نادلات يتحدين الليل
الجمل ـ خاص : تعود (ردينة -30 عاماً ) بذاكرتها إلى فترة الدراسة الجامعية حيث كانت تعيش حياة مستقلة تفرض عليها أن تعمل لتأمين لقمة عيشها ومصاريف دراستها حفاظاً على تلك الاستقلالية، وفي الوقت الذي كانت فيه تبحث عن عمل تعرفت على زميلة لها تعمل نادلة ليلية لدى إحدى الفنادق، فعرضت عليها العمل معها، ومع أنها لم تكن مقتنعة به، لكن الحاجة للعمل والرغبة في عدم طلب المساعدة من أحد جعلاها توافق عليه.
أسوأ ما فيه
وتشرح (ردينة) طبيعة العمل قائلة: عندما باشرت العمل استغربت بداية آليته وظروفه الصعبة وشيئاً فشيئاً تأقلمت، ووجدت أنه كأي عمل آخر، والفتاة بمقدورها القيام به كالرجل تماماً، فقد كنا مجموعة من الفتيات نقوم بتخديم حفلات الأعراس الخاصة بالنساء، حيث نقتسم الطاولات فيما بيننا، كل فتاة تستلم عدة طاولات وتوزع الطلبات عليها لمن يريدها إذ عادة ما يكون (البوفيه مفتوح) في تلك الحفلات، إضافة للقيام بأعمال أخرى، كترتيب الطاولة، وطي المناديل، وتوزيع الأكواب عليها.
و أسوأ ما في هذا العمل تضيف ردينة: أنه يتوجب عليها البقاء واقفة باستعداد وتأهب دون استراحة طوال فترة الدوام والتي قد تصل إلى عشر ساعات، مع التقيّد باللباس الرسمي الذي كان خفيفاً للغاية، وأذكر أنه في أيام الشتاء كنت أكاد أموت من البرد ولا أستطيع أن أرتدي أي شيء آخر يقيني البرد، لاسيما أن العودة غالباً ما تكون في وقت متأخر من الليل كالساعة الثالثة صباحاً.
استغلال
حيال شروط وظروف هذا العمل ، يتبادر إلى الذهن أن هناك عائداً مادياً مغرياً ناتجاً عنه، لكن المفاجأة اذا عرفنا أن (ردينة) كانت تتقاضى مبلغ (400) ليرة سورية كأجر يومي على الحفلة الواحدة، هو مبلغ قد يُدفع أجرة تكسي للعودة إلى البيت في وقت متأخر، ومع ذلك فمبلغ الـ (400) ليرة هذا غير متوفر كل يوم وبشكل دائم، ففي الشتاء يخف العمل كثيراً، بمعدل حفلة كل أسبوع، وأحياناً كل شهر. وإذا كانت الحفلة لا تحتاج لكامل المجموعة يأخذ صاحب العمل حاجته من الفتيات ليقعد الباقي في البيت دون عمل... عداك عن الاستغلال الذي يتعرضن له، فالعمولة التي يتركها الزبون عادة قد تذهب إلى أصحاب العمل إلا إذا أعطيت للنادلة بشكل مباشر.
لا تحتاج مهارة
أما (حُسن - 43 عاماً) التي تركت المدرسة في الصف التاسع، ولم تتمكن من المتابعة نتيجة الظروف المادية الصعبة، لتعمل في فرقة (أمية) للفنون الشعبية، وبعد مرور إحدى عشرة سنة على عملها مع الفرقة فُصلت، عندما تغيرت وزيرة الثقافة، بسبب أنها لم لا ترتبط مع الفرقة بعقد، وهكذا وجدت نفسها فجأة، دون عمل أو معيل، ليبدأ مشوار عملها كنادلة في الليل، عن طريق مشرفة في صالة أفراح في أحد الفنادق، إذ تقول حُسن: بعد أن تركت الفرقة ساءت أحوالي المادية وتعبت كثيراً، فتعرفت على فتاة تعمل كمشرفة في صالة أفراح في أحد الفنادق عرضت علي العمل مع مجموعة من الفتيات تتألف من (خمس وعشرين فتاة)، وأقنعتني بأن العمل جيد ولا يتطلب الكثير من المهارات والكفاءات، وهكذا وجدت نفسي أعيش منه.
ثم بدأ عملي بالتوسع حيث تعرفت على مجموعة متعاقدين مع مجموعة فنادق (كنادي الشرق، وقصر النبلاء، والكارلتون، برج الفردوس...) يقومون بتأمين نادلات للعمل في حفلات الأفراح النسائية التي تقيمها تلك الفنادق.
مشبوهة
تشرح (حسن) ظروف العمل قائلة: مسألة العودة في وقت متأخر بعد منتصف الليل أهم مشكلة نعاني منها كنادلات نعمل في الحفلات الليلية التي تقيمها الفنادق، ومع ذلك لا يتم تأمين مواصلات العودة، ولكي نحل هذه المشكلة نتفق جميعنا مع سيارة تأتي لأخذنا بعد انتهاء الحفلة، ونعود معاً لنقوم بتوصيل بعضنا إلى البيت.
ولا تكمن المشكلة هنا، وإنما في نظرة المجتمع للمرأة التي تعود إلى بيتها في هذا الوقت، فرغم أنه يبدو واضحاً من اللباس الذي أرتديه أن العمل الذي أقوم به يفرض عليَّ العودة في هذا الوقت لكن النظرات التي توجه إليَّ مشبوهة وفيها الكثير من الشكوك والتساؤلات، حتى أنه بعد شهر من إقامتي في المنطقة التي أسكن فيها اضطررت لإخبار صاحب البيت عن طبيعة عملي لكي يفهم أهل الحارة ظروف عملي التي تفرض علي ذلك.
ومع الوقت أصبح العمل عادة بالنسبة لي، فطالما أني واثقة من نفسي وأعمل بشرفي لإعالة نفسي فأنا غير مضطرة لأن أشرح لجميع الناس ظروفي لكي يقبلني المجتمع.
(مو شايفتك)
وماذا عن تعامل النساء المحتفلات مع النادلات، وكيف ينظرن لعمل النادلات في الفندق، سيما وأن غالبيتهن من سيدات المجتمع الراقي؟
تقول حسن: طبيعة العمل تتطلب مواجهة كبيرة مع الناس، حيث نضطر للتعامل والاحتكاك مع أمزجة وطباع مختلفة، هناك من يتعامل معك بلطف ويحترمك كإنسانة ويقدر عملك، وهناك من ينظر إليك على أنك مستخدمة، ولاسيما بعض سيدات المجتمع الراقي، حيث تأتي الواحدة منهن وتكون في الأساس (مو شايفتك)، تتحدث بطريقة سيئة وبصيغة الأمر، لكنك مضطرة للتأقلم مع كل تلك الطباع حفاظاً على العمل، ومع الوقت تستطيع الفتاة أن تفرض وجودها واحترامها على الآخرين.
وتنهي حسن حديثها بالقول: مضى على عملي في هذه المهنة سبع سنوات وأصبحت معروفة من قبل الجميع، ومع ذلك ليس هناك أي ضمان أو تأمين في العمل، ولكن لا توجد لدي خيارات أخرى، وفي كل عمل هناك صعوبات أيضاً.
هواجس
كيف يكون شعور النادلة أثناء عملها في فندق من الدرجة الأولى، بما فيه من مظاهر الترف، ومغالاة في الصرف والبذخ؟
تقول ردينة: أكثر ما كان يؤلمني في مشاهدة مظاهر الحياة المترفة، هو أنني لا أستطيع أن أعيشها، وكنت أحزن كثيراً على الطعام الذي عادة ما يذهب إلى الحاوية، وفي المقابل هناك الملايين من البشر بحاجة إلى لقمة الخبز، وكان ينتابني هاجس كبير يدفعني للمشاركة في تلك الحفلات، ورغبة جامحة في الرقص دون أن يكون باستطاعتي فعل ذلك.
وذكرت حادثة جرت مع إحدى النادلات، فقد دعيت النادلة للرقص من قبل فتاة صغيرة، فلم تستطع أن ترفض الدعوة فشاركتها قليلاً، وكانت النتيجة أن عوقبت عقاباً شديداً بعد انتهاء الحفلة من قبل الرئيسة المسؤولة عن المجموعة.
مصاريف زوجي
وكذلك (سماح -30 عاماً) فقد عملت كنادلة في الفنادق الليلية لمدة عام كامل، بالرغم من أنها متزوجة، وموظفة في إحدى الدوائر الحكومية، إذ تقول: في الفترة التي كان فيها زوجي يقوم بخدمة العلم واجهتنا ظروف مادية صعبة، فقد كان الراتب يتوزع بين أجرة البيت والمواصلات والهاتف وغيرها من الالتزامات، لذا كان علي أن أعمل لتأمين مصروف البيت ومصاريف زوجي في العسكرية، ولأنه لم تتوفر لي فرصة عمل أخرى اضطررت للعمل كنادلة مع صديقة لي في إحدى الفنادق.
ترى سماح أن هذه المهنة كأية مهنة أخرى لكن المشكلة في تعاطي المجتمع معها، وتقبله لها، وهي أفضل من طلب المساعدة من أحد، أو اللجوء إلى أعمال غير مشروعة، لكنها كانت تنزعج كثيراً من التقيد الكبير بالنظام في هذه الأماكن، وأن النادلة تتعرض للكثير من المضايقات والإزعاجات من قبل الزبائن، فالزبون في تلك الفنادق هو سيد الموقف ولا يحق للنادلة أن ترد عليه أو تزعجه، فهي تضطر في حالات كثيرة (للتطنيش) لكي لا تحدث أية مشكلة، وبالتأكيد النتيجة لن تكون لصالحها.
(نفسيات حامضة)
في حين أن (هبا – 20 عاماً ) التي أتت من محافظة حمص لتدرس في المعهد الفندقي بدمشق، وبعد التخرج بدأ عملها كنادلة تقول: أعمل في مجموعة من الفنادق كنادي الشرق، وقصر النبلاء في حفلات الأفراح، أو عندما يتم افتتاح صالات في الخارج، وكذلك في حفلات التعازي حيث نقوم بتخديم تلك الحفلات وتقديم الطلبات لمن يريدها.
وبعد مضي عام على عمل (هبا) كنادلة ترى أن أسوء ما في العمل الاضطرار للتعامل مع (نفسيات حامضة) والمجاملة والمسايرة بدون قناعة فقط ليبقى العمل مستمراً ، و(هبا) تعتبر أن هذه المشكلة تعاني منها جميع الفتيات اللواتي يعملن في القطاع الخاص، ولا تنوي تغيير عملها في المستقبل لأنها اختارته بعد دراستها في المعهد وعن قناعة تامة به.
ألفاظ نابية
أما (آثار – 27 عاماً) التي بدت متحفظة في الحديث عن العمل الذي تأكل من ورائه خبزاً وأسرتها التي تساهم بإعالتها، لكنها عبرت عن تذمرها من الوقوف طوال ساعات العمل التي تنتهي مع انتهاء الحفلة في مطلع الفجر، ومن الألفاظ النابية التي تسمعها وتسكت عنها خوفاً من خسارة العمل.
وهكذا تهرب المرأة من ظروف الحاجة والعوز، وعدم الرغبة في طلب المساعدة من أحد، فتقبل بشروط هذا العمل وظروفه القاسية، لتقع مجدداً في مأزق أحكام المجتمع الظالمة نتيجة لعدم تعاطيه لهذا العمل وتقبله له، إذ نادراً ما يقيمه الآخرون بصفته عملاً كأي عمل آخر دون إلقاء الاتهامات التي لها علاقة بشرف المرأة وأخلاقها كون طبيعته تفرض على المرأة العودة في ساعة متأخرة بعد منتصف الليل، ودون الأخذ بعين الاعتبار الظروف الدافعة للعمل.
ولتقع أيضاً تحت رحمة أرباب العمل حيث يتم استغلالها إلى أقصى حدود الممكن، إذ لا يتوقعون أن تقوم المرأة في مجتمعنا بهذا العمل دون حاجة ماسة لذلك، ومن ثم فهي ستقبل بأية شروط لقاء حفنة من المال تعيل بها نفسها واسرتها، في فنادق من الدرجة الممتازة وذات نجوم خمسة، دون أن يغيب عن ذهننا مظاهر الحياة المترفة، والنظام الموجود فيها، ليكون واقع عمل نادلاتها بهذا الحال.
تحقيق: ليلى نصر
إضافة تعليق جديد