محمد عبده والتجديد الديني والثقافي
«إن الرهانات كبيرة اليوم على الحاضر والمستقبل في وجودنا الديني والدولتي والسياسي والثقافي والإنساني» بهذه الكلمات أستهل د. رضوان السيد محاضرته المعنونة «محمد عبده والتجديد الديني والثقافي: المشروع ومواريثه» والتى جاءت فى ختام فعاليات النشاط الثقافي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب فى دورته السادسة والأربعين، لافتاً الى أن محاضرته تنصب على قراءة مشروع محمد عبده ومواريثه بعيون الحاضر ومشكلاته، فتتعرض لمضامين ذلك الإصلاح، وماذا يبقى من تلك الرؤية، وذاك المشروع.
يشير السيد الى أن اسم الشيخ محمد عبده ارتبط بالإصلاح الديني العقدي والتربوي والثقافي منذ الثمانينات من القرن التاسع عشر الميلادي. وهذا الاهتمام ظهر للمرة الأولى في عمله في مجلة «العروة الوثقى» مع جمال الدين الأفغاني. ثم تطور في مشروعاته لإصلاح المحاكم، والنظام التربوي والأوقاف، ودروسه في التفسير، وفتاويه، ومقالاته في مجلة «المنار»، ورسائله في الإصلاح العقدي، والفقهي - كما تجلى في إقباله على نشر التراث النهضوي اللغوي والأدبي والديني.
وقصد محمد عبده بالإصلاح ثلاثة أمور محددة: أنه إصلاح ديني، لأنه يتناول هياكل المؤسسة الدينية، كما يتناول برامجها وأنماط تعليمها العقدي والفقهي - وأنه إصلاح تدريجي غير ثوري، وأنه في المظهر تجاوز للتقليد في عودة للأصول والينابيع، لكنه في مقاصده مفتوح على فكرة التقدم الأوروبية.
وتساءل السيد: أين نحن من مشروع محمد عبده الإصلاحي بعد مئة عام ونيف على وفاته، وما مدى أهميته بالنسبة إلينا في ضوء المشكلات والتحديات الراهنة؟ لقد سيطر الأصوليون والتأصيليون في المجال الديني والثقافي؛ دون أن يعني ذلك أن الإصلاحيين اختفوا تماماً. ففي المجال العقدي تعرضت الأشعرية التقليدية لانتقادات شديدة بسبب صورتها الإشكالية عن الله والإنسان والعالم، والعلاقات المفترضة أو القائمة. وفي المجال الفقهي ظهر لمحمد عبده أنصار بالأزهر، ساهموا إلى جانب الأنظمة السياسية في إصلاحات تنظيمية وفقهية. وظهر مجتهدون كبار مثل المراغي وشلتوت ومحمد عبد الله دراز، وعبد الوهاب خلاف، وعبد المتعال الصعيدي ومحمد حسنين مخلوف، ومحمد البهي ومحمد أبو زهرة.
بيد أن الأجواء المتشددة التي سادت منذ الخمسينات من القرن الماضي؛ حولت الشيوخ والمثقفين المدنيين الكبار من أمثال السنهوري، إلى توفيقيين؛ يقولون بالاجتهاد والتجديد والتوفيق والتلفيق، وليس الإصلاح. فالتجديد يعني التجدد الذاتي، والاجتهاد يعني التأصيل.
لكن الأهم من ذلك أن الصراع بين الأطراف الثلاثة: الإصلاحيين والإحيائيين والتقليديين؛ حطم التقليديين، واضطر بقاياهم للاستظلال نهائياً بالأنظمة وليس بالدولة، والخضوع - مقابل الحماية، لاحتياجاتها وقد تبلور في العقدين الأخيرين تيار رئيسي عاد للحديث عن مقاصد الشريعة. لكن التأصيل ونزوع الهوية ظلا وراء البيانات الكثيرة لحقوق الإنسان الإسلامية، ووراء الكثير من مشاريع الدساتير الإسلامية؛ التي همها الافتراق عن السائد في المجال العلمي لهذه الأمور. وإذا كان كثيرون من المعتدلين يتحدثون عن نظام الشورى باعتباره المعادل للديموقراطية أو المتقاطع معها في كثير من الأمور. فإن الأطروحة الرئيسية للإحيائية لاتزال صامدة: إن المرجعية العليا في النظام السياسي الإسلامي هي للشريعة؛ أما الشورى فهي في القضايا التدبيرية.
ويلفت السيد الى إن أبرز وجوه الفشل في مشروع محمد عبده للإصلاح الديني حدوث أمرين: التحويلات المفهومية الضخمة والتي أخرجت المرجعية في الدين والدولة من الجماعة والمجتمع، وفرضت أولويات ما كانت في الإسلام الكلاسيكي، من مثل: أولوية الجهاد من أجل إخراج الغرب من الديار، وأولوية الشريعة بالمفهوم الجديد لاستعادة الشرعية، وأولوية السلطة والدولة تحت اسم الدولة الإسلامية والخلافة باعتبارها ركناً من أركان الدين، شأن الإمامة العائدة عند الشيعة. والأمر الثاني: عدم تقدم الإصلاح بدرجة كافية، في المؤسسة الدينية بحيث تتصدى لمهمات: فتح التقليد وتجديده في الفكر والبرامج والقراءة النقدية للموروث الفقهي - ونصرة السعة والاستيعاب العقدي الأشعري - والتصدي لتحويلات المفاهيم بحيث يمكن صون السكينة الدينية أو صون الدين على أصوله وأعرافه المستقرة كما قال الماوردي - واعتبار ذلك كله مهمة ورسالة وليس وظائف وحسب.
كما إن ما حدث ويحدث منذ ثلاثة عقود في المجال الديني، ليس أقل من انشقاق أو انشقاقات في الدين، سواء في ما سُمي الإسلام السياسي، أو ما سمي الإسلام الجهادي. وهي انشقاقات هدّدت وتهدّد المجتمعات والدول والدين في المجال العربي بالذات. إنما ينبغي الانتباه إلى أنه في حين سيطر الإحيائيون العنيفون في أكبر دولة شيعية، ما استطاعوا ذلك في دولة سنية رئيسية.
وليس في ذلك عزاء إن لم تتعاون الأنظمة مع المؤسسات الدينية في علاقات مختلفة عما قبل الثورات. وهذا التعاون ضروري لأن الاستقرار الأمني والسياسي، محتاج في حدوثه إلى سكينة أو إلى استعادة الدين لسكينته، وهذه مهمة لا تستطيعها إلا المؤسسات الدينية التي تنهض بالصلاح والإصلاح المفهومي العلمي. ونعرف جميعاً صعوبة الأجواء والبيئات التي يسودها الاضطراب على كل المستويات.
وأختتم رضوان السيد قائلاً: «لابد من اجتراح نهوض في مؤسساتنا الدينية والثقافية إنقاذاً للدين، وصوناً له عن الدخول في الصراع السياسي، وفي بــطن الدولة الطاحن والمشرذم. إن هذا الإحساس، إحساس أن الإسلام في ازمة، هو شعور كان يسيطر على محمد عبده إبان وفاته».
محمد عويس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد