جنيف والتكفير و«الفوضى الخلاقة»
أجمع المشاركون الذين تداولوا الكلام في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر «جنيف ـ 2»، على حقيقة أن الإرهاب ضرب أطنابه فوق الأراضي السورية، وبات يشكل تهديداً تنبغي معالجته.
لكن فريقاً من المشاركين، يمثل غالبيتهم وعلى رأسهم وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ربط بشكل مباشر بين تفشي الإرهاب وبين النظام السوري، واعتبر أن الأخير هو المسؤول عن ذلك، بينما ذهب الفريق الثاني، ويمثله بشكل أساسي وزير الخارجية السوري وليد المعلم، إلى أن الإرهاب في سوريا مرتبط بدول إقليمية معروفة ومشاركة في المؤتمر، محمّلاً إياها المسؤولية عنه. وبدا جلياً أن القضية الجوهرية لم تعد هل الإرهاب موجود أم لا، فالجميع أصبح يعترف بوجود الإرهاب وبما يمثله من خطر، لكن الخلاف انتقل إلى قضية أخرى، وهي تحديد الجهة التي ينبغي تحميلها مسؤولية الإرهاب.
وبغضّ النظر عن صحة وجهة نظر كل فريق والأدلة التي يملكها لإثبات ما يراه، تبقى الحقيقة أن الاختلاف حول الإرهاب وتنظيماته في سوريا، سيشكل مناخاً ملائماً لينمو هذا الإرهاب ويكبر ويستمر في الانتشار. وعلى المواطن السوري أن يصبر على مشاهد الذبح والتمثيل وتقطيع الرؤوس والأطراف وحرق الأحياء والأموات، ريثما يجري الاتفاق على تحديد الجهة المسؤولة. ومن هذا الجانب يبدو أن مؤتمر «جنيف ـ 2» قد يتحول إلى مظلة لشرعنة الإرهاب وإمداده بسبل الحياة والبقاء، وليس مكافحته والقضاء عليه.
والمستفيد الأول من كل ذلك، هو تنظيم «القاعدة» العالمي الذي أصبح فجأةً بعيد المنال عن أي إدانة أو تنديد، مهما كان التعبير عنهما رمزياً. ويمكن لزعيم «القاعدة» أيمن الظواهري أن يتنفس الصعداء وهو يشاهد وزراء خارجية عدة دول عظمى، مع لفيف من الدول الأخرى، يتحاشون التلميح إليه بأي كلمة من شأنها التذكير بموقعه كرأس الهرم في أخطر تنظيم مصنف على أنه إرهابي من قبل حكومات الدول التي ينتمي إليها وزراء الخارجية أنفسهم. ولا شك أنه سيبتسم ابتسامة ماكرة، وهو يرى فرع تنظيمه في بلاد الشام، الذي تمثله «جبهة النصرة»، قد أصبح في منطق بعض الوزراء حليفاً في مكافحة الإرهاب.
وهذا يطرح التساؤل: لماذا تتجاهل الإدارة الأميركية أنها أول من بادر إلى تصنيف «جبهة النصرة» على أنها تنظيم إرهابي، بينما كان قادة «الائتلاف الوطني» المعارض يدافعون عنها، ويعتبرونها جزءاً من «الحراك الثوري» كما قال جورج صبرا أكثر من مرة؟
وللعلم فإن دفاع قادة المعارضة السورية عن «جبهة النصرة» كان في وقت لم يقع فيه الخلاف بعد بين زعيم «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني وبين زعيم تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» (داعش) أبو بكر البغدادي، ما يعني ضمنياً أنهم كانوا يدافعون في الوقت ذاته عن الجماعات التي انضمت إلى البغدادي بعد الخلاف ومن بينهم كبار الأمراء والقادة، أمثال أبو أيمن العراقي وأبو يحيى العراقي وحجي بكر وأبو علي الأنباري وعبد المجيد العتيبي وأبو عبادة المغربي وأبو بكر القحطاني، فهؤلاء جميعاً كانوا أمراء تحت راية «جبهة النصرة» عندما كانت تحظى برعاية «الائتلاف السوري». فهل غيرت الإدارة الأميركية رأيها في «جبهة النصرة»؟
يغدو هذا السؤال أكثر مشروعية في ظل الحملة الإعلامية الملحوظة التي استهدفت على مدى الأشهر الماضية تلميع صورة «جبهة النصرة» عبر التمييز بينها وبين «داعش» وإظهار «النصرة» على أنها تمثل تياراً معتدلاً، بينما «داعش» هو الشيطان الذي ينبغي التخلص منه. وما مقابلة قناة «الجزيرة» مع زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني إلا مثالاً بسيطاً على هذا التلميع.
وفي المقابل نذكر كيف امتنعت «الجزيرة» عن بث شريط لمحمد مراح، بطل أحداث تولوز تحت ضغوط السلطات الفرنسية. وكيف حوكم تيسير العلوني بالسجن لمدة سبعة أعوام لإجرائه مقابلة مع الزعيم الراحل لـ«القاعدة» أسامة بن لادن، بينما إجراء مقابلة مع الجولاني، والذي وضعت الولايات المتحدة مكافأة مالية لمن يدلي بمعلومات عنه، يمرّ وكأن شيئاً لم يكن، وأين مراح ومراهقته «الجهادية» من الجولاني وخطورته؟.
ربما لم تغير الإدارة الأميركية موقفها من «جبهة النصرة»، ولكن من الواضح أن قاعة «جنيف ـ 2» مثلت محطة تقاطعت فيها المصلحة الأميركية التي طالما بشرنا وزراء خارجيتها منذ كوندليسا رايز بمشروع «الفوضى الخلاقة» مع مصلحة «القاعدة» الذي يقوم مشروعه على التكفير والعنف، فدفع هذا التقاطع، المؤقت أو المتكرر، في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر جنيف إلى غياب أي إشارة عن خطورة «القاعدة»، ونسيان أن في سوريا تنظيمات سبق لأميركا نفسها أن قالت إنها إرهابية.
يذهب البعض إلى درجة القول أن مشروع «الفوضى الخلاقة» هو نفسه مشروع التكفير والعنف. ويتساءل هؤلاء، إذا لم يكونا نفس المشروع فماذا يمكن أن تكون «الفوضى الخلاقة» التي ينظِّر لها أصحابها على أنها تمهيد لتشكيل شرق أوسط جديد يتضمن تقسيم المقسم وتفتيت المفتت؟
وفي المقابل، بحسب آخرين فحتى إذا كان المشروعان متغايران ومستقلان عن بعضهما ويخدمان أهدافاً مختلفة، فذلك لا يعني أنهما لا يتكاملان أو تتقاطع مصلحتهما في نقاط كثيرة. فلن تجد الإدارة الأميركية أفضل من التكفير والعنف وسيلة لنشر فوضاها الخلاقة، كما أن التنظيمات التكفيرية أكثر ما تتغذى، ويمكنها البقاء والتكاثر في ظل مناخ فوضوي «خلاّق» يحظى برعاية إقليمية ودولية تغطي على ما يرتكب فيه من انتهاكات وموبقات.
ومهما يكن وفي أحسن درجات حسن النية، فإنه لا يمكن القول أن هذين المشروعين يتناقضان مع بعضهما أو يضر أحدهما بمصلحة الآخر.
يعزز ذلك على الساحة السورية أن أميركا سارعت إلى الاتصال بـ«الجبهة الإسلامية» فور إنشائها، وصرحت أنها تريد فتح حوار مع الفصائل المكونة لها، رغم أن «أحرار الشام»، التي تهيمن على «الجبهة الإسلامية»، تنتمي بحسب تعريفها عن نفسها إلى تيار السلفية «الجهادية» الذي هو المصطلح العلمي المرادف للنهج الذي يقوم عليه تنظيم «القاعدة». علاوة على أن «الجبهة الإسلامية» متحالفة مع «جبهة النصرة»، التي تقول أميركا إنها إرهابية. وبدل أن يدفع هذا التحالف الولايات المتحدة إلى معاقبة «الجبهة الإسلامية» لتحالفها مع تنظيم إرهابي، نراها تندفع للتحاور معها.
وهذا يدفعنا إلى القول في النهاية أن الخشية، كل الخشية، أن تنجح الولايات المتحدة في التقاط لحظة تقاطع المصالح بينها وبين «القاعدة»، وتجعل من قاعة مؤتمر جنيف سقفاً يظلل شرعية هذا التقاطع، لتدخلنا في عصر طويل من الفوضى التي لا تخلق إلا التكفير والعنف.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد