرب. فقد اتسعت فيها دائرة الخصخصة، التي شملت التموين والنقل والإمداد والرصد والخدمات، وحماية المنشآت والطرق، التي أوكلت الى ما يعرف بالمتعاقدين (فرق المرتزقة)، ويضاف اليهم الإرهابيون، الذين تولوا مهام رسم حدود مناطق الصراع. وفي إطار التشكيل العسكري نفسه تمت عولمة التخصصات: المدفعية، الجهد الهندسي، المخابرات، المجال الجوي، القوات البرية. وقد تم تركيب التجحفل على ضوء ما يقدمه كل بلد من قوة، تسهم في تكامل الجسم العام لخطة المعركة.
في ليبيا تم توسيع حجم الخصخصة والتجحفل. فقد جرى إسناد جلّ العمليات الأرضية إلى مقاتلين ليبيين وآخرين مجلوبين من الخارج، بإسناد جوي وبحري واستخباري أجنبي. وفي سوريا، الأكثر خطورة عسكرياً، جرت عملية خصخصة قتالية أكثر شمولاً. فقد تم تركيز الجهد القتالي بيد السوريين بمعاونة المرتزقة الأجانب، عدا شؤون الإعلام الدولي والتمويل والإمداد. كان الهدف من هذا اكتشاف وتجريب آليات عنفية جديدة ممكنة، من دون التورط في مشكلات الحرب المباشرة. لقد أخذ الأميركيون يميلون، أكثر فأكثر، إلى الخصخصة الحربية المعولمة. لكن التجحفل السوري أثبت عدم فاعليته في مواجهة صمود النظام عسكرياً، وتماسك الشعب السوري اجتماعياً. إن الخلاف والتقلبات في وجهة نظر أميركا وحلفائها لا تتعلق بالمبادئ والأهداف، بل ترتبط أساساً بمعادلة واحدة: مدى نجاح الخصصة القتالية الشاملة في التجربة السورية. لهذا نجد أن جلّ الإعلام والمفاهيم اللغوية المستحدثة تنبع وتعبر عن جوهر هذه الأزمة: حجم الخصخصة الحربية ومقدار نجاحها، وليس سبل حل أزمة المجتمع السوري.
سلام عبود
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد