نحو ثورة جديدة على «الربيع العربي»
كشفت موجة «الربيع العربي» الذي تحوّل إلى شتاء إسلامي عن خلل كبير لدى النخب الثقافية العربية في رسم معالم طريق واضحة لنشر قيم الديموقراطية، وتحقيق ما يصبو إليه المواطن العربي بعد إسقاط الأنظمة الحاكمة في دول عانت لفترات طويلة من غياب مفهوم الدولة المدنية الحقيقية.
لقد شغل مفهوم الديموقراطية وطريقة تحقيقها حيزاً كبيراً لدى علماء الاجتماع والسياسة، وذلك في إطار بحثهم عن كيفية تحقيق العدالة والحرية والمساواة، ويعود استخدام هذا المفهوم الى الديموقراطية المباشرة التي وجدت في أثينا قبل أكثر من ألفي عام.
ويبقى الجدل قائماً حتى الآن حول تحديد تعريف دقيق وشامل للديموقراطية، وهذا ما أكده استاذ العلوم السياسية الكندي تشارلز بلاتبيرغ في كتابه «من التعددية إلى السياسات الوطنية» بقوله «إن هناك جدلاً فلسفياً حول إمكانية وشرعية استخدام المعايير في تعريف الديموقراطية».
إن عدم وجود تعريف شامل جامع ومانع للديموقراطية لا يعني أنها شيء غامض، فالديموقراطية مجموعة نظم ومؤسسات وآليات ولها ثوابت ومبادئ، كما أن لها قيماً تتمثل في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والتعامل مع الآخر على أساس المواطنة الحقة. وتعتبر الثورة الفرنسية في نظر رجال الفكر والتاريخ من أكثر الثورات التي حملت لواء الديموقراطية وخاصة في دفاعها عن المساواة السياسية وحرية الفرد وحرية التفكير والصحافة وغيرها، لذلك فإن من الخطأ حصر مفهوم الديموقراطية بعملية الاقتراع فقط.عدم وجود تعريف شامل وجامع ومانع للديموقراطية لا يعني أنها شيء غامض
ومن الخطأ أن نحصر فكرة الديموقراطية بفكرة المساواة فقط، حيث رأى بعض المفكرين أن مبدأ الحرية يعلو على مبدأ المساواة، فالحرية حق طبيعي لا يمكن التنازل عنه، وهذا ما عبر عنه جان جاك روسو بقوله «تخلي الإنسان عن حريته هو تخليه عن صفته كإنسان»، كذلك أشار هيغل إلى أن «الدولة الحقيقية هي التي تصل فيها الحرية إلى أعلى مراتبها»، قاصداً بذلك أن جوهر الديموقراطية قائم على حرية الفرد والفكر... في حين انتقد سبينوزا حالة الترهيب والتخويف التي تتبعها الأنظمة الاستبدادية مدافعاً عن المساواة السياسية.
لقد أخذ انتشار الديموقراطية في القرن العشرين شكل «موجات ديموقراطية»، ولم يأخذ شكل الانتقال البطيء، حيث تم فرض بعضها عسكرياً وتم الآخر من خلال الثورات والانتفاضات الشعبية حتى أصبح عدد الدول التي تعد من مجموعة الدول الديموقراطية يفوق الـ 120 دولة في عام 2000 في حين كان عام 1900 يخلو من وجود أي نظام ديموقراطي، وذلك حسب تقرير مؤسسة «بيت الحرية» الأميركية. فبعد حالة الاصطفاف والانقسام التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، أخذت الدول المستقلة حديثاً بتأسيس نظم ديموقراطياتها على أساس وضع دساتير تناسبها وتنظّم العلاقات بين سلطاتها الثلاث، وتضمن حريات الأفراد وحقوقهم في الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية والسياسية.
والدول العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال وضعت دساتيرها على هذا الأساس، لكنها ابتعدت شيئاً فشيئاً عن التطبيق الفعلي لديموقراطية دساتيرها، وتحولت أنظمة الحكم العربية إلى أنظمة سلطوية استبدادية تقمع الحريات غير مهتمة بنصوص الدستور الذي أتى بها إلى الحكم، فتاريخ بناء الجمهوريات العربية أصلاً يكشف أن هناك أزمة في شرعية أنظمة الحكم التي استولى عليها عسكريون بحكم الانتماء العشائري أو الطائفي أو العائلي أو عن طريق انتخابات لعبت الدول الكبرى دوراً كبيراً فيها، لذلك يرى البعض أن الثورات العربية الحالية أتت كضرورة تاريخية لإحداث تغيير جوهري في قلب المجتمعات العربية عموماً وعلى مختلف الصعد. ولم تقم هذه الثورات بسبب غياب الديموقراطية فقط، حيث إن غياب المشاركة السياسية وانسداد القنوات الشرعية لا يعدّان محركاً أساسياً في قيام الثورة.
هو محرك مهم بالطبع، لكنه غير كاف. فكثير من الأنظمة السلطوية التي استطاعت توفير نوع من الرفاهية لمواطنيها وحققت مستويات عالية من التنمية مالت الى الاستقرار الداخلي (سلطنة عمان والإمارات العربية والسعودية والصين) خير مثال على ذلك، بل إن النتائج المترتبة على غياب الديموقراطية والمتمثلة في تفاقم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وحالة الفساد وإهمال حقوق الإنسان هي التي دفعت شعوب بعض الدول العربية إلى الثورة.
وبسبب غياب فكر ديموقراطي داخلي فعال ومؤثر في الحياة السياسية، تمت السيطرة لفكر ماضوي منغلق تمثل بالأصولية الإسلامية والتي أتت تعبيراً تاريخياً عن واقع سياسي واجتماعي واقتصادي مأزوم، وهي نتيجة تفاعل بين عوامل داخلية وخارجية عدة، عبرت عن نفسها بالرجوع إلى فترة تاريخية من الماضي، ساد فيها الأمان السياسي والاجتماعي والمعيشي، ووجدت في ذلك الماضي نموذجاً للمستقبل، فقادت المرحلة الحالية من الثورات العربية وتركت المجال للدول الإقليمية الحاملة لأجندتها التحكم في مسار الثورة، لذلك فإن المطلوب حالياً هو مواجهة المشروع الأصولي الإسلامي السياسي بمشروع وطني ديموقراطي يؤسس لمرحلة جديدة من التوافق بين المواطن والدولة، وتفعيل الأجندة الفكرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية لقيادة مرحلة ثورية جديدة من أجل بناء الدولة القانونية الحديثة التي تحقق العدالة والحرية والمساواة لمواطنيها.
مازن وعري
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد