عائشة أرناؤوط: أقودك إلى غيري
تواصل الرواية العربية غوايتها للشعراء والشاعرات. فبعد سليم بركات وسعدي يوسف وفاضل العزاوي وشوقي بغدادي وميسون صقر ومحمد الأشعري وممدوح عدوان و... ها هي الشاعرة السورية المقيمة في باريس عائشة الأرناؤوط تنضمّ إلى هؤلاء بروايتها الأولى «أقودك إلى غيري». وقد تصدّرت الرواية بفقرتين ماهدتين، يسرد أولاهما (استهلال) من سيتبين أنه قرين الراوية (مريم)، فيجلو ـ فقط ـ لقاءهما الأول بالولادة من رحم الأوراق، وأنهما كانا معاً «كخطي كروموزمات تحمل في توازنها اللولبي مورثات الجنون والحكمة، الموت والحياة». أما الفقرة الثانية (مذكرات) فتجلو بإعلان نورس بعد ثلاثين عاماً من لقائهما الأول، أنّ أوان الفراق قد آن، فيلبث هو في البيت الريفي بينما تعود مريم إلى صيف باريس الماطر، لتعتزل شهراً وتكتب مذكراتها (الرواية). وفعل الذاكرة إذاً هو الذي ينهض بالرواية في لحظة حاسمة من الحاضر، كما يليق بالرواية السيرية التي قدحها التوتر بين الذاكرة (الماضي) والوعي (الحاضر أو الآن أو زمن الكتابة). ولئن كان كثير من سيل الرواية السيرية العربية المتدافع قد أبقى للراوي اسم من كتب (غالب هلسا وخليل النعيمي وحليم بركات ونورا أمين...) فقد جرت رواية (أقودك إلى غيري) مجرى كثير آخر من السيل الذي تقنّع فيه من كتب (ت) باسم من يروي أو تروي (إدوار الخراط وميرال الطحاوي وغادة السمان...) وكما تسيّد ضمير المتكلم في كل ذلك، كان الأمر في رواية عائشة أرناؤوط التي تبدأ ـ بعد الفقرتين الماهدتين ـ بما سيتبين أنه قصة قصيرة كتبتها الراوية في ربيع 1961 وعنوانها «آسف.. لا نفتح المقبرة إلا للأموات»، وفيها تعيد المخيلة كتابة ما يشاع في الحي عن بائع المازوت الذي يجلب اللعنة، لأنه عاد من الموت. فمريم ابنة الرابعة عشرة تتخيل عودة الميت من قبره إلى البيت، وانهيار الأم وموت الخادمة وفقدان الأخت لذاكرتها، ثم استعادتها لها عندما يبدأ الميت العائد باستذكار أيامه الثلاثة في القبر.
بفوز هذه القصة بجائزة، ونفور المدرسة من كاتبتها، تبدأ الرواية، فتعرّف بالأبوين المثقفين المهاجرين من البلقان ـ هل هذه إشارة سيرية؟ ـ وبالأخت لطيفة والشقيقين عماد وحازم، وهم جميعاً يكتبون وينشرون. غير أن اللحظة الحاسمة في بداية الرواية هذه، هي ظهور من يشارك مريم مملكتها / عزلتها التي كانت لها منذ الطفولة. إنه من تحدث عن مريم في فقرة (استهلال) المؤرخة في 7 / 7 / 1999، فقال: «وكنت قرين جنونها وحنانها، كنت مرآة تموجها في تطوراته الفريدة، رفضتني وقبلتني معاً، أحبتني وربما كرهتني». إنه القرين الذي ندر أن لعبت الرواية العربية لعبته. ومن هذا النادر، جاءت رواية سميحة خريس (نارة امبراطورية ورق) منذ عام، ورواية عائشة أرناؤوط هذا العام، بما يعنيه القرين من مرآة للذات تجلو ـ في انقسام الواحد إلى اثنين ـ ذلك الآخر المقيم في الذات، كما تجلو اللاشعور والصراع الداخلي، فتميل اللعبة بالسيرة إلى الرواية وهي تشظيها وتحفّز فيها التخييل.
تنفي مريم أنها أوجدت قرينها، بل هو من أوجد نفسه بلا اسم، فكانا يتخاطبان بالضمائر إلى أن لعبا بالأبجدية فصار له اسم (ساروس). وسيتبين في نهاية الرواية أن هذا هو اسم دورة الكسوف في اللغة اليونانية. وقد أذهلت مريم قدرةُ قرينها على التعلم، وطاقاته الحسية. وبينما أخذت تصطحبه في زياراتها إلى صديقاتها وإلى مرسم شقيقها عماد، تمضي إلى المدرسة وحيدة كيلا يشتتها في الدروس. وستسرع مريم في فصل (الذاكرة الجائعة) إلى إرسال الإشارة إلى ما بين لعبة ساروس وفعل التذكير، وبين الخروج من السيرة إلى الرواية. فمريم التي يشغلها أن تكون لساروس ذاكرة مخاض خروجه إلى العالم، تفكر في أن تحقنه بذاكرتها، متسائلة عما إن كانت ذاكرتها «تشتهي سكنى الآخر كي تضاعف من تحولاتها اللانهائية». وليس من سبيل إذن لذاكرة الطفولة قبل لحظة وعي الكاتبة، إلا لعبة مثل لعبة ساروس، وهي اللعبة التي لن تفتأ توحّد مريم وقرينها، وتميّز بينهما في آن.
- بين برازخ حياتها تقلبت مريم: اليقين بتحوّل أي صورة إلى واقع، باكورة الأحلام الجنسية، ذكريات الطفلة عمن أحبت من الأطفال، تجربة التمثيل لمرة واحدة في مسرحية، تجربة كتابة مسرحية لم يقرأها أحد، كتابة القصائد، حرق ما كتبت في دفتر (الأصابع المرتعشة) وهذا التأمل للرماد: «كان الزمن قد انطفأ تماماً مع الذات، اللازمن يتفتح، لا زمن بين أزل وأبد يتلاصقان، لا زمن مكثف مرصوص في حاضر سديمي يتعذر التقاطه، لا زمن يوحد بين الرماد والماء». ومن برازخ مريم العلاقة مع الطبيعة، وهي التي نشأت في بستان، وحولها قطتها العمياء لوميير، والتي ترى في بياض العينين العمياوين «بياض الورق البكر المحقون باحتمالات لا حصر لها». ومن أكبر تلك البرازخ التوقف عن الكتابة وتجربة التحجب والصلاة والمواظبة على الدروس الدينية فترة، ثم الارتداد عن ذلك، إلى ما أغرقتها به القراءة في الكتب الوجودية التي كانت سائدة في ستينات القرن الماضي، مما أورث مريم الإحساس بالغربة والامتلاء بعبثية الوجود. ومع توالي العلاقات العاطفية والغرق في أجواء دمشق الثقافية (الرسم ـ الموسيقى ـ النشر ـ السينما...)، تأتي التجربة الروحية عبر كتاب (شموس الأنوار وكنوز الأسرار الكبرى) وفكرة العوالم الأخرى، والأسئلة الممضّة.
كل ذلك ومريم تطوي سنوات دراستها الثانوية متمردة حتى في انكساراتها. وفيما يلي من السنوات المعدودة التي تعود إليها مريم فيما تكتب (الآن) من مذكراتها ـ روايتها في معزلها الباريسي، تنتأ برازخها الكبرى: العلاقة مع الكاتب سرمد وممارسة الجنس لأول مرة معه، العمل في التعليم والسكنى المستقلة عن الأسرة، حرب عام 1967 والتطوع للتمريض في المستشفى، وصولاً إلى برزخ نورس الرسام الذي كان يؤدي الخدمة الإلزامية أثناء الهزيمة، وهو من سيعقد العشق بينه وبين مريم، ومن بعد الزواج والإقامة في باريس، إلى أن يعلن أن أوان الافتراق قد آن، بعد ثلاثين عاماً.
منذ البداية أعلنت الرواية عن المسافة بين زمن الكتابة وزمن التذكر. وفي شطر كبير منها إثر ذلك، يهيمن زمن التذكر وهو يتنقل بين بداية ربيع أو يوم من أواسط أيلول أو سنة الحصول على الشهادة الإعدادية أو سنة الحصول على الشهادة الثانوية أو «ذاك الزمن من أواسط الستينات»... لكن زمن الكتابة يبدأ بالحضور في مفردة (الآن) في الشطر التالي من الرواية، ومن ذلك ما يتصل بعنوان الرواية عبر الورقة التي علقتها مريم في غرفتها، وعليها ما كتبت لسرمد في الماضي: «لا تأت إليّ فإنني أريد أن أقودك إلى غيري»، وها هي «الآن.. تعود عيناي لتلمس الجملة ذاتها، مكتوبة بخط مختلف قليلاً على قطعة من الورق المقوى العاجي عند حافة المكتبة بجانب طاولتي، أشعة غروب باريس البرتقالية تمسحها لتغيب قليلاً في استراحة ذهبية: (لا تأتِ إليّ فإنني أقودك إلى غيري). تلك الجملة التي حذفت منها (أريد أن) لأضفي عليها تأويلي الخاص سرداً، لم تعد ترتبط حصراً بتجربتي مع سرمد، وإنما نشرت جناحها الهائل على تجربتي مع ذاتي ومع أقرب الآخرين». ومثل ذلك أن تعود مريم (الآن) للتفكير بأمها (الرؤيوية) التي تنبأت قبل أكثر من ثلاثين عاماً بما سيحدث في العالم: الشعوب ستسحق وعنجهية السلطات التي ستؤول إلى الاستبداد... على أن زمن الكتابة ينهي الرواية كما ابتدأها، عندما تحل الليلة الأخيرة لمريم في معزلها وهي نهب ارتباك الأزمنة وتجوفها، وتلعثم الأمكنة وتعثرها في أزمنة لم تستطع استعادتها، فتكتب: «أهرول في كتابتي، أهرول في سماء الذكريات المجبولة بشفافية ساروس، وكأنني ألاحق بواكيري وفلولي». وتقرر: «سأنهي الرواية غداًً صباحاًً، سأنهيها في شكل من الأشكال». وقد يلوح القرار بالرهق ونشدان الخلاص كيفما اتفق، لكن ذلك ليس إلا لعبة تعطف النهاية على البداية، فيأتي المقطع الأخير بضمير الغائب مذكراً باستهلال ساروس الذي تحدث عن مريم بضمير الغائب أيضاً. وفيما بين البداية والنهاية رسمت الرواية التطور المعقد للشخصية المركزية، وتدافرت من حولها عشرات الشخصيات من الأسرة والصديقات والعشاق، في حضور عابر وباهت، على رغم مما يتلامح في بعضها من إمكانات لأن تكون شخصيات روائية، لولا التمحور حول الراوية. وقد كانت شخصية الأم في رأس من نجا من شر هذا التمحور الذي قد يكون عزيزاً في السيرة، لكنه أذية روائية بامتياز.
على أن شخصية الأم، ومثلها شخصية الغجرية خضرة أو الكردية هاسو أو الأب أو الصديقة التي انتحرت هيلانة أو فادي وخالد ممن أقامت معهما مريم علاقات غرامية وجنسية... على أن أولاء جميعاً اختطفت الراوية ألسنتهم، وغابت لغاتهم بالتالي، لتتسيّد لغة الراوية وحدها، لولا بعض المتناصات. فالأم التي كان إعجاب مريم بها مذوباً بكراهية غامضة، تستغرب أن تكتب ابنتها (طالبة الثانوي) دوماً عن الأنثى، فتخاطبها: «في كل منا آخر.. وجهنا الآخر.. لا يهم.. ولكن كوني أنت بكليتك». وستحدث الأم ابنتها فيما بعد عن «هذا الكائن الذي هو الأنا واللاأنا، الأنت واللاأنت، الهو اللاهو». ولعل تسويغ ذلك بثقافة الأم ومعرفتها الإنكليزية والفرنسية، لا يستقيم مع ما بدت عليه في الرواية عبر عروجات مريم. لكن ذلك يظل هيناً أمام تميز مريم في سنواتها الإعدادية والثانوية، الغارقة في الموسيقى والفن التشكيلي والسينما والفلسفة والشعر.. لكأنها مريم التي تكتب (الآن) وليست مريم الذاكرة، مهما يكن الجو الثقافي الذي انزجت مبكراً فيه. وإذا صحّ هذا النظر اليها، فالعلّة فيه هي ضغط السيري على الروائي. بيد أن ما ظل يغلّب الروائي على السيري هو القرين، هو ساروس الذي يتركها تخرج وحيدة من البيت عندما تطردها أمها منه، جزاء على ما ضبطه شقيقها حازم من كتابتها لمذكرات في شكل رواية، عنوانها (الطحالب الميتة). إنه ساروس الذي غضب من مريم واختفى عندما كانت تكتب بشبق فج وتذيل قصائدها باسم عشتار. ولئن كانت مريم قد نسيت ساروس أثناء هزيمة 1967، فها هو بعد عودتها من المستشفى إلى البيت يعلن شكه في وجوده، وحاجته هو إليها، لا حاجتها إليه طوال تلك الفترة التي خرجت فيها من شرنقة الذات إلى تجربة تمريض من أصابتهم الحرب، وقصص بعضهم التي ستفرع السرد وترخي عليه ظلالاً روائية جديدة. وفي النهاية، حين تنتهي عزلة مريم وتنجز روايتها ـ مذكراتها، تودع ساروس، لكأنها أمام أفق جديد، ليس فيه قرين، وليس فيه نورس أيضاً.
نبيل سليمان
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد