ابن رشد وسبينوزا وعصر التنوير الأوروبي
امتد عصر التنوير الأوروبي من سبعينيات القرن السابع عشر إلى ثمانينيات القرن الثامن عشر. وعلى الرغم من أن هذا العصر قد شهد العديد من الفلاسفة والمفكرين الكبار الذين أسهموا في تشكيل الرؤية التويرية الغربية، فإن الدراسات الأحدث لذلك العصر وضعت أياديها على الفيلسوف الذي كان له أبلغ الأثر في فلاسفة التنوير والذي كان أولهم وأهمهم بلا منازع، وهو بندكت دي سبينوزا (1632-1677)( ). فقد حمل فكر سبينوزا مبادئ تنويرية تعلي من شأن العقل والتفكير العقلاني، ورؤية للوجود اختلفت عن ما كان سائداً قبلها وأثرت على من جاء بعده من كبار التنويريين أمثال فولتير ومونتسكيو وديدرو وروسو وهيوم، وعلى الشخصيات الأقل شهرة من هؤلاء – لا الأقل أهمية – أمثال تولاند وكولنز وتندال ولسنج وهيردر وشيلر.
وما يلفت انتباه دارس فكر سبينوزا مدى ارتباط فكره بالتراث الفلسفي الإسلامي واليهودي السابق عليه؛ إذ تعد فلسفة سبينوزا استمراراً وتطويراً للاتجاه العقلاني الإسلامي واليهودي على السواء، والذي ظهر لدى فلاسفة الإسلام الكبار: الفارابي (260/874-339/950) وابن سينا (370/980-427/1037) وابن رشد (520/1126-595/1198)، ثم لدى تلاميذهم اليهود أمثال موسى ابن ميمون (1135-1204) وإسحق البلاغ وبعض الفلاسفة اليهود من القرن الثالث عشر وحتى القرن السادس عشر أمثال ليفي بن جرشوم (1288-1344) وحسداي كريسكاس (1340-1411).
والحقيقة أن ابن رشد كان صاحب أكبر تأثير على هؤلاء التلاميذ اليهود( )؛ وقد تأثر سبينوزا بأسلافه اليهود الذين ينتمي معظمهم إلى الرشدية اليهودية، وهو تأثر غير مباشر بابن رشد، إلى جانب الأثر الرشدي المباشر عليه والذي رصده عدد من الباحثين( ). ومن هنا نستطيع القول إن ابن رشد كان صاحب الأثر الأكبر والأهم على سبينوزا، نظراً للتشابهات والتطابقات التي سوف نرصدها في الصفحات التالية. ومن هنا يتحدد الهدف من دراستنا هذه، وهي توضيح مدى التأثير الذي مارسه ابن رشد على فلاسفة عصر التنوير الأوروبي. فبما أن سبينوزا كان أول التنويريين وصاحب أبلغ الأثر على عصر التنوير كله، فإن إثباتنا لرشدية سبينوزا هو في الوقت نفسه إثبات للتأثير الرشدي على عصر التنوير. هذا بالإضافة إلى أن رصدنا للأفكار الرشدية التي استمرت حية – على الرغم من القمع والحظر والإدانة التي تعرضت لها - منذ العصور الوسطى وحتى عصر التنوير نفسه، هو توضيح للأثر الرشدي على التنويريين الأوروبيين.
ومن أجل تحقيق أهداف هذه الدراسة فقد قسمناها إلى خمسة أجزاء. في الجزء الأول نعرض كيفية وصول الأفكار الرشدية إلى عصر التنوير، وهو جزء تاريخي يوظف مقولة التأثير والتأثر؛ وفي الجزء الثاني نتناول تياراً خاصاً من التنوير وهو المسمى بالتنوير الراديكالي الذي كان سبينوزا هو رائده ومفكره الأساسي بلا منازع؛ وفي هذا الجزء نثبت أن الأفكار السبينوزية التي أثرت في التنوير الراديكالي هي الأفكار التي كانت معروفة بالرشدية قبل سبينوزا وأعاد سبينوزا إنتاجها. والأجزاء الثلاثة التالية نسقية، إذ ترصد أهم الأفكار الرشدية التي عاودت الظهور في عصر التنوير، إما باعتبارها تأثيراً رشدياً مباشراً في حالة سبينوزا، أو تأثيراً رشدياً غير مباشر متلبساً ثوباً سبينوزياً؛ ذلك لأن سبينوزا كان هو الوسيط بين ابن رشد وعصر التنوير، إذ كان آخر الوسيطيين وأول المحدثين بتعبير ولفسون. وسوف نركز على ثلاث نظريات رشدية ساهمت في تشكيل الرؤية الفلسفية لعصر التنوير، وهي نظريته في العقل والمعرفة والحقيقة والتأويل، ونظريته في نظام الطبيعة وعلاقة الإرادة الإلهية به، ونظريته في النفس والبدن.
وفي كل جزء نبدأ بعرض للنظرية الرشدية نفسها، ثم لأثرها أو صداها عند سبينوزا، وأخيراً لاستمرارها لدى أهم التنويريين الغربيين. وما يوجهنا في هذه الدراسة هو النتيجة التي توصلنا إليها وكانت بمثابة الفرضية التي قادتنا أثناء البحث، وهي أن كل تأثير سبينوزي على عصر التنوير كان تأثيراً رشدياً غير مباشر، نظراً لرشدية سبينوزا التي سوف تتضح في سياق البحث.
أولاً – الحضور الرشدي في أوروبا من العصور الوسطى إلى عصر التنوير:
1) الحضور السالب – تحريم الرشدية في أوروبا العصور الوسطى:
لقد كانت الرشدية حاضرة بالفعل في أوروبا العصور الوسطى، لكن حضورها كان سالباً أكثر منه موجباً؛ بمعنى أن التحريم الذي تعرضت له كان هو الطريقة التي استُقبلت بها آنذاك. والتحريم أيضاُ هو ما سوف تواجهه السبينوزية طوال عصر التنوير. والملاحظ أن تحريم فلسفة ابن رشد جاء في وقت مبكر للغاية. فابن رشد قد توفى سنة 1198، وبعد أقل من ستة عقود، أي سنة 1256 كلف البابا الإسكندر الرابع الفيلسوف ألبرت الكبير بالرد على نظرية ابن رشد في وحدة العقل والتي تؤدي حسب الفهم الشائع لها آنذاك إلى نفي خلود النفس الإنسانية الفردية( ). وفي ذلك وضع ألبرت كتابه "في وحدة العقل ضد ابن رشد". والملاحظ أن القول بوحدة العقل أو النفس الكلية وبفناء النفوس الفردية هو نفس ما نادى به سبينوزا وكان أحد أهم أسباب تحريم فلسفته طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر. ونستنتج من ذلك أن هناك اتفاقاً بين ابن رشد وسبينوزا حول النفس، بل مواقف واحدة هي التي أدت إلى تماثل أسباب تحريم فلسفتيهما.
وفي سنة 1277 أصدر أسقف باريس إتيين تومبييه Etienne Tempier قراراً بتحريم ثلاثة عشرة قضية رشدية كانت منتشرة في ذلك الوقت، وقد أرسلها إلى القديس ألبرت أولاً كي يفحصها ويقول رأيه فيها. ومن أهم القضايا التي لفتت نظرنا، الآتية:
• لا يوجد إلا عقل واحد (لكل الجنس البشري) مما يعني أنه ليس هناك بعث لنفوس الجزئية.
• إن إرادة الإنسان تريد وتختار تحت سيطرة الضرورة.
• أن العالم قديم
• أن النفس التي هي صورة الإنسان كإنسان تفسد بالموت
• أن النفس لا يمكنها أن تتعذب بالنار المادية بعد الموت
• أن الله لا يعرف الجزئيات
• أن الله لا يعرف شيئاً إلا ذاته
• أن الأفعال الإنسانية لا تخضع للعناية الإلهية( )
والملاحظ فى هذه القضايا أنها مستخلصة بناءً على مذهب أرسطو؛ لم يقل أرسطو نفسه بها بل هى النتائج التى توصل إليها شراحه بعد أن قارنوا بين فلسفته وما تقول به الأديان السماوية، وخاصة فلاسفة الإسلام، وعلى رأسهم ابن رشد( ). هذه القضايا تتلخص فى القول بقدم العالم، أى بأنه غير مخلوق للإله، وفى إنكار بعث الأجساد أو حتى النفوس الجزئية، وفى القول بالحتمية الطبيعية التى يخضع لها الإنسان ونفى حرية الإرادة عنه، ونفى العناية الإلهية بالعالم اعتماداً على أن الإله لا يعرف إلا ذاته وبالتالى لا يعرف الجزئيات. وقد أصدرت الكنيسة العديد من قرارات التحريم بعد هذا التاريخ، والتفت كل قراراتها على نظريتين رشديتين نظرت إليهما على أنهما "الضلالتان الكبيرتان"، وهما قدم العالم ونظرية العقل القائلة بفناء النفوس الجزئية. ونستنتج من هذا ما يلى:
1- هذه التحريمات هى ذاتها المسائل التى كفـَّر أجلها الغزالى الفلاسفة فى "تهافت الفلاسفة".
2- وهى أيضاً سبب محنة ابن رشد وتكفيره فى العالم الإسلامى والعالم المسيحى على السواء.
3- وهى أيضاً سبب قرار حرمان وطرد سبينوزا من الجماعة اليهودية بهولندا، وسبب تكفيره والحظر الذى كان مقاماً على فلسفته فى القرنين السابع عشر والثامن عشر، لأن القضايا السابقة يمكن استخلاصها بسهولة من كتاب سبينوزا "الأخلاق".
ومن الرشديين اللاتين أتباع أرسطو فى باريس سيجر دى برابانت الذى كان يقول بأنه لا توجد عناية إلهية، من منطلق أن العالم يسير حسب قوانينه الطبيعية ومعه الإنسان وليس هناك تدخلاً إلهياً مفارقاً للطبيعة فى مجرى الطبيعة، وبأن العالم قديم، وأنه لا يوجد إلا عقل واحد للجنس البشرى كله مما يعنى إنكار الخلود للنفوس الجزئية ونفى حرية الإرادة بالنسبة للإنسان، إذا كانت حرية الإرادة هذه تعنى خروج أفعال الإنسان عن المجرى الطبيعى للقوانين الطبيعية( ). ومعنى هذا أن أُتباع ابن رشد من اللاتين كانوا يتبنون نفس الأفكار التى ظهرت بعد ذلك لدى سبينوزا. لقد كانت سبنيوزية قبل ظهور سبينوزا نفسه، أو بالأحرى كان سبينوزا يكرر نفس أفكار الرشدية اللاتينية التى كانت سائدة فى القرن الثالث عشر.
كان سيجر دي برابانت منتمياً إلى ما سمي بالرشدية اللاتينية المنشقة، وهي منشقة عن التيار السائد في فلسفة العصور الوسطى الذي أدان فلسفة ابن رشد بعنف، في حين أن دي برابانت قد خالف الإدانة التقليدية للرشدية وتبناها. ويتضح من الأفكار التى كانت تأخذ بها الرشدية اللاتينية المنشقة عن الفلسفة المدرسية مدى قربها من فلسفة سبينوزا، وعلى الرغم من أن هذه الأفكار كانت مختلطة ببعض نظريات الأفلاطونية المحدثة، إلا أن أكثرها قرباً من السبينوزية هى: إنكار حرية إرادة الفعل الإلهى، والحتمية الكونية، ووحدة العقل أو النفس الإنسانية مما يعنى إنكار بعث النفوس الجزئية، والحتمية السيكولوجية والخلقية، وهى القول بأن السلوك الإنسانى خاضع للضرورة الطبيعية، سواء كانت الطبيعة الخارجية أو طبيعة البدن البشرى، مما يعنى إنكار حرية الإرادة الإنسانية( ). وفي مقارنتنا بين الأفكار الرشدية والسبينوزية المتشابهة سوف نجد أفكاراً رشدية اعتنقتها السبينوزية فى أوروبا فى القرنين السابع عشر والثامن عشر، بحيث نستطيع القول بأن السبينوزية أعادت إنتاج الرشدية بحذافيرها، مما جعل نفس الاتهامات أيضاً تتكرر.
2) الرشدية الإيبيرية والإيطالية في عصر النهضة:
ونظراً للخلفية الأيبيرية لعائلة سبينوزا اليهودية ولمصادره اليهودية الأسبانية التي أشار إليها أهم دارسي فكره( )، فمن الضروري التعرف على التأثير الرشدي على يهود أسبانيا في عصر النهضة، وهو العصر الأقرب لسبينوزا تاريخياً وفكرياً. فقد انتشرت الرشدية بينهم في أواخر القرن الرابع عشر وطوال القرن الخامس عشر، وانتشرت معها بعض الأفكار الشعبية الخاطئة التي ارتبطت بالرشدية؛ وأهمها الفكرة القائلة إنه لن يكون هناك ثواب أو عقاب في الآخرة، ولن تكون هناك آخرة بالمعنى الديني، وذلك على أساس تأويل خاص للفكرة الرشدية حول ارتباط النفوس الفردية بالجسد الفردي، مما يعني ضياع الفردية بفناء الجسد. وانتشرت فكرة رشدية أخرى تقول بأولوية العقل على الوحي وبالتالي على الأديان كلها، مما يعني أنه ليس هناك فرق بين دين وآخر بما أن الأولوية للعقل( ). ويذهب بعض الباحثين إلى أن هذه الأفكار كانت مسئولة عن زعزعة إيمان يهود أسبانيا وتمسكهم بيهوديتهم مما أدى إلى زيادة تحولهم للمسيحية( ). ونستطيع من هذا التوصيف التاريخي للرشدية اليهودية الأسبانية اكتشاف الخلفية الرشدية لسبينوزا وإن كانت بطريق غير مباشر؛ فقد كان هناك تأثير غير مباشر من ابن رشد على سبينوزا، عن طريق المفكرين اليهود الأسبان المعروف عنهم رشديتهم الراديكالية وتمسكهم الشديد بالعقل ونزعتهم العلمانية.
وكانت إيطاليا، وخاصة فينيسيا، مركز نشر شروحات ابن رشد على أرسطو في القرن السادس عشر، إذ ظهرت فيها الطبعات الأولى من الشروح الرشدية وانتقلت بذلك من المخطوط إلى المطبوع( ).
كما كانت إيطاليا مركزاً هاماً لنشر أعمال فلسفية عن ابن رشد، مما شكل تياراً رشدياً فيها. امتد هذا التيار عبر عصر النهضة واستمر إلى مشارف عصر التنوير( ). ومن أهم أعلامه: أجوستينو نيفو Agostino Nifo (1469-1538) الذي علم الفلسفة في بادوا وجنوب إيطاليا ونشر أعمالاً عن ابن رشد وحرر طبعة سنة 1495-1496 من شروح ابن رشد؛ ومارك أنتونيو زيمارا Marcantonio Zimara (1475-1532) تلميذ نيفو الذي نشر سنة 1537 ملخصاً يقارن فيه بين أرسطو وابن رشد ويركز على الاختلافات بينهما، مما يكشف عن درجة وعي الأوروبيين بالفروق الدقيقة التي طالما كان من الصعب رصدها بين المذهب الأرسطي والمذهب الرشدي.
ونجد كذلك بييترو بومبوناتزي Pietro Pomponazzi (1462-1525) الذي اعتمد على مؤلفات ابن رشد في النقاش الذي دار في عصره حول ما إذا كان البرهان الذي يعتمد على العقل وحده يمكنه أن يبرهن على خلود النفس الفردية. ومع العلم بأن ابن رشد قد انتهى إلى استحالة إثبات العقل لخلود النفس الفردية، فقد استفاد بومبوناتزي من هذه النقطة وذهب إلى أن الوحي والإيمان وحدهما يستطيعان إقناعنا بخلود النفس الجزئية، وفي الوقت نفسه رفض الموقف المادي الذي تصور أنه هو موقف ابن رشد والذي أنكر فردية النفوس الجزئية بعد انفصالها عن أبدانها( ). وكانت أفكار بومبوناتزي هدفاً لخلافات حادة، ذلك لأنه أنكر قدرة العقل على البرهنة على العقائد الإيمانية وذهب إلى أن هذه العقائد هدف للقبول الإيماني وحسب، في حين أن المعارضين له أرادوا إثبات قدرة العقل البشري على البرهنة على العقائد الإيمانية. وهذا ما دفع بهؤلاء المعارضين إلى الهجوم على ابن رشد الذي يتخذه بومبوناتزي مرجعاً له واتهام أفكاره بالإلحاد بما أنها تنكر على العقل البشري قدرته على البرهنة على العقائد الإيمانية.
أما سيزار الكريمونيني Cesare Cremonini (1550-1631) وأنتونيو روكو Antonio Rocco (1576-1653) اللذان عاصرا أواخر عصر النهضة ووقفا على عتبة عصر التنوير فقد استمرا في تبني أفكار بومبوناتزي حول النفس، مما أدى إلى الاستمرار في الهجوم المضاد على فلسفة ابن رشد التي اعتمد عليها كريمونيني أيضاً في أفكاره حول النفس. وقد وضع أنتونيو روكو بحثاً في النفس نشره سنة 1644، يتبنى فيه أفكار ابن رشد حول خلود النفس الكلية وفناء النفوس الجزئية بفناء الأبدان، وهذا ما أدى إلى وضعه في اللائحة البابوية للكتب المدانة( ). والملاحظ أن مؤلفات سبينوزا سوف توضع على نفس اللائحة البابوية للكتب المحرمة بعد هذا التاريخ بأقل من خمسين سنة ولنفس السبب وهو إنكار سبينوزا للخلود الفردي. وهذا ما جعل جيسيبي فاليتا Giuseppe Valleta (1636-1714) مؤرخ الفلسفة الإيطالي يعلن صراحة أن فكر سبينوزا هو شكل من الرشدية( ).
3) طريق وصول فكر ابن رشد إلى سبينوزا:
لقد كان سبينوزا على معرفة وثيقة بمؤلفات ابن رشد، وخاصة شروحاته على أرسطو( ). لكن لماذا اختار سبينوزا قراءة ابن رشد بالذات؟ كيف تعرف عليه؟ تكمن الإجابة على هذا السؤال في الصلة التي ربطت بين الرشدية اليهودية في أسبانيا والمهاجرين اليهود من أسبانيا إلى هولندا. فعن طريق هؤلاء تعرف سبينوزا على ابن رشد، وكانت أفكار ابن رشد حول النفس والتي حملها بعض المهاجرين إلى هولندا هي ما أدت بسبينوزا إلى تبني رأيه في فناء النفوس الجزئية قبل أن يكتب أي شئ، وهو ما أدى إلى طرده من الجماعة اليهودية وهو في سن الثالثة والعشرين. لنلقي نظرة إذن على ما حدث.
انتشر تيار رشدي سري بين اليهود في الجامعات الإسبانية منذ القرن الخامس عشر، وكان المصدر الأساسي الذي غذى اتجاه الدين الطبيعي لدى هؤلاء اليهود وحتى القرن السابع عشر( )؛ ذلك لأن في مذهب ابن رشد نظريات عديدة إذا تم تتبعها إلى نهاياتها المنطقية انتهينا إلى نوع من الدين الطبيعي المختلط بوحدة الوجود. وما جعل هذه الحركة الرشدية السرية تنتشر بين يهود أسبانيا على وجه الخصوص ما تعرضوا له من إجبار من قبل السلطات الإسبانية على التخلي عن اليهودية واعتناق المسيحية. وعمل الكثير من اليهود على تبني المسيحية في الظاهر وحسب، مع تمسكهم باليهودية سراً( ). وكان هذا ما يحدث على مستوى عامة اليهود. أما على مستوى الخاصة من الأكاديميين اليهود فقد أدى التنقل من دين لآخر وإظهار دين وإخفاء آخر على تشككهم في الأديان كلها، وفي الوقت نفسه قوى فيهم نزعة النظر العقلي في الأديان والحكم عليها بمنظور العقل وحده. وهكذا ظهرت في هؤلاء اليهود بواكير نزعة علمانية أصبحت فيما بعد تميز سبينوزا حفيد هؤلاء بعد هجرة البعض منهم إلى هولندا. ولم يجد هؤلاء المفكرون اليهود المتحررون من الديانات الوضعية أفضل من ابن رشد كي يستمدوا منه طريقاً ومنهاجاً عقلياً ينظرون به إلى الأديان ويكونون عن طريق فلسفته رؤية خاصة للكون، وللعلاقة بين الأديان والفلسفة، والوحي والعقل.
وكان من أشهر هؤلاء المفكرين اليهود الإسبان مفكر يدعى خوان بينهيرو Juan Pinheiro، الذي توفى في إشبيلية عام 1662. وكان فكره خليطاً من الرشدية والدين الطبيعي ووحدة الوجود. وقد درس على يديه خوان دي برادو Juan de Prado الذي عاد إلى اليهودية بعد إظهار المسيحية وهو لا يزال في إسبانيا، ثم رحل إلى أمستردام وقابل سبينوزا هناك وظل على صداقة به بين 1655 و1656. والملاحظ أن قرار حرمان سبينوزا كان سنة 1656، مما يدل على تأثره بأفكار برادو الرشدية.
كان هذا هو الطريق المباشر لوصول فكر ابن رشد إلى سبينوزا. لكن كان هناك طريق آخر، وهو الفلاسفة اليهود المتأثرون بابن رشد أو الذين اختلفوا معه وردوا عليه ردوداً مطولة، والذين كان سبينوزا على معرفة وثيقة بأعمالهم مثل ليفي بن جرشوم (1288-1344) وحسداي كريسكاس (1340-1411)، الذي أثبت ولفسون استفادة سبينوزا من أعمالهم( ).
ثانياً – ابن رشد وسبينوزا والتنوير الراديكالي:
لقد كان لسبينوزا أبلغ الأثر في نوع من التنوير مثَّل اتجاها متميزاً في القرن الثامن عشر والذي أطلق عليه التنوير الراديكالي. وذهب هذا التيار إلى وضع العقل في المقام الأول وجعله الحكم المطلق على أمور الدين والعقيدة، والفيصل في تقييم ونقد الكتب المقدسة، وواجه الكهنوت الديني وحق الملوك المقدس والمميزات المتوارثة للأرستقراطية. وقد غلب على هذا التيار ثلاثة اتجاهات فلسفية: المذهب التأليهي ووحدة الوجود والمادية، والمذهب الأخير كان مميزاً للتنويريين الفرنسيين في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وفيما يلي نحاول توضيح الأثر الرشدي غير المباشر على التنوير الراديكالي بتوسط سبينوزا.
1) توازي حضور الرشدية والسبينوزية في عصر التنوير:
ذكرنا من قبل أن مؤرخ الفلسفة الإيطالي فاليتا كان ينظر إلى فكر سبينوزا على أنه شكل من الرشدية. وقد كان فاليتا معبراً في رأيه هذا عن وعي الأوروبيين في عصر التنوير بالقرب الشديد بين ابن رشد وسبينوزا، ذلك الوعي الذي سوف يزداد وضوحاً كلما اتضحت ملامح عصر التنوير وخاصة بروز الاتجاه الراديكالي منه، والذي كان سبينوزا أول أعلامه كما أشار إلى ذلك بيير بايل.
وكانت هولندا في أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر هي حلقة الوصل بين الرشدية الإيبيرية والسبينوزية. ذلك لأن هولندا هي التي استقبلت أعداداً كبيرة من المهاجرين اليهود من أسبانيا والبرتغال بعد محاكم التفتيش هناك؛ إذ وفرت لهم هولندا الحرية وسمحت لهم بممارسة شعائر دينهم دون تدخل خارجي. ونظراً لانتشار الرشدية بين يهود إيبيريا فقد حمل الكثير من المهاجرين اليهود الفكر الرشدي إلى هولندا، ومن هذا الطريق تعرف سبينوزا على أفكار ابن رشد. ولم يكن ليظهر مجتمع من الباحثين الذين كانوا على معرفة باللغات العربية والعبرية والإسبانية واللاتينية معاً إلا في هولندا القرن السابع عشر( )؛ فيهود إسبانيا المهاجرين إلى هولندا كانوا على معرفة بالعربية من خلفياتهم الأندلسية، وباللاتينية من محيطهم الأوروبي، وكانوا هم الذين نقلوا فكر ابن رشد إلى هولندا، وكان من السهل عليهم قراءة مؤلفات ابن رشد في أصولها العربية وترجماتها اللاتينية على السواء. ومن هذه البيئة الثقافية وعلى خلفيتها ظهر سبينوزا الذي كان متشبعاً منذ شبابه بالأفكار الرشدية، والدليل على ذلك إصدار المجلس اليهودي لقراره الشهير بحرمان سبينوزا وطرده من الجماعة اليهودية بعد كشفه علانية عن أفكار من الواضح تماماً أنها رشدية (مثل إنكار خلود النفوس الجزئية)، وذلك عندما كان سبينوزا في الثالثة والعشرين من عمره، أي قبل أن يطور فلسفة خاصة به.
نظر مؤرخو الفلسفة في أوروبا منذ أوائل عصر التنوير إلى مذهب ابن رشد على أنه مذهب في وحدة الوجود، وذلك إلى جانب الرواقية اليونانية وزينوفان وكثير من الفلاسفة الطبيعيين قبل سقراط( ). وما يلفت الانتباه في هذه القائمة ثلاثة أمور؛ الأول أن ابن رشد هو الأخير زمنياً في هذه القائمة، مما يعني أن تأثيره على مذهب وحدة الوجود في الفكر الغربي هو التأثير الأقرب والأقوى. والثاني أن هذه القائمة لا تحتوي على أرسطو، مما يعني أن الأوروبيين في هذا العصر قد استطاعوا معرفة أوجه الاختلاف الدقيقة بين ابن رشد وأرسطو، وأن لابن رشد مذهباً خاصاً به وليس مجرد شارح لأرسطو. والثالث أن مذهب سبينوزا قد اشتهر هو الآخر على أنه مذهب وحدة الوجود وفي نفس الفترة الزمنية، مما يعني أن عصر التنوير كان مدركاً لمدى القرب بين ابن رشد وسبينوزا وانتمائهما معا إلى مذهب واحد.
وكان ابن رشد هو الفيلسوف العربي الوحيد المدرج في القاموس الفلسفي لبيير بايل( )، وقد أضافه إلى طبعة 1701. وكان بايل لا يزال يقبل الرأي القائل إن الرشديين كانوا يمثلون بدقة فكر ابن رشد نفسه. ووفق هذه النظرة فقد ظهر ابن رشد في قاموسه على أنه أنكر الخلق الخاص للعالم والعناية الإلهية وخلود النفس الفردية، وهي نفس الاتهامات التي وجهت لسبينوزا، والتي ذكرها بايل نفسه في نفس القاموس. والشئ الوحيد الذي لم يذكره بايل هو هذا التطابق المذهل بين اتهامات ابن رشد واتهامات سبينوزا، وبالتالي فلم يعلن أن سبينوزا رشدي، لكن هذه هي النتيجة المنطقية المترتبة على كل هذا التطابق بينهما.
ومثلما تعرضت فلسفة ابن رشد لسلسلة طويلة من التحريمات والإدانات من العصور الوسطى عبر عصر النهضة إلى أوائل عصر التنوير، كذلك تعرضت فلسفة سبينوزا لتحريمات شبيهة بل ومتطابقة، مما يدل على مدى القرب بين فلسفتيهما. ونظراً لأن سبينوزا كان مواطناً هولندياً ولأن السبينوزية بدأت تنتشر من هولندا، فقد رأت السلطات الهولندية في مطلع القرن الثامن عشر ضرورة الإعلان عن الإدانة الرسمية لمذهب سبينوزا والأفكار السبينوزية. والحقيقة أن الإدانات والتحريمات في حق السبينوزية عديدة ومتنوعة واستمرت فترة طويلة من القرن الثامن عشر، لكن أهمها وأشملها هو إدانة السلطات الهولندية، ولذلك اخترناها بالذات لعرضها فيما يلي، ذلك لأنها تحمل قرباً مذهلاً من الرشدية.
بدأت السبينوزية تنتشر فى هولندا منذ سبعينيات القرن السابع عشر، أى فى حياة سبينوزا نفسه. وقد شعرت الحكومة الهولندية فى السنوات الأولى من القرن الثامن عشر أنها يجب أن تحدد موقفها من الفلسفة السبينوزية الجديدة التى بدأ بعض المفكرين الهولنديين يعتنقونها. ولذلك أنشأت لجنة اجتمعت فى مدينة زفولى Zwolle سنة 1704 بهدف إدانة فلسفة سبينوزا وكل أتباعها. وحددت اللجنة التى سميت باسم "لجنة زفولى" 17 نقطة فى السبينوزية تعارض المسيحية وتشكل تهديداً للدولة ذاتها( )، بما أن الدولة قائمة على مذهب مسيحى رسمى. وبعد أن أعلنت اللجنة أن السبينوزية هى حركة شبه دينية تحارب العقائد والقيم المسيحية، حددت النقاط التى تتعارض فيها السبينوزية مع الدين.
تدور النقاط الخمس الأولى حول مفهوم سبينوزا عن الجوهر، حيث إن هذا الجوهر هو الطبيعة التى تسير ذاتها بذاتها دون عناية إلهية، وأن الإله ليس مختلفاً جوهرياً عن الطبيعة، وأن الحتمية تشمل الطبيعة كلها وهى خالقة لذاتها. والنقطة السادسة تقول إن النفس والبدن ليسا كيانين مستقلين بل هما شئ واحد، مما يعنى فناء النفس مع البدن وإنكار وجود الملائكة والشياطين. وتقول النقطة السابعة إن الخير والشر ليسا موجودين على الحقيقة بل هما مجرد اختراع بشرى هدفه الحفاظ على طاعة العامة الجاهلة. والثامنة تقول: أن الحتمية الشاملة للطبيعة تنفى المسئولية الفردية وتنكر وجود قانون إلهى أو إله مشرع للإنسان. وتقول النقطة الحادية عشرة إن موت الإنسان على الأرض هو نهايته وفناؤه وأنه ليس هناك بعث أو حساب فى الآخرة. وتقول الثالثة عشرة أنه ليس هناك وحى إلهى وأن السلطة السياسية هى التى تفرض الدين ومؤسساته، وأن النصوص المقدسة ليس لها أى سلطة أعلى من سلطة نصوص أفلاطون وأرسطو وشيشرون وسينيكا. والخامسة عشرة تقول إن هناك ديناً فلسفياً عاماً أفضل من دين الوحى وأنه ليس هناك خلاص بالمسيح. والسادسة عشرة تقول إن النعمة ليست إلهية بل طبيعية وتتأسس فى قبول نظام الطبيعة الأزلى. وأخيراً تقول السابعة عشرة أن كل شئ مباح للحفاظ على الذات بما فى ذلك الكذب. ومن بين الأفكار المحرمة التى أعلنتها اللجنة أن الإله لا يفعل بحرية بل وفقاً لقوانين طبيعته التى ليست سوى الطبيعة المادية ذاتها.
ومن الواضح أن هذه النقاط قريبة للغاية من القضايا التي حرمت من أجلها الكنيسة فلسفة ابن رشد والسابق ذكرها، وهما يلتقيان في مواقف واحدة من الإله والطبيعة والنفس الإنسانية، وفي الموقف المشترك بين ابن رشد وسبينوزا وهو وحدة الوجود.
ويستحق القارئ منا تبريراً لإيراد كل هذه الاتهامات السابقة لفلسفتي ابن رشد وسبينوزا كطريقة للدخول إلى المقارنة النسقية المفصلة بينهما لإثبات التشابهات والتطابقات. فقد كان علينا تتبع الاتهامات والتحريمات التي أصدرتها الكنيسة في حق فلسفة ابن رشد منذ القرن الثالث عشر ومقارنتها بالاتهامات والتحريمات الشبيهة والمتطابقة التي صدرت في حق مذهب سبينوزا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وذلك بهدف الكشف عن الوحدة والتطابق بين أفكارهما. ولا يعني هذا أبداً أننا نوافق على هذه الاتهامات أو نقتنع بها. فقد اضطررنا إلى إيراد تلك الاتهامات اضطراراً، ولا نريد من القارئ أن ينظر إليها على أنها تمثل إدانة لمذهبي ابن رشد وسبينوزا، ولا نريد منه أن يساير هدف هذه الاتهامات وهو تكفير الاثنين وتبديعهما أو على الأقل اتهامهما بالهرطقة. صحيح أن القول بقدم العالم ووحدة الوجود وفناء النفوس الجزئية والقول بالخلود للنفس الكلية وحدها قد هوجم كثيراً، لكن الهدف الأساسي لهذه الدراسة هو الكشف عن دور هذه الأفكار - التي هي النتائج الفلسفية لمذهبي ابن رشد وسبينوزا – في بنية وتطور فكر عصر التنوير الذي حمل أفكاراً متطابقة مع تلك. كما يتمثل الهدف الآخر من هذه الدراسة في توضيح أن هذه الأفكار هي التوابع الفلسفية لتطبيق معيار العقل حكماً وحيداً. لقد كان عصر التنوير هو عصر العقل، وهذا ما جعل الأفكار الرشدية – السبينوزية جذابة بالنسبة لهذا العصر.
2) الأثر الرشدي غير المباشر على التنوير الراديكالي بتوسط سبينوزا:
كما تأثر المذهب التأليهى الإنجليزى Deism فى النصف الأول من القرن الثامن عشر بالأفكار السبينوزية. وينص هذا المذهب على الاعتراف بإله مع عدم اعتراف بالأديان التاريخية، والتى هى من وجهة نظره أقل شأناً بكثير من الدين الطبيعى، أى الدين العقلى الفطرى الذى يتوصل وحده إلى وجود إله للكون دون الاعتماد على سلطة الكتب المقدسة.
والحقيقة أن هناك تأثيراً خفياً لفلاسفة الإسلام على هذا المذهب( )، تأثيراً غير معترف به بالطبع من قبل المؤلهين الأوروبيين عامة. ذلك لأن دين العقل والفطرة الذى يتوصل إلى معرفة الإله بالتفكير الذاتى غير الموجه بأى آراء مسبقة هو ما سبق أن عبر عنه ابن سينا وابن طفيل والسهروردى فى القصة التى صاغوها بطرق مختلفة لكن ذات المضمون الواحد، وهى قصة حى بن يقظان( )، ذلك الإنسان الذى وجد نفسه وحيداً على جزيرة، وتوصل بفكره الفطرى الخاص إلى وجود الإله بتأمل الكائنات والوجود. ويميل أصحاب المذهب التأليهى إلى القول بأن الإله هو موجد العالم وحسب، وأنه يتركه يعمل وفق قوانينه الطبيعية دون تدخل، مما يعنى إنكار العناية الإلهية، كما يميلون إلى القول بقدم العالم وبنوع من وحدة الوجود، أى بوجود هوية كاملة بين الإله والعالم.
وقد تأثر كل المؤلهة الإنجليز بسبينوزا. إذ حاول جون تولاند John Toland (1670 – 1722) إثبات أن الدين المسيحى هو الدين الطبيعى للعقل الفطرى وسحب منه كل الأساطير والمعجزات ورفض القول بالحقيقتين، الدينية والفلسفية، وقال بأن الحقيقة واحدة يتم التعبير عنها بطريقتين دينية وفلسفية، وأن الطريقة الدينية للعامة والطريقة الوحيدة الصحيحة هى الفلسفية، وكان فى ذلك مكرراً لنفس نظرية ابن رشد والتي أعاد سبينوزا إنتاجها. وأقام فى أواخر حياته مذهباً فى وحدة الوجود يقول بقدم العالم وبالتماهى بين قدم الإله وقدم العالم( ). أما أنتونى كولنز Anthony Collins (1676 – 1729) فقد جعل العقل هو السلطة الأولى والأخيرة فى موضوعات الإيمان ونصبه حكماً على المسيحية، ورفض سلطة الكنيسة ورجال الدين ودافع عن الحتمية متأثراً فى ذلك بسبينوزا. وأما ماثيو تندال Matthew Tindal (1657 – 1733) فقد ذهب إلى أن العقل الإنسانى الحر هو وحده الذى يتوصل إلى وجود الإله وحقيقته وصفاته، وأنه إذا تعارضت النصوص المقدسة مع ديانة العقل الفطرية فيجب الاحتكام إلى العقل ورفض الصورة التقليدية عن الإله فى العهد القديم( ).
وكان التأثير السبينوزى على فلاسفة فرنسا الكبار فى القرن الثامن عشر واضحاً للغاية. لكن فى حين حاول المؤلهون الإنجليز إقامة دين طبيعى على أساس الفكر الحر والعقل الفطرى، جاهدين للتوفيق بينه وبين الدين المسيحى بعد تخليصه من سلطة الكنيسة والكتب المقدسة والخرافات والأساطير، رفض الفلاسفة الفرنسيون أى توفيق بين مذاهبهم والمسيحية، وكشفوا عن نزعة إلحادية صريحة فى سياق مذاهبهم المادية. لقد كانوا الأكثر عنفاً وجرأة فى القارة الأوروبية كلها، وشجعت أفكارهم فى نقد السلطة والمجتمع والدين على قيام الثورة الفرنسية.
كان سبينوزا هو الأب الروحى للتنوير الراديكالى الذى انتشر فى أوروبا القرن الثامن عشر، ومن أعلامه لامترى وديدرو ودالامبير الذين ألفوا عدداً كبيراً من المؤلفات، ابتداءً من الأربعينات، كانت كلها إلحادية ومادية وتناصر المذهب الطبيعى وتواجه سلطة الكنيسة ورجال الدين( )(وهذا بالطبع في نظر خصومها)، وكانت كذلك كاشفة عن راديكالية سياسية، ترفض التراتب الطبقى وتنكر على الأرستقراطية سيطرتها السياسية ومميزاتها الاقتصادية وتهاجم النظام الملكى.
فهم هذا التنوير الراديكالى فلسفة سبينوزا فهماً مادياً واستخدمها لإنكار الإله المفارق المشخص وتأليه الطبيعة. ولأن سبينوزا قد ساوى بين الإله والطبيعة، فقد نظر التنوير الراديكالى إلى هذه التسوية على أنها تعنى اختزال الإله فى الطبيعة وبالتالى القضاء على التصور التقليدى عن الإله؛ كما نظر إلى نظرية سبينوزا فى وحدة النفس والجسد على أنها تعنى القول بفناء النفس بموت الجسد وبالتالى إنكار البعث. وكذلك فهم أفكار سبينوزا حول ضرورة وحتمية قوانين الطبيعة وكون الإنسان جزءاً من هذه الحتمية على أنها تعنى القدرية وإنكار الحرية الإنسانية، وهو ما تحول فى مذاهبهم إلى نزعة مادية صريحة ومذهب طبيعى حتمى( ). ومن الواضح أن ما فهمه التنوير الراديكالي من فلسفة سبينوزا يتطابق مع نسق الأفكار الرشدية التي حرمتها الكنيسة منذ القرن الثالث عشر، وكأن سبينوزية التنوير الراديكالي قد أعادت إحياء الرشدية بحذافيرها.
وقد كان كانط يحمل فى خلفية تفكيره ويتذكر كل هؤلاء الفلاسفة الراديكاليون، وكان يعرف جيداً مدى تأثير سبينوزا عليهم، ولذلك رفض أفكارهم كلها وكان حريصاً على التوسط بينها وبين الأخلاق الدينية السائدة. وبالطبع فقد كان كانط على معرفة وثيقة بالإدانات والتكفيرات الصادرة في حق سبينوزا والسبينوزيين( ) والتي تكرر بحذافيرها نفس نقاط إدانة الرشدية في العصور الوسطى. وهكذا كان على كانط أن يختار تنويراً آخر وسيطاً، هو التنوير المحافظ المعتدل. فهو فى "نقد العقل الخالص" يوضح أن براهين خلود النفس ووجود الإله مجرد أغاليط ونقائض للعقل الخالص، لكنه يعود فى "نقد العقل العملى" إلى قبول كل ما قطع بعدم إمكان البرهنة عليه بالعقل النظرى، باعتبارها مسلمات للعقل الأخلاقى العملى، بهدف المحافظة على الأخلاق والدين وسلامة المجتمع والصالح العام. فقد كان كانط سبنيوزياً فى نظريته فى المعرفة ونقده للميتافيزيقا التقليدية، مؤمناً محافظاً فى نظريته الأخلاقية العملية. وهذا ما أدركه الكثير من معاصرى كانط وعلى رأسهم ياكوبى الذى ذهب إلى أن "نقد العقل الخالص" يدعم السبينوزية، وأن النهايات المنطقية لأفكار كانط فى هذا الكتاب تؤدى حتماً إلى السبينوزية. مما دفع كانط للرد بتأليفه لـ "نقد العقل العملى"، دفاعاً عن نفسه وإنقاذاً للإيمان والأخلاق من الشبهة التى علقت بفلسفته النظرية وكل ذلك فعله كانط دون أن يذكر اسم سبينوزا أو يناقش أفكاره صراحة فى "نقد العقل الخالص"، أو الإشارة السريعة العامة إليه فى "نقد العقل العملى" دفعاً لاتهامه بالسبينوزية. وهذا كله يدل على أن فلسفة سبينوزا التي أعادت إنتاج الرشدية أصبحت جزءاً من التنوير الأوروبى لايمكن فصله.
3) ابن رشد مستبق عصر التنوير:
لقد اخترنا هذا العنوان عن قصد ونحن نعلم أنه عنوان مقال شهير لتشارلز بتروورث( ). لكن في حين أن بتروورث قد وضع هذا العنوان في صيغة سؤال على سبيل الاستنكار وذهب في مقاله إلى أنه لا يمكن القول بأن لابن رشد تأثير مباشر على فلاسفة عصر التنوير، فإننا نحاول إثبات العكس التام بتوضيح الأثر الرشدي المباشر وغير المباشر على عصر التنوير؛ والأثر غير المباشر أتى من سبينوزا أساساً( ). صحيح أن ابن رشد لا يمكن النظر إليه على أنه فيلسوف تنويري على النمط الأوروبي الفرنسي للقرن الثامن عشر كما أراد بتروورث أن يثبت ذلك، إلا أن التأثير الرشدي على عصر التنوير الأوروبي لا يمكن إنكاره أبداً. فالنظر إلى ابن رشد على أنه فيلسوف تنويري على النمط الفرنسي للقرن الثامن عشر شئ، والنظر إليه على أنه مؤثر بطريق مباشر وغير مباشر على فكر عصر التنوير شئ آخر. ونحن نحاول إثبات هذين النوعين من التأثير، لا أن نقيس فكر ابن رشد على مقياس فرنسي من القرن الثامن عشر. فمن المنطقي أن يكون المتقدم مقياساً للمتأخر لا العكس.
هذا علاوة على أن بتروورث لا يزال يتمسك بالفكرة القائلة بأن ابن ابن رشد يتبنى نظرية ازدواجية الحقيقة، والتي تنص على أن الحقيقة نوعان، فلسفية ودينية. لكن ليست هناك ازدواجية للحقيقة عند ابن رشد كما سوف يتضح لنا. فالحقيقة عنده واحدة، لكن هناك طريقتين للتعبير عنها، الطريقة البرهانية الفلسفية والطريقة الدينية الخطابية الشعرية. والحقيقة أن ابن رشد قد استطاع عن طريق هذه الفكرة التعامل مع إشكالية العلاقة بين الشريعة والحكمة أو الدين والفلسفة، أو العقل والوحي، بطريق أفضل بكثير من طرق فلاسفة التنوير الفرنسيين، إذ رفض الأخيرون الدين جملة وتفصيلاً وتمسكوا بالعقل وحده، ولذلك جاء تنويرهم نخبوياً فلسفياً. والدليل على فشل تعاملهم مع قضية العلاقة بين العقل والدين أن الفلسفة المثالية الألمانية التالية مباشرة على عصر التنوير أعادت إدخال الدين مرة أخرى في خطابها الفلسفي وحاولت استيعابه بعقلنته وبإفراد جزء هام له في أنساقها الفلسفية وهو فلسفة الدين، وأبرز الأمثلة على ذلك مذاهب كانط وشلايرماخر وشلنج وهيجل.
إن ما يجعل ابن رشد مستبقاً وحده لعصر التنوير دون أي من معاصريه أو الذين تأثروا به من الوسيطيين أمثال ابن ميمون وتوماس الأكويني، هو أنه كان ملتزماً بالعقل إلى أقصى حد، ولم يقبل أن يضعه في خدمة اللاهوت، فالعقل لديه هوالطريق الوحيد الموصل إلى الحقيقة، والحقيقة واحدة لديه، وإذا ما تعارضت نصوص دينية مع العقل فيجب تأويلها. هذا الموقف الرشدي من العقل هو الذي أثر على عصر التنوير، وهو الذي عاود الظهور في ذلك العصر. إن عقلانية ابن رشد هي المستبقة لعقلانية عصر التنوير، وهي السلف المباشر لها. كذلك فإن موقفه الحاسم والحازم من قضية العلاقة بين الفلسفة والدين أو العقل والإيمان، ذلك الموقف الذي لم يقبل أية حلول وسطى توفيقية، هو الموحي المباشر لسبينوزا كما يتضح من كتابه الشهير "رسالة في اللاهوت والسياسة" والذي كان له أبلغ الأثر على عصر التنوير. هذا بالإضافة إلى أن إيمان ابن رشد بالقدرة اللامحدودة للعقل تجعله المرشح الأول والوحيد بين الوسيطيين ليكون مستبق عصر التنوير، في حين أن ابن ميمون والأكويني ظلا يتمسكان بالنظرية القائلة بمحدودية العقل وقدراته المتناهية.
ثالثاً – المعرفة والخطاب، والحقيقة والتأويل:
سوف تكون طريقتنا في تتبع التأثير الرشدي على عصر التنوير في كل موضوع نتناوله هي البدء بالكشف عن موقف ابن رشد في ذلك الموضوع، ثم العثور على التشابهات والاتفاقات والتطابقات بين هذا الموقف وموقف سبينوزا، وأخيراً الكشف عن أصداء كل ذلك على أبرز التنويريين الأوروبيين.
1) نظرية المعرفة:
يتفق ابن رشد وسبينوزا في نقطة انطلاق أساسية وهي تحديد أنواع القدرات المعرفية للإنسان. فهما يتفقان في أن للإنسان ثلاث ملكات معرفية: العقل والحس والخيال. والعقل وحده هو الموصل إلى الحقيقة، والخطأ مصدره اختلاط الحقيقة بخداع الحواس وإيهامات الخيال. وقد ذهب ابن رشد إلى إرجاع الاعتقاد في جسمية الله وتشبيهه إلى سيطرة الخيال على تفكير الجمهور، فهم لا يستطيعون تصور شئ موجود إلا إذا كان جسماً. ولذلك أوصى بنهي العامة عن السؤال في الآيات التي تحمل في ظاهرها التشبيه والتجسيم، ويورد لذلك أحد الأسباب التي يقول عنها: "...أن الجمهور يرون أن الموجود هو المتخيل والمحسوس، وأن ما ليس بمتخيل ولا محسوس فهو عدم". ولأن الجمهور يصعب عليهم تخيل شئ في لا مكان فقد صعب عليهم تصور أن الله بدون مكان: "ولا سيما إذا قيل: إنه لا خارج العالم ولا داخله، ولا فوق ولا أسفل"( ).
وإذا أتينا إلى سبينوزا نجده يكشف عن نفس الموقف من الخيال، ونفس التمييز بين العقل والخيال. وهذا ما يظهر في قوله: "... فكلما زاد الخيال قل الاستعداد لمعرفة الأشياء بالذهن الخالص، وعلى العكس من ذلك نجد أن من يتفوقون في الذهن ويحرصون على تنميته تكون قدرتهم على التخيل أكثر اعتدالاً وأقل انطلاقاً، وكأنها حبيسة لا تختلط بالذهن... إن مجرد الخيال لا يتضمن بطبيعته اليقين، على نحو ما تتضمنه كل فكرة واضحة ومتميزة..."( ). لكن في حين أننا نجد التمييز بين هذه الملكات الثلاث واضحاً لدى ابن رشد، فإننا نجد تمييزاً إضافياً لدى سبينوزا لما أسماه أنواع المعرفة. إذ قسمها إلى ثلاثة أنواع: المعرفة من النوع الأول وهي المعرفة الحسية، والمعرفة من النوع الثاني وهي المعرفة الاستدلالية، والمعرفة من النوع الثالث وهي المعرفة الحدسية. والمعرفة الحسية خاطئة ولا يمكن التعويل عليها، أما المعرفتين الاستدلالية والحدسية فهما الموصلان إلى اليقين . المعرفة من النوع الأول (الحسية) هي ما أطلق عليه ابن رشد "بادي الرأي". والمعرفة من النوع الثاني، أي الاستدلالية هي ما يقابل البرهان عند ابن رشد.
لكن أين هي المعرفة من النوع الثالث لدى سبينوزا، المعرفة الحدسية؟ الحقيقة أننا نجدها أيضاً لدى ابن رشد وهي ما أطلق عليه "أوائل العقول" في أحيان، ونور العقل في أحيان أخرى. وكل الفرق بينهما هو في الترتيب؛ فسبينوزا يرتب أنواع المعرفة حسب درجة اليقين فيها، فيبدأ بالحس ثم الاستدلال العقلي منتهياً بالحدس، أما ابن رشد فإن المرتبة الأولى في المعرفة هي أوائل العقول التي هي المعرفة الحدسية الصادقة والتي ينبني الاستدلال العقلي على أساسها، وهي المسلمات البديهية في مجال المنطق والرياضيات، من مثل أن الكل أكبر من الأجزاء، وأن المساويان لثالث متساويان. أما الخيال فليس مصدراً للمعرفة أصلاً لديهما، ولا يوصل إلى اليقين بل هو مصدر الخطأ، لكونه مختلطاً بالأهواء والانفعالات. وهما في ذلك يختلفان معاً عن كل من جعل للخيال دوراً معرفياً قبلهما وبعدهما، فقبلهما نجد الفارابي وابن سينا وأفكارهما حول دور الخيال في تصوير الحقائق العقلية في صورة حسية( )، ومن بعدهما نجد كانط الذي ألحق بالخيال وظيفة معرفية مركزية وهي الربط والتوسط بين الحدوس الحسية والتصورات العقلية والقيام بدور المعبر وحلقة الوصل بينهما( ).
كما يتفقان كذلك في الذهاب إلى أن العقل وحده هو القادر على التمييز بين الصدق والكذب والحقيقة والوهم، أما الخيال فهو مصدر الخطأ. وكانت حلقة الوصل بين ابن رشد وسبينوزا في هذه النقطة بالذات هي موسى بن ميمون، الذي تبنى نفس التمييز الرشدي في دلالة الحائرين، وأخذه منه سبينوزا بعد ذلك( ).
2) أنواع الخطاب والموقف من التصريح بالتأويل:
أما عن أنواع الخطاب فقد تبني ابن رشد التقسيم الأرسطي له إلى برهان وجدل وخطابة وسفسطة وشعر، وأرجع كل خطاب إلى فئة اجتماعية. فالبرهان هو خطاب الخاصة من الفلاسفة، وهو يعتمد على المقدمات الأولية اليقينية المبرهن عليها عقلياً، والجدل هو الخطاب الذي ينفع مع العامة لكونه يعتمد على المقدمات المشهورة، والخطابة هي خطاب العامة الذي يلجأ إلى إقناعهم بالتحسين والتقبيح والمدح والذم اعتماداً على ما لديهم من حس أخلاقي. أما السفسطة فهي الخطاب المغالط الذي لا يهدف إلا إلى الخداع والإيهام وإيقاع الخصم في التناقض دون الوصول إلى الحقيقة. وقسم ابن رشد مواقف الناس من الشريعة ثلاثة أقسام: جمهور وجدليون وحكماء. ويجب حمل الشريعة على ظاهرها للجمهور والجدليين لأنهم ليسوا من أهل النظر العقلي، بل يعتمدون على المشهورات، أما التأويل فهو خاص بالحكماء الفلاسفة وحدهم، لتمكنهم من قواعد البرهان العقلي. الخطابة تصلح مع الجمهور وهم ليسوا أهل نظر أو فكر، وبالتالي لا يجب أن يطلعوا على نتائج العلوم البرهانية، إذ هي لديهم كفر. يقول ابن رشد: "وهذا التأويل ليس ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل، فضلاً عن الجمهور. ومتى صرح بشئ من هذه التأويلات إلى من هو من غير أهلها، وبخاصة التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف المشتركة، أفضى ذلك بالمُصرِّح به والمصرح له إلى الكفر"( ). والجدليون أيضاً لا يجب أن يطلعوا عليه لما ينتج عن ذلك من بلبلة فكرية مثل التي أحدثها الغزالي وخاصة في كتابه "تهافت الفلاسفة".
وإذا فحصنا فكر سبينوزا نجده قد تبنى التقسيم الرشدي لموقف الناس من الدين، لكن مع بعض التعديلات الجوهرية. فالناس عند سبينوزا صنفان لا ثلاثة كما كان الحال عند ابن رشد: العامة والفلاسفة، ولا يوجد لدى سبينوزا جدليون. فالدين عند سبينوزا موضوع من أجل العامة لحملهم على الطاعة، وفي ذلك يقول: "وسأبين أن الكتاب [يقصد الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد] يعلم هذه العقيدة [التي هي طاعة الله بروح خالصة، بممارسة العدل والإحسان( )] على قدر أفهام ومعتقدات أولئك الذين اعتاد الأنبياء والحواريون تبشيرهم بكلام الله، وهو تحوط كان ضرورياً من أجل ضمان إيمان الناس جميعاً دون مقاومة أو تحفظ"( ).
والدليل على أن الناس عند سبينوزا هم إما عامة أو فلاسفة أنه يتوجه بكتابه إلى الفلاسفة ولا يهمه العامة. ومع العلم بأن كتاب سبينوزا منشور لكل الناس، فلاسفتهم وعامتهم، فإن كتابه هذا يعد كشفاً للعامة عن أسرار التأويل التي طالما حذر ابن رشد من الكشف عنها للعامة. يقول سبينوزا: "قارئي الفيلسوف، هذا هو الكتاب الذي أضعه بين يديك... إنني أعتقد أن الفلاسفة يعرفون بالتفصيل أهم ما في هذا الموضوع. أما غير الفلاسفة فإني أنصحهم بألا يقرأوا رسالتي هذه لأني لا أرى سبباً يجعلني آمل أن يحظى الكتاب بقبولهم. والواقع أني أعلم مدى تشبع نفوسهم بالأحكام المسبقة [التي هي المشهورات عند ابن رشد] التي يعتنقها كثير من الناس باسم التقوى، كما أعلم أنه يستحيل تخليص نفوس العامة من الخرافة ومن الخوف، فالعناد شمتهم؛ إذ لا يحكمهم العقل بل يسيرهم الانفعال في إصدار المدح أو اللوم [وذلك لأنهم خطابيون كما ذهب ابن لرشد]. ولذلك فإني لا أدعو العامة أو من يسيرون على هدى انفعالاتهم إلى قراءة هذا الكتاب"( ). وعلى الرغم من أن سبينوزا لا يدعو العامة إلى قراءة كتابه، إلا أن مقولته هذه تختلف تماماً عن دعوة ابن رشد لمنع العامة من الاطلاع على النتائج التأويلية للعلوم البرهانية، ذلك لأن سبينوزا يوجه كتابه بالفعل لجمهور واسع جداً من القراء بفضل انتشار الطباعة في عصره، ولذلك كان مصيره هو ما تنبأ به ابن رشد عندما قال الأخير: "وأما المصرح بهذه التأويلات لغير أهلها فكافر لمكان دعائه الناس إلى الكفر"( )؛ أي بسبب اعتقاد الناس فيه أنه يدعوهم إلى الكفر وهذا غير صحيح، لكن كان هذا بالفعل هو اعتقاد الناس في سبينوزا.
كما أن سبينوزا قد خرج عن تحذيرات ابن رشد، والتي كررها ابن ميمون من بعده( )، من كشف نتائج البرهان وأسرار التأويل للعامة، وكان موقفه من العامة أشد وأقسى. يقول سبينوزا: "إن الخرافة هي أكثر الوسائل فاعلية لحكم العامة. ولذلك كان من السهل باسم الدين دفع العامة تارة إلى عبادة الملوك كأنهم آلهة وتارة أخرى إلى كراهيتهم ومعاملتهم وكأنهم طامة كبرى على الجنس البشري"( ). صحيح أن ابن رشد قد وضع العامة في المرتبة الدنيا من المعرفة والقدرات العقلية وأوصى بحملهم على ظاهر النصوص وبعدم التصريح لهم بالتأويل، لكنه لم يكن عنيفاً في موقفه معهم صريحاً في نقدهم مثلما نجد لدى سبينوزا.
3) حقيقة واحدة وطريقتان للتعبير عنها:
يشترك ابن رشد وسبينوزا في الاعتقاد في الحقيقة الواحدة، مع وجود طريقتين للتعبير عنها، الطريقة الفلسفية والطريقة الدينية. الطريقة الفلسفية عقلية برهانية، والطريقة الدينية رمزية شعرية خطابية. ومصدر الحقيقة واحد لديهما وهو نور العقل أو النور الفطري. وكل الفرق بينهما في هذه النقطة يتمثل في أن سبينوزا قد أول النبوة ذاتها على أنها هي النور الفطري لكن الذي يقدم نفسه للنبي في صورة رمزية وحسية. وبذلك فهما يختلفان عن كل من يقول بالحقيقتين ثم يحاول التوفيق بينهما، مثل الفلسفة المدرسية وعلى رأسها ألبرت الكبير والقديس توماس الأكويني، وكانط الذي لديه هو الآخر حقيقتين، حقيقة العقل النظري وحقيقة العقل العملي. ومن هنا نستطيع القول بأن نظرية الحقيقة الواحدة الرشدية والمستمرة لدى سبينوزا كانت أحد أهم الأفكار التنويرية التي برزت في عصر التنوير، خاصة على أيدي فولتير وروسو وديدرو.
أما عن تبرير مشروعية الفلسفة والنظر العقلي فهما يتفقان في جانب ويختلفان في جانب آخر. فالإثنان يتفقان في فحص النصوص الدينية للعثور على تبرير للنظر العقلي، ويختلفان في أن ابن رشد يبرر النظر العقلي عن طريق النص الديني بإثبات أن الشرع يحث عليه ويأمر به، أما سبينوزا فيقيم فصلاً حاداً بين الخطاب الديني والخطاب العقلي الفلسفي وينتهي إلى أنه ليس هناك أي صلة بينهما، مما يترك العقل حراً ولا يجعل للكتاب المقدس أي قيد عليه. إذ يذهب ابن رشد إلى تبرير التفلسف عن طريق إثبات أن الشرع نفسه يحض على النظر العقلي في الموجودات للوصول إلى حكمة الصانع. يقول ابن رشد: "وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، وهذا هو القياس أو بالقياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي"( ). أما سبينوزا فإنه لا يلجأ إلى الكتاب المقدس ليبحث فيه عن مبررات للنظر العقلي، بل يحدد له مجاله الذي لا يمكن أن يتعداه وهو أساليب مخاطبة العامة التي ليست عقلية فلسفية بطبيعتها، وبالتالي ينتهي إلى أنه ليست له علاقة بالفلسفة أصلاً سواء بالسلب أو الإيجاب، يقول سبينوزا عن طريقة الكتاب المقدس في إقناع العامة: "... وكل ما في الأمر أن هذه التعاليم قد عُرضت بأسلوب شاعري واستندت إلى أقدر الحجج على حض عامة الناس على طاعة الله. وبناء على ذلك فقد اقتنعت اقتناعاً تاماً بأن الكتاب يترك للعقل حريته الكاملة، وبأنه لا يشترك مع الفلسفة في شئ، بل لكل منهما ميدانه الخاص"( ).
كما أن أساس التأويل عند ابن رشد وسبينوزا واحد، وهو فهم النص بتخليصه مما فيه من خيال ورمز. إذ يذهب ابن رشد في "فصل المقال" إلى أن التعارض بين النص الديني والعقل تعارض ظاهري، ويجب أن يؤول النص للتوصل إلى معناه الحقيقي من خلف رمزيته. فالنص حسب ابن رشد موضوع لأفهام العامة ويسلك حسب طرقها في الفهم، وبالتالي يستخدم الرمز والتخييل والصور الحسية كي يقرب فهم العامة من إدراك الغيبيات مثل ذات الله وقدرته وطبيعته. وهي نفس طريقة سبينوزا في التأويل. وكل الفرق أن سبينوزا لديه نظرية مستقلة في الخيال وضعها في كتابه "الأخلاق". أما ابن رشد فيعتمد على النظرية الأرسطية في التمييز بين الخيال والعقل( )؛ لكنه يضيف إلى أرسطو ربط الخيال بفهم العامة والعقل بفهم الفلاسفة. يقول ابن رشد: "وأما الأشياء التي لخفائها لا تُعلم إلا بالبرهان، فقد تلطف الله فيها بعباده الذين لا سبيل لهم إلى البرهان...بأن ضرب لهم أمثالها وأشباهها، ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال إذا كانت تلك الأمثال يمكن أن يقع التصديق بها الأدلة المشتركة للجميع، أعني الجدلية والخطابية..."( ).
والحقيقة أن ابن رشد وسبينوزا يقيمان العامة تقييماً سلبياً لأنها لا تستطيع أن تفهم الحكمة نظراً لقدراتها العقلية البسيطة. ومعروف عن ابن رشد حذره من العامة وتحذيره المتكرر من الكشف عن التأويل لهم لما فيه من شبهة الكفر، التي يلحقونها بالذي يكشف عن التأويل لهم، والتي تلحق بالكاشف لهم عن التأويل لأنه يخرجهم عن الملة بجعلهم يتشككون. ويشترك معه سبينوزا في ضرورة ترك العامة لفهمها الخطاب الشعري التخييلي للنص وعدم إقلاقها بأكثر من ذلك. وكل الفرق أن سبينوزا قد هاجم العامة هجوماً عنيفاً في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة" متهماً إياها بالإيمان بالخرافات والخضوع للأهواء والانفعالات وسيطرة الطمع والخوف والحسد والغيرة عليهم والاهتمام بالمصلحة الشخصية المباشرة( )، أما ابن رشد فلم يكن عنيفاً هكذا مع العامة، بل كان حريصاً على التعامل معهم بطريقة تحفظ سلامة المجتمع، ولم يكن يستخدم كلمة "العامة" كثيراً بل كان يفضل استخدام كلمة "الجمهور". ولعل السبب في اعتدال وعقلانية ابن رشد في تعامله مع العامة يرجع إلى أنه كان قريباً منهم بحكم وظيفته كفقيه وقاضي قضاة قرطبة.
وفي مقابل نظرية الحقيقة الواحدة لدى ابن رشد وسبينوزا نجد في الفكر الأوروبي في عصر التنوير استمراراً للتمسك بفكرة الحقيقتين، وأبرز الأمثلة على ذلك باسكال ومالبرانش وكانط. ولنأخذ كانط باعتباره الفيلسوف الأشهر. فبعد أن قطع كانط بعدم إمكانية البرهنة على وجود النفس وروحيتها واستقلاها عن البدن وخلودها، أو على وجود الله، وذلك في "نقد العقل الخالص"، عاد في "نقد العقل العملي للتسليم بكل ما رفض إمكانية البرهنة عليه، صيانة للأخلاق والسلوك العملي. ولذلك ظهرت في فلسفته حقيقتان، حقيقة للعقل النظرى وحقيقة للعقل العملى. الأولى حقيقة عقلية والثانية حقيقة إيمانية، ولكانط عبارة شهيرة يقول فيها إنه قيد العقل لإفساح المجال للإيمان. كان كانط لا يزال يرى تعارضاً بين العقل والإيمان، وربما يرجع السبب فى ذلك إلى الدين المسيحى الملئ بالأسرار التى تتجاوز نطاق وقدرة العقل البشرى مثل التجسد والثالوث والبعث (بعث المسيح من الموت). أما ابن رشد وسبينوزا فهما على العكس منه يقولان بحقيقة واحدة وطريقتين للتعبير عنهما. والتعارض بين العقل والوحى عندهما ليس تعارضاً حقيقياً بل ظاهرياً يتم القضاء عليه بتأويل الوحى تأويلاً عقلانياً. وكل ما يكشف عنه الوحى عندهما يمكن للعقل وحده اكتشافه. لكن العامة عندهما ليست قادرة ولا مؤهلة لاستخدام العقل ولا للبرهان، ولذلك يقدم لها الدين الحقيقة بالطريقة التى تفهمها، أى بالطريقة التخيلية الرمزية الشعرية الخطابية. ولهذا السبب لا نجد عند كانط تأويلاً للنص الدينى، فكانط لم يتعامل أبداً مع النصوص الدينية على الرغم من أن مؤلفاته تحوى كتاباً يسمى "الدين فى حدود العقل وحده". ويظهر لنا من هذا أن عقلانية ابن رشد وسبينوزا كانت أكثر اتساقاً وانضباطاً، لكونها تستند على نظرية الحقيقة الواحدة، أما كانط فقد كرر نظرية الحقيقتين الوسيطية، ربما دون وعي منه، كمحاولة منه للتوفيق بين ما اعتقد خطأ أنه تعارض بين العقل والإيمان.
رابعاً – نظام الطبيعة:
1) الضرورة والحتمية والثبات:
الحقيقة أن من أهم النظريات الرشدية – السبينوزية المؤثرة على عصر التنوير، والمستمرة معلماً أساسياً لذلك العصر، هي نظرية الطبيعة باعتبارها نظاماً حتمياً ثابتاً لا يتغير، يحوز في داخله على مبدأ حركته وتغيره. فقد كانت هذه النظرية هي الأساس الذي ازدهر منه العلم الحديث منذ البدايات الأولى من عصر التنوير، وخاصة لدى نيوتن.
ولم يكن ابن رشد وسبينوزا ينظران إلى الطبيعة على أنها تسير ذاتها بذاتها، بل على أنها تجلٍ لفاعلية الله الدائمة والأزلية. ولذلك ارتبطت النظرة العلمية لديهما بالحتمية الطبيعية وقدم العالم ووحدة الوجود؛ وهو الارتباط الذي ظهر واضحاً لدى أصحاب وحدة الوجود والمؤلهة الإنجليز وعلى رأسهم جون تولاند وأنتوني كولينز.
يتفق سبينوزا مع ابن رشد في القول بأن كل ما في العالم ضروري وحتمي لأنه صادر عن حكمة الله وسنته في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً؛ وعن ضرورة الطبيعة الإلهية. يقول سبينوزا: "لا شئ عارض [اتفاقي] في الكون، بل كل الأشياء مشروطة للوجود والفعل بطريقة مخصوصة عن طريق ضرورة الطبيعة الإلهية"( )؛ ويقول أيضاً: "إن الأشياء لا يمكنها أن تأتي إلى الوجود عن طريق الإله بأي طريقة أو أي نظام مختلف عن الذي أتت عليه"( ). ويقول ابن رشد: "...العالم ليس يمكن أن يكون أصغر مما هو أو أكبر"( ). ويذهب ان رشد إلى نقد الذين يقولون بجواز أن يخلق الله العالم على هيئة أخرى غير التي خلقه عليها، ويجعل له طبائع مختلفة عما هي موجودة فيه، أو يجعل حركة الأفلاك عكس حركتها التي هي عليها، ويقول في ذلك: "وهذا كله من فعل من لم يفهم تلك الطبائع الشريفة، والأفعال المحكمة التي كونت من أجلها، وشبه علم الله تعالى بعلم الإنسان الجاهل"( ). يرد ابن رشد بذلك على إنكار الأشاعرة والغزالي للطبائع والأسباب وقبولهم بالتجويز والاتفاق في العالم بحجة أنهما يدلان على قدرة الله في أن يفعل ما يشاء متجاوزاً قوانين الطبيعة. كما يدافع ابن رشد عن العقل والعلم والضرورة في العالم من حيث إنها الدليل على وجود الصانع بقوله: "وينبغي أن تعلم أن من جحد كون الأسباب مؤثرة بإذن الله في مسبباتها، أنه قد أبطل الحكمة وأبطل العلم... والقول بنفي الأسباب في الشاهد ليس له سبيل إلى إثبات سبب فاعل في الغائب"( )؛ كما يقول في "تهافت التهافت": "ولو ارتفعت الضرورة عن كميات الأشياء المصنوعة وكيفياتها وموادها كما تتوهمه الأشعرية في المخلوقات مع الخالق، لارتفعت الحكمة الموجودة في الصانع وفي المخلوقات... وهذا كله إبطال للعقل والحكمة"( ).
ويكاد هذا المعنى يتطابق مع ما ذهب إليه سبينوزا عندما نقد تصور العامة عن قدرة الله باعتبارها مناقضة لقدرة الطبيعة وأنها لا تظهر إلا في تعطيل قوانين الطبيعة. يقول سبينوزا: "...وهم [العامة] يعتقدون أن أوضح برهان على وجود الله وهو الخروج الظاهر على نظام الطبيعة... يظن العامة أن الله لا يفعل في الطبيعة ما دامت تسير على نظامها المعتاد، وبالعكس تبطل فاعلية الطبيعة وعللها الطبيعية عندما يفعل الله... ولا تبدو لهم قدرة الله أحق ما تكون بالإعجاب إلا إذا تصوروا قدرة الطبيعة وكأنها مقهورة على يد الله"( ). ويرد سبينوزا على كل ذلك بتأكيده على الضرورة الطبيعة والحتمية: "لا يحدث شئ مناقض للطبيعة، فالطبيعة تحتفظ بنظام أزلي لا يتغير..."( ).
وإذا اطلعنا على عصر التنوير سنجد أن الملمح الأساسي فيه هو الاعتقاد في نفس ما دعا إليه ابن رشد وسبينوزا من ثبات للطبيعة وقوانينها، وضرورة وحتمية هذه القوانين.
2) قدم العالم ووحدة الوجود:
كان الاعتقاد في قدم العالم ووحدة الوجود قاسما مشتركاً بين ابن رشد وسبينوزا، وهو ما ورثه التنويريون الأوروبيون من التراث الفلسفي القديم ومن سبينوزا على وجه الخصوص. وما يدفعنا نحو القول بالتأثير الأكبر والحاسم لابن رشد على سبينوزا أن أياً من الفلاسفة اليهود الذين قرأ لهم سبينوزا لم يكونوا يقولون لا بقدم العالم ولا بوحدة الوجود، من موسى بن ميمون إلى ليفي بن جرشوم (1288-1344) وحسداي كريسكاس (1340-1411). وبالتالي فإن ابن رشد وحده من بين الفلاسفة القدماء هو الذي كشف في مذهبه عن قدم العالم من جهة، ووحدة الوجود من جهة أخرى، ونظرية متكاملة تجمع بينهما من جهة ثالثة؛ ذلك لأنه لا يمكن القول بقدم العالم إلا في إطار وحدة الوجود. ولا نجد لجمع سبينوزا بين هذين الجانبين – مع رفض لنظرية الصدور الأفلاطونية المحدثة الظاهرة لدى الفارابي وابن سينا وجيوردانو برونو( ) - من سابقة تاريخية أقرب من ابن رشد. ذلك لأن ابن رشد هو الفيلسوف الوحيد الذي استطاع الجمع بين قدم العالم ووحدة الوجود في مذهب مطور عن أرسطو مباشرة متجنباً الإطار الصدوري الأفلاطوني المحدث لهذا الجمع على يدي الفارابي وابن سينا من قبله وبرونو من بعده. وسبينوزا يتفق تماماً مع ابن رشد في الجمع بين قدم العالم ووحدة الوجود في إطار غير صدوري وليس أفلاطونياً محدثاً( ).
يقول ابن رشد فى إثبات قدم العالم: "وذلك أن الله تعالى لم يزل قادراً على الفعل، فليس هاهنا ما يوجب امتناع مقارنة فعله على الدوام لوجوده .. وهو .. لا يكون قادراً فى وقت ويكون قادراً فى وقت آخر. ولا يقال إنه قادر إلا فى أوقات محدودة متناهية، وهو موجود أزلى قديم"( )؛ أى أنه بما أن الله أزلى فقدرته أيضاً أزلية، ولأن قدرته فاعلة على الدوام فإن العالم الصادر عن فعله موجود على الدوام؛ ولا يمكن فى حق الله أن يقدر على الفعل فى أوقات محدودة، لأن هذا ينطوى على القول بأن قدرته ليست مستمرة على الدوام بل فاعلة فى أوقات ومتوقفة فى أوقات. وإذا كان ذلك كذلك فإن العالم الذى هو فعل الله مستمر فى الوجود وأزلى لأن فعل الله أزلى لا يتوقف.
ولابد لنا في هذا المقام أن نميز بين قدم العالم عند ابن رشد وعند سابقيه. كان الفارابي وابن سينا قد قالا بقدم العالم قبل ابن رشد، واعترض عليهما الغزالي بحجة أن القول بقديمين يعد شركاً بالله وخروجاً عن الدين. لكن الشرك الحقيقى هو فى القول بشركاء للإله الواحد، أى بإلهين أو أكثر. أما القول بقدم العالم فليس بشرك عند ابن رشد، لأن قدم العالم عنده لا يعنى أن العالم شريك للإله، ولا يعنى كذلك نقصاًَ فى وحدانية الإله؛ فالإله يبقى واحداً مع قدم العالم، ويبقى العالم من صنعه وإبداعه مع كونه قديماً، وذلك بناء على أن العالم هو فعل الإله الدائم والمستمر والأبدى، ولا يمكن تأخر المفعول عن فعل الفاعل، أى الإله. ولذلك نقد ابن رشد فكرة تراخى الإرادة عند الغزالى والأشاعرة. لكن لا يمكن التوفيق بين إله قديم وعالم قديم دون الوقوع فى القول بوجود قديمين إلا بناء على مذهب وحدة الوجود؛ أى بالذهاب إلى أن القديم واحد، إله وفعل لهذا الإله، وفعل الإله هذا قديم مثله وهو العالم. فالتوفيق الحقيقى هو التوحيد بين الإله وفعله، أى الإله والعالم. أما القول بوجود عالم منفصل ومختلف عن الإله حتى ولو كان محدثاً فهو نقص فى وحدانية الإله؛ لأن الإله الواحد الحق هو الذى لا يقع أى شئ خارجه، ولا يقف أى شئ فى مقابله فى تناقض معه، كأن يكون الإله قديم والعالم محدث، فكيف يكون فعل الإله محدثاً؟ وكأن يكون الإله روحياً والعالم مادياً، وكأن يكون الإله مفارقاً للعالم وكأنه فى مكان فوق العالم أو خارجه. فمفارقة العالم إثبات لمكانية الإله أيضاً.
وقدم العالم عند ابن رشد يسير في إطار نظرية أشمل في وحدة الوجود، وهي في الحقيقة نظرية مبتعدة تماماً عن الأفلاطونية المحدثة. يقول ابن رشد: "فيلزم أن تكون أفعال الفاعل الذى لا مبدأ لوجوده ليس لها مبدأ كالحال فى وجوده"( )؛ أى أن أفعال الفاعل، التى هى العالم، لا متناهية وقديمة، لأنها أفعاله. هذا هو التوحيد بين الإله وفعله، أى الإله والعالم الذى هو فعله. ابن رشد يتبنى مذهب وحدة الوجود على نحو أكثر وضوحاً من أرسطو ومدرسته.
ويستمر ابن رشد ويقول: "وإذا كان ذلك كذلك، لزم ضرورة أن لا يكون واحد من أفعاله الأولى شرطاً فى وجود الثانى، لأن كل واحد منهما هو غير فاعل بالذات. وكون بعضهما قبل بعض هو بالعرض"( ). يحتوى هذا النص على نقد لنظرية الصدور الأفلاطونية المحدثة وأتباعها المسلمين مثل الفارابى وابن سينا. لأن نظرية الصدور هى التى تقول بما تنكره عبارة ابن رشد السابقة، أى تقول بصدور فعل أول عن المبدأ الأول، وفعل ثان يصدر عن هذا الفعل الأول، أما ابن رشد فينكر صدور فعل أول ثم فعل ثان عن المبدأ الأول تتابعياً، وينكر أيضاً صدور فعل ثان عن الفعل الأول للمبدأ الأول، لأن فعل الفاعل عنده لا يقدر على إيجاد فعل بنفسه، إذ أن فعل الإله واحد ونتاج هذا الفعل واحد. إن نظرية الصدور تؤدى إلى القول بتعدد الأفعال الصادرة عن الإله، وبأفعال تصدر عن أفعال من ذاتها، فى حين أن ابن رشد يقول بفعل واحد وبعدم قدرة نتاج الفعل على إنتاج فعل آخر من ذاته. وهذا أيضاً ما يؤكد نظرتنا لفلسفة ابن رشد على أنها وحدة وجود. (قارن مع سبينوزا فى قوله بأن الأشياء تفعل بالإله).
كما يميز ابن رشد بين قدم الله وقدم العالم. قدم الله من ذاته وقدم العالم من غيره. قدم الله ليست له علة، وقدم العالم له علة، لكنها ليست علة تخرجه من العدم إلى الوجود لأن العالم قديم، بل هى علة تخرج ما فيه بالقوة إلى الفعل، وهى أيضاً العلة المحركة له. يتشابه هذا التمييز مع تمييز سبينوزا بين لا تناهى الجوهر ولا تناهى الأحوال. لا تناهى الجوهر مواز لقدم الله عند ابن رشد، لأن جوهر سبينوزا بدون علة، أما لا تناهى الأحوال فهو لا تناهى تغيرها وحركتها الدائمة إلى ما لا نهاية، وهو ليس لا تناه فى ذات الأحوال بل هو لا تناه تابع للاتناهى الجوهر.
وينفي ابن رشد الزمانية عن الإله، لكنه لا ينفيها عن العالم، ذلك لأنه يعتقد في نوعين من الأزلية: الأزلية اللازمانية والأزلية الزمانية. الأزلية اللازمانية هي أزلية الإله الثابتة التي لا يلحقها تغير أو حركة لأنه هو المحرك الذي لا يتحرك، ولأنه لا يتحرك فلا يمر عليه زمان. أما أزلية العالم فهي زمانية، أي آتية من الحركة الدائمة له. يقول ابن رشد: "... فإن من لا يساوق وجوده الزمان ولا يحيط به من طرفيه يلزم ضرورة أن يكون فعله لا يحيط به الزمان ولا يساوقه زمان محدود، وذلك أن كل موجود فلا يتراخى فعله عن وجوده إلا أن يكون ينقصه من وجوده شئ، أعنى ألا يكون على وجوده الكامل"( ).
يميز ابن رشد بين الأزلية بالجنس والحدوث بالأجزاء وهو العالم عنده. العالم عند ابن رشد أزلى بالجنس أى فى كليته وشموله إذا ما اتخذ على أنه كل، لأنه من فعل الإله، وفعل القديم قديم مثله؛ لكنه فى الوقت نفسه حادث بالأجزاء، لأن أجزاءه هى التى تمر بالتغير والتحول والتبدل، أو الكون والفساد. يقول ابن رشد فى ذلك: "الجهة التى منها أدخل القدماء موجوداً قديماً ليس بمتغير أصلاً ليست هى من جهة وجود الحادثات عنه بما هى حادثة، بل بما هى قديمة بالجنس، والأحق عندهم أن يكون هذا المرور إلى غير نهاية لازماً عن وجود فاعل قديم، لأن الحادث إنما يلزم أن يكون بالذات عن سبب حادث .."( )؛ ويقول أيضاً: "وجه صدور الحادث عن القديم الأول لا بما هو حادث بل بما هو أزلى بالجنس حادث بالأجزاء، وذلك أن كل فاعل قديم عندهم إن صدر عنه حادث بالذات فليس هو القديم الأول عندهم .."( ). نلاحظ فى هذا النص ما يلى:
1- تمييز ابن رشد بين القديم بالجنس الحادث بالأجزاء يناظر تمييز سبينوزا بين الأحوال اللامتناهية والأحوال المتناهية. فالعالم عند سبينوزا يحتوى على أحوال لا متناهية لأنها صادرة عن صفات الجوهر اللامتناهية، ويحتوى كذلك على أحوال متناهية التى هى الأجسام الجزئية المفردة. ووجود أجسام جزئية حادثة عند سبينوزا، لا تعنى أن العالم كله حادث؛ والملاحظ أن هذا الرأى الأخير يناقض رأى المتكلمين، معتزلة وأشاعرة، والذاهب إلى أن العالم كله حادث بما أنه يحوى أجساماً حادثة، ذلك لأن هذا الاستدلال، علاوة على كونه قياساً للغائب على الشاهد، فهو أيضاً قياس الكل على أجزاءه، وهو قياس غير صحيح وفقاً لقواعد البرهان.
2- نلاحظ فى قول ابن رشد "والأحق عندهم أن يكون هذا المرور إلى غير نهاية لازماًَ عن وجود فاعل قديم" أنه يعنى أن توالى وتسلسل حدوث الحادثات يمر إلى ما لا نهاية، وهو ما يتطابق مع ما ذهب إليه سبينوزا من أن الأحوال المتناهية لها (لانهاية تسلسل حدوث الحادثات يوازى تسلسل الأحوال المتناهية تسلسلاً لا متناهياً.) أسباب متناهية وتنتج أحوالاً أخرى متناهية إلى ما لا نهاية. فالحدوث فى العالم عند ابن رشد وعند سبينوزا هو حدوث لا نهائى. ويقول ابن رشد زيادة فى التأكيد: "لأن الحادث إنما يلزم أن يكون بالذات عن سبب حادث"، وعبارة سبينوزا الشهيرة تكاد تكرر هذه العبارة حرفياً. والملاحظ أن ابن رشد يميز بين صدور الحادث بالذات عن سبب حادث، وصدور الحادث بالجنس عن سبب قديم، وهو ما يناظر قول سبينوزا بأن سبب الحال المتناهى حال متناهى مثله، وهذه هى السببية التجريبية الجزئية، أما الحال المتناهى نفسه وبالجنس فسببه حال لا متناهى للجوهر، أى للقديم بتعبير ابن رشد.
3- لا يجب أن يجعلنا تكرار ابن رشد لكلمة "صدور" أن نعتقد خطأً أنه يقول بنظرية الصدور والفيض الأفلاطونية المحدثة، فابن رشد كان من أكثر الناقدين الرافضين لهذه النظرية، وعمل هو نفسه كثيراً على تمييزها عن فلسفة أرسطو بعد أن كانت مختلطة بها فى مذهبى الفارابى وابن سينا. وتكرار كلمة "صدور" فى النص الرشدى دون أن يتبنى نظرية الفيض والصدور هو مشابه لمذهب سبينوزا الذى يدل ظاهر عباراته خطأ على أن نظريته فى الجوهر صدورية وهى ليست كذلك. فقد فهمت ميتافيزيقا سبينوزا على أن صدورية على شاكلة الأفلاطونية المحدثة من قبل الكثير من الشراح الأوروبيين.
خامساً – النفس والبدن:
نظرية ابن رشد في النفس مادية، لكونه لم يفصل بينها وبين البدن. ومعروف عن سبينوزا نفس النظرة للنفس ونظريته الشهيرة في وحدة النفس والبدن. وكانت النظرة المادية للنفس الإنسانية ملمحاً أساسياً لعدد من فلسفات التنوير، أهمها فلسفات كوندياك وديدرو وهلفشيوس ودالامبير. وترجع كل النظريات المادية الأوروبية للنفس إلى سبينوزا؛ ونحن فيما يلي نريد وضع يدينا على الأصول الرشدية لنظرية سبينوزا في النفس؛ فهذه هي الطريقة المثلى لرصد الأثر غير المباشر لابن رشد على عصر التنوير الأوروبي.
1) وحدة النفس والبدن عند ابن رشد:
يتبنى ابن رشد نظرية أرسطو حول النفس وعلاقتها بالبدن. فالنفس عندهما صورة البدن، والصورة لا تنفك عن المادة، إلا فى أذهاننا فقط، أى على سبيل التحليل. وهو أيضاً يتبنى نظرية أرسطو فى وحدة النفس الإنسانية من حيث الصورة، وتعددها من حيث البدن، أى من حيث اختلافها وكثرتها العددية من جراء اختلاف زيد وعمرو من حيث المادة، أى من حيث اختلاف جسديهما. يقول ابن رشد: "أما زيد فهو غير عمرو بالعدد، وهو وعمرو واحد بالصورة، وهى النفس .. والواحد بالصورة إنما يلحقه الكثرة العددية، أعنى القسمة، من قبل المواد. فإن كانت النفس ليست تهلك إذا هلك البدن، أو كان فيهما شئ بهذه الصفة، فواجب إذا فارقت الأبدان أن تكون واحدة بالعدد. وهذا العلم لا سبيل إلى إفشائه فى هذا الموضع"( ). فالخلود هو للنفس باعتبارها صورة كلية لا للنفوس الجزئية؛ لأن النفس لا تنقسم بالذات بل تنقسم بالعرض لكونها فى أجساد متمايزة ومختلفة عددياً، وهى واحدة بالذات.
يذهب ابن رشد إلى أن النفس الإنسانية واحدة، وتعددها يرجع إلى تعدد الأبدان. ومعنى هذا أن الخلود هو لهذه النفس الواحدة الكلية، لا للنفوس الجزئية. وهذا هو رأى سبينوزا بالضبط. يقول ابن رشد فى هذا: "فالمنقسم بالذات هو الجسم مثلاً، والمنقسم بالعرض هو مثل انقسام البياض الذى فى الأجسام بانقسام الأجسام؛ وكذلك الصور"؛ أى أن النفس ليست منقسمة فى ذاتها بل منقسمة بالعرض لكونها فى أجسام منقسمة؛ "والنفس أشبه شئ بالضوء. وكما أن الضوء ينقسم بانقسام الأجسام المضيئة، ثم يتحد عند اتحاد الأجسام، كذلك الأمر فى النفس مع الأبدان"( ). لكن الحقيقة أن النفس لا تتحد باتحاد الأبدان، لأن الأبدان لا تتحد بل تفنى. ومعنى هذا أن ابن رشد يقول بعودة النفوس الجزئية إلى الاتحاد والعودة إلى صورتها الأصلية باعتبارها نفساً كلية واحدة بفناء الأبدان.
وإذا فحصنا فلسفة سبينوزا وجدناه يكرر نفس آراء ابن رشد في النفس. فالنفس لديه غير منفصلة عن البدن، مع رفض للثنائية التقليدية بينهما والواضحة في تراث الفلسفة المدرسية والمستمرة حتى ديكارت، وأخيراً تكراره للنظرية الرشدية حول فناء النفوس الجزئية وخلود النفس الكلية.
الإنسان لدى سبينوزا كيان واحد ولا ينقسم إلى جوهرين متمايزين كما كان الحال في فلسفة ديكارت. لقد كان ديكارت ثنائياً في كل شئ، في تصوره عن الجوهر وعن الإنسان وعن العالم. وكانت المشكلة التي واجهت ديكارت هي في عثوره على سبيل يوضح به كيفية اتصال النفس بالجسد بعد أن فصل بينهما. لكن سبينوزا ولكونه لم يفصل بينهما منذ البداية فلم يواجه هذه المشكلة .
رفض سبينوزا ثنائية ديكارت وذهب إلى أن النفس ما هي إلا القوة الحيوية للجسد، وأنها هي فكرة الجسد. وحسب تعريفاته التي قدمها في الجزء الأول من "الأخلاق" فإن ما هو مادي لا يؤثر عليه إلا ما هو مادي، وما هو عقلي لا يؤثر عليه إلا ما هو عقلي؛ ولا يمكن لما هو مادي أن يؤثر على ما هو عقلي ولا يمكن لما هو عقلي أن يؤثر على ما هو مادي. يقول سبينوزا في ذلك: "يسمى الشئ متناهياً داخل نوعه فقط، عندما يمكن أن يحد بشئ من نفس الطبيعة؛ فعلى سبيل المثال، يسمى الجسم متناهياً لأنه يمكن تصور جسم أكبر منه دائماً. وكذلك الفكرة تحدها فكرة أخرى، لكن لا يمكن لجسم أن يحده فكر، أو فكر يحده جسم"( ). مما يعني أننا إذا افترضنا وجود نفس وجسد فمن المستحيل وجود أي تفاعل أو تأثير متبادل بينهما، وهكذا سد سبينوزا الطريق أمام أي محاولة للتوفيق بينهما وذلك كي يمهد للقول بهويتهما المطلقة.
2) النفس والبدن شئ واحد عند سبينوزا:
كذلك أعلن سبينوزا أن نظام وتراتب الأفكار هو نفسه نظام وتراتب الأشياء( )، بمعنى أن نظام العقل أو النفس هو نفسه نظام الجسد، وأن السببية الحاكمة للتفاعلات النفسية هي ذاتها السببية الحاكمة للتفاعلات الجسدية. وإذا كان الامتدادهو صفة الجسد والفكر هو صفة النفس، وبما أنه نظر إلى الامتداد والفكر على أنهما جانبان لحقيقة واحدة، فلا يمكننا التمييز بين نفس وجسد لأنهما ليسا جوهرين متمايزين، بل مجرد شكلين يظهر بهما الكيان الإنساني الواحد، إذا نظرنا إليه تحت صفة الامتداد وجدنا أنه جسد، وإذا نظرنا إليه تحت صفة الفكر وجدنا أنه نفس. فالتمييز بين نفس وجسد في الإنسان ما هو إلا تمييز في الذهن البشري فقط، لأن الذهن البشري من طبيعته أن يفصل بين الجانبين ويفكر في ثنائيات متعارضة، لكن الحقيقة أنهما الشئ نفسه. والقول بأن التمييز بين نفس وجسد هو تمييز من داخل الفهم البشري وحسب ولا يقابل حقيقة واقعة هو ما سوف يتكرر بحذافيره لدى كانط، على الرغم من أن كانط لم يستعر أي من أفكار سبينوزا.
وهذا ما أدى بكثير من الفلاسفة والشراح إلى تفسير نظرية سبينوزا في النفس والجسد على أنها نظرية توازي، حيث تكون كل حادثة جسمية موازية لحادثة نفسية والعكس. لكن تفسير نظريته على أنها توازٍ خاطئة، لأن التوازي لا يكون إلا بين كيانين، لكن سبينوزا لا يعتقد في وجود كيانين مختلفين داخل الكائن الإنساني. فإذا نظرنا إلى نظريته على أنها نظرية في التوازي فسوف تظهر أمامنا مشكلة أخرى وهي المتعلقة بالشئ الذي يجعل النفس والجسد متوازيين. ولذلك وضع لايبنتز نظريته الشهيرة في سبق التوافق Pre-established Harmony، وذهب إلى أنهما في توافق مسبق من صنع الإله. لكن نظرية لايبنتز في سبق التوافق لا تصح إلا إذا كان النفس والجسد كيانين مختلفين ومنفصلين. اعتقد لايبنتز أنه بهذه النظرية حل إشكالية علاقة النفس والجسد في فلسفة ديكارت وتوسط بينه وبين سبينوزا، وذلك لأنه فسر نظرية سبينوزا خطاً على أنها نظرية توازي لكنها ليست كذلك( )، فمصطلح التوازي Parallelism وكلمة متوازي Parallel غير موجودتين على الإطلاق في كتاب "الأخلاق" لسبينوزا، وبالتالي فلا يمكن تفسير فلسفة سبينوزا بمصطلح لم يستخدمه هو.
ومعنى هذا أنه حسب سبينوزا لا يمكننا الحديث عن تفاعل أو تأثير متبادل بين النفس والجسد ولا حتى سبق توافق، لأنهما شئ واحد، طريقتان يعبر بهما الفهم الإنساني عن كيان واحد. ولهذا يقول سبينوزا: "لا يمكن للجسد أن يحدد العقل في التفكير، ولا يمكن للعقل أن يحدد الجسد في الحركة أو السكون أو أي شئ آخر"( ). ويأتي سبينوزا بفكرة يوضح بها مفهومه الجديد عن هوية النفس والجسد وكونهما الشئ نفسه، وهي فكرة النزوع Conatus/Striving. النزوع هو الجهد الطبيعي أو التوجه الذي يحافظ به كيان على ذاته. والمحافظة على الذات في الأساس هي محافظة على الجسد. ولذلك يفسر سبينوزا النزوع بمصطلحات فيزيائية. النزوع ليس مجرد غريزة طبيعية نحو البقاء، بل هو السعي المستمر نحو الاستمرار في الوجود عن طريق زيادة القوة. فكل ما يفعله الإنسان موجه لهذا الهدف في الأساس. ويأتينا سبينوزا بنظرة جديدة لقوى النفس وأفعالها؛ إذ هي عنده المحافظة على قوى الجسد وفاعليته. يقول سبينوزا في ذلك: "إن النفس تنزع بقدر طاقتها نحو تصور تلك الأشياء التي تزيد من قوة الجسد على الفعل أو تساعده على ذلك"( ). ومعنى هذا أن الأفعال المعرفية للنفس والتي تظهر في نص سبينوزا في مصطلح "التصور" هدفها الأخير هو زيادة قدرة الجسد( ).
3) النفس بين الفناء والخلود:
ولأن النفس ما هي إلا القوة الحيوية للجسد والنزوع الطبيعي الذي يحافظ به الجسد على قوته ووجوده، فإنها تفنى بفناء الجسد، لأنها ليس لها من وظيفة إلا المحافظة على هذا الجسد، ولذلك لا تبقى بعد فنائه لأن وظيفتها تكون بذلك قد انتهت. وليس معنى هذا أن سبينوزا لا يعترف بالخلود، بل يعترف به لكن في معنى آخر غير المعنى التقليدي الذي تبقى فيه النفس حية وواعية بعد فناء الجسد. الخلود عند سبينوزا ليس في عالم آخر بل في هذا العالم نفسه، ويأتي من مشاركة الكائن الإنساني في الصفات اللامتناهية للإله. فالإله عند سبينوزا لامتناه وصفاته لامتناهية، وبقدر ظهور الصفات اللامتناهية في الإنسان بقدر ما يكون مشاركاً في لاتناهي الإله. فالإنسان عند سبينوزا لا يصير خالداً ولامتناهياً في حياة أخرى بل في هذه الحياة، لا بمعنى أن يستمر الإنسان في الوجود في هذه الحياة إلى الأبد، بل بمعنى أن يكون مشاركاً للاتناهي الإله عن طريق معرفة وتأمل الحقائق الخالدة. ولذلك لا يعترف سبينوزا بالخلود الفردي لكل نفس على حدى، بل بخلود النوع. ولذلك يذهب إلى أن شيئاً ما من العقل يبقى بعد فناء الجسد، وهو الشئ الأزلي واللامتناهي فيه منذ البداية، وبما أن اللامتناهي والأزلي عنده غير شخصي وغير فردي، فإن ما يبقى من العقل الإنساني هو اللاشخصي واللافردي، أي العام والكلي والمطلق( ).
إن العقل الإنساني، ولأنه جزء من العقل الإلهي ويشاركه صفة اللاتناهي، فهو لا يفنى، وفي ذلك يقول سبينوزا: "إن العقل الإنساني لا يمكن أن يفنى بإطلاق مع الجسد، إذ يبقى منه شئ ما وهو خالد"( ). وفي شرحه لهذه العبارة يذهب إلى أننا لا نلحق الاستمرار الزماني بالعقل الإنساني إلا إذا كان الجسد مستمراً في الوجود. والنفس بهذا المعنى فانية لأنها لا تستمر زمانياً بعد فناء الجسد، إذ أنها هي ذاتها قوة الجسد. ويجب أن ننتبه في هذا السياق إلى أن سبينوزا يفهم الخلود على أنه اللازمانية، فالخالد عنده هو الذي لا يمر عليه الزمان، لا الذي يستمر في الزمان إلى ما لا نهاية. الخالد هو الذي لا يخضع للزمان ولا يندرج تحته باعتباره مقولة، بل الخالد هو الذي لا يستوعبه الزمان. وطالما كان العقل الإنساني مشاركاً في الصفات اللامتناهية للجوهر فهو خالد. وتأتي هذه المشاركة من المعرفة من النوع الثالث، التي هي المعرفة الحدسية المباشرة بالحقائق الأزلية دون وسيط من إدراك حسي أو استدلال.
نظرية سبينوزا إذن فى خلود النفس الكلية فى اتفاق مع ابن رشد وأرسطو قبله، وهى مختلفة عن كل من يقول بخلود النفوس الجزئية، ومنهم الغزالى والأشاعرة الذين ينقدهم ابن رشد فى "تهافت التهافت".
ويتبين قرب سبينوزا من ابن رشد عندما نقارنهما معاً بفيلسوف آخر مثل كانط. يرفض ابن رشد وسبينوزا الفكرة القائلة بتكون الإنسان من جوهرين، نفس وبدن، وهى النظرة الثنائية التقليدية التى ينقدها كانط فى "أغاليط العقل الخالص" فى نقده لعلم النفس العقلى. لكن فى حين يرفض ابن رشد وسبينوزا الثنائية وضعا البديل وهو القول بأن الإنسان جوهر واحد، النفس فيه صورة لا تنفك عن مادتها التى هى البدن، فإن كانط، وكعادته فى نقده للميتافيزيقا، ينقد النظرية الثنائية فى النفس والبدن دون أن يقدم البديل عنها، لأن أى بديل آخر ينظر إليه كانط على أنه محاولة غير مشروعة فى معرفة ما يتجاوز الخبرة التجريبية وبالتالى وقوعاً فى الميتافيزيقا غير المشروعة التى تؤكد على وجود كيانات ميتافيزيقية ليس فى إمكان المعرفة البشرية توكيدها لأنها مقيدة بعالم الظاهر وحسب. لكن كانط مخطئ فى اعتقاده أن كل بدائل الثنائية توكيدات ميتافزيقية غير مشروعة. فالتوكيد الميتافيزيقى بانفصال النفس والبدن وتشكيلهما لجوهرين متمايزين يختلف عن القول بالجوهر الإنسانى الواحد الذى لا تنفك فيه الصورة عن المادة، أى النفس عن البدن، ذلك لأن الخبرة التجريبية ذاتها تثبت وحدة الكيان الإنسانى وعدم انفصاله إلى جوهرين. وهذا ما يدل على اتحاد الموقفين الرشدي والسبينوزي إذا ما قارناهما بالموقف الكانطي.
خاتمة
نحاول فيما يلي التركيز على عناصر الاتفاق والتطابق بين فلسفتي ابن رشد وسبينوزا التي رصدناها في هذه الدراسة، رابطين بينها وبين فكر عصر التنوير، وذلك كطريقة لتحقيق أحد الفرضيات الأساسية لهذا البحث والذاهبة إلى أن التأثير الرشدي على عصر التنوير كان بصورة غير مباشرة عن طريق السبينوزية.
1) تمييز ابن رشد بين قدم الله وقدم العالم، وتمييز سبينوزا بين لا تناهى الجوهر ولا تناهى الأحوال:
يميز ابن رشد بين قدم الله وقدم العالم. قدم الله من ذاته وقدم العالم من غيره. قدم الله ليست له علة، وقدم العالم له علة، لكنها ليست علة تخرجه من العدم إلى الوجود لأن العالم قديم، بل هى علة تخرج ما فيه بالقوة إلى الفعل، وهى أيضاً العلة المحركة له. يتشابه هذا التمييز مع تمييز سبينوزا بين لا تناهى الجوهر ولا تناهى الأحوال. لا تناهى الجوهر مواز لقدم الله عند ابن رشد، لأن جوهر سبينوزا بدون علة، أما لا تناهى الأحوال فهو لا تناهى تغيرها وحركتها الدائمة إلى ما لا نهاية، وهو ليس لا تناه فى ذات الأحوال بل هو لا تناه تابع للاتناهى الجوهر.
2) وحدة الوجود اللاصدورية:
كل من يقول بالقدم وينفى الصدور الأفلاطونى المحدث ويرفض الوسائط بين الإله والعالم من حيث أنها مستقلة فى فعلها ويقول بأن إيجاد الله للعالم يتم مباشرة ينتمى لابن رشد أو يقترب منه، مثل سبينوزا. رشدية سبينوزا تتمثل فى رفضه لنظرية الصدور وفى قوله بأن الله هو العلة المحاثية للعالم لا العلة المفارقة. وكل من اعتقد من الباحثين أن الأحوال صادرة عن الجوهر بتوسط الصفات مخطئ فى تأويله لفلسفة سبينوزا، لأن الجوهر لا ينتج الأحوال بتوسط الصفات بل ينتجها مباشرة، لأن صفات الجوهر ليست مستقلة بذاتها، أى أنها ليست هى ذاتها جواهر؛ فحسب سبينوزا فإن جوهر لا يمكن أن ينتج جوهراً، وفى ذلك معارضة صريحة لنظرية الصدور.
3) ما أضافه ابن رشد وطوره على مذهب أرسطو هو ما أثر في سبينوزا:
من حيث أن أرسطو قد ترك مسائل قدم العالم ومصير النفس الكلية معلقة ولم يحسم رأيه فيها، فإن كل ما قاله ابن رشد عن قدم العالم، وقدمه وحدوثه فى الوقت نفسه، وفناء النفوس الفردية وبقاء النفس الكلية، ونصوصه العديدة التى تشير إلى وحدة الوجود، يمكن اعتبارها أفكاره هو التى طورها من مذهب أرسطو، حسب ما يقتضيه مذهبه كما ذهب هو فى مواضع كثيرة. ابن رشد إذن هو المطور لنظرية فى قدم العالم ووحدة الوجود وخلود النفس الكلية انطلاقاً من مذهب أرسطو. ولذلك تمكن فلاسفة العصور الوسطى من الاحتفاظ بجزء كبير من مذهب أرسطو مع تحريم وتكفير كل النظريات الرشدية المقامة على أساس هذا المذهب. لقد احتفظوا بمذهب أرسطو وحرموا امتداداته الرشدية. لكن سبينوزا عاد إلى تبنى الامتدادات الرشدية للأرسطية بالكامل لكن فى استقلال عن ابن رشد وعن أرسطو نفسه وبالاعتماد على مذهبه الجديد فى الميتافيزيقا والمعرفة. نرى بذلك كيف أن سبينوزا أعاد إنتاج الرشدية، لا الأرسطية، فى سياق مذهبه الجديد وباستخدام براهين مختلفة عن البراهين الرشدية. ولا نستطيع أن نجد كل هذه التطابقات بين سبينوزا وابن رشد دون القول بأنه لم يتأثر به. ونستطيع القول بأن التأثير السبينوزى على الفكر الأوروبى هو تأثير رشدى غير مباشر.
4) السبينوزية المؤثرة على التنوير الراديكالي الأوروبي هي الرشدية المعاد إنتاجها سبينوزياً:
ونقصد بالرشدية كل الأفكار الثلاث السابق ذكرها حول الله والعالم، والعقل والحقيقة، والنفس البشرية، والتي طورها ابن رشد من فلسفة أرسطو وغير الموجودة في المذهب الأرسطي نفسه. وهي التي أثرت على سبينوزا عن طريق ابن رشد نفسه أولاً، ثم عن طريق الرشدية اليهودية ثانياً، وهي نفسها التي مثلت التأثير السبينوزي على عصر التنوير، خاصة الجناح الراديكالي منه.
وهذه الأفكار الثلاث تتمثل في: أولاً: القول بقدم الله والعالم معاً مع اتجاه نحو وحدة الوجود؛ وثانياً: وحدة الحقيقة، والسلطة المطلقة للعقل البشري والثقة في قدرته على الوصول إلى الحقيقة وحده؛ وثالثاً: النظرة المادية للنفس البشرية والنظرة الواحدية للكيان الإنساني التي ترفض الثنائية التقليدية بين النفس والبدن. استمرت الأفكار الرشدية السبينوزية حول الله والعالم لدى مذهب وحدة الوجود Pantheism والمذهب التأليهيDeism . ازدهر مذهب وحدة الوجود خلال عصر التنوير كله، سواء في بدايته لدى تولاند، أو في نهاياته لدى لسنج وهيردر؛ وازدهر المذهب التأليهي في انجلترا أولاً على يدي أنتوني كولنز وماثيو تندال، ثم في فرنسا على يدي فولتير وروسو. واستمر الموقف الرشدي السبينوزي من العقل والحقيقة ملمحاً أساسياً لعصر التنوير كله والذي أعلن كل مفكريه عن تبنيهم للعقلانية حتى سمي بعصر العقل. وأخيراً استمر الموقف المادي - الرشدي السبينوزي - من النفس الإنسانية ملمحاً أساسياً للتجريبية الإنجليزية وعلى رأسها جون لوك وديفيد هيوم؛ وللماديين الفرنسيين أمثال كوندياك ودالامبير وديدرو. لقد كان عصر التنوير الأوروبي هو أبرز عصر ازدهرت فيه الأفكار ذات الأصول الرشدية والسبينوزية، وذلك بعد تاريخ طويل من تحريم الرشدية وحظرها من قبل السلطات الكنسية في العصور الوسطى. فكان تحرر أوروبا من الكهنوت الديني فرصة لعودة انتشار ما كان مكبوتا محظوراً.
بيبليوجرافيا
أولاً – المصادر:
1) ابن رشد:
• فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. مع مدخل ومقدمة تحليلية للمشرف على المشروع د. محمد عابد الجابري. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية 1999
• الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة. مع مدخل ومقدمة تحليلية وشروح للمشرف على المشروع د. محمد عابد الجابري. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية 2001
• تهافت التهافت. مع مدخل ومقدمة تحليلية وشروح للمشرف على المشروع د. محمد عابد الجابري. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998
• تفسير مابعد الطبيعة. نشر موريس بويج. دار المشرق، بيروت 1967. المجلد الأول
2) سبينوزا:
اسبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة. ترجمة وتقديم د. حسن حنفي، مراجعة د. فؤاد زكريا. دار التنوير، بيروت 2008.
Ethics, in Complete Works. Translated by Samuel Shirley. Edited with introduction and notes by Michael L. Morgan. (Cambridge: Hackett, 2002).
ثانياً – المراجع العربية والمترجمة إلى العربية:
• ابن سينا: كتاب النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية. نقحه وقدم له د. ماجد فخري. دار الآفاق الجديدة، بيروت 1982.
• رينان، إرنست: ابن رشد والرشدية. نقله إلى العربية عادل زعيتر. دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1957.
• زينب محمود الخضيري: أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى. دار التنوير، بيروت. طبعة 2007.
• صفاء عبد السلام جعفر: ميتافيزيقا اللامتناهي عند جيوردانو برونو. مؤسسة حورس الدولية، الإسكندرية 2006.
• عصام عبد الله: حوار الشرق والغرب. الرشدية اللاتينية في إيطاليا. دار مصر المحروسة.
• الفارابي: كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة. قدم له وعلق عليه د. ألبير نصري نادر. دار المشرق، بيروت، الطبعة الثامنة، 2002
• ) لسنج: تربية الجنس البشري. ترجمة وتقديم وتعليق د. حسن حنفي. دار التنوير، بيروت، الطبعة الثانية 2006
• موسى بن ميمون: دلالة الحائرين. عارضه بأصوله العربية والعبرية د. حسين أتاي. مكتبة الثقافة الدينية، الطبعة الثانية، القاهرة 2008
• هازار، بول: الفكر الأوروبي في القرن الثامن عشر: من منتسكيو إلى ليسنج. الجزء الأول. نقله إلى العربية د. محمد غلاب، وراجعه د. ابراهيم مدكور. لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1958
• هازار، بول: أزمة الضمير الأوربي 1680-1715. ترجمة جودت عثمان ومحمد نجيب المستكاوي، مقدمة طه حسين. دار الشروق 1987
ثالثاً – المراجع الأجنبية:
• Butterworth, Charles: “Averroes, Precursor of the Enlightenment?”. Alif, no. 16, 1996, pp. 6-18.
• Caird, John, Spinoza (Edinburgh & London: William Blackwood & Sons, 1888)
• Della Rocca, Michael: “Spinoza’s Argument for the Identity Theory”, The Philosophical Review, Vol.102, no.2, (Apr.1993), pp. 183-213.
• Harvey, Warren Zev: “A Portrait of Spinoza as a Maimonidean”, Journal of the History of Philosophy, vol. 19, no. 2, April 1981 (151-172)
• Israel, Jonathan, Enlightenment Contested: Philosophy, Modernity, and the Emancipation of Man 1670-1752 (Oxford: Oxford University Press, 2006)
• Israel, Jonathan, Radical Enlightenment. Philosophy and the Making of Modernity 1650-1750. (Oxford: Oxford University Press, 2001)
• Kant, Critique of Pure Reason. Translated by Norman Kemp Smith (London: Macmillan, 1961)
• Lasker, Daniel J.: “Averroistic Trends in Jewish-Christian Polemics in the Late Middle Ages”, Speculum, vol. 55, issue 2 (April 1980), 294-304.
• Lessing, Gotthold Ephraim : “Spinoza only put Leibniz on the track of his theory of pre-established harmony (1763)”,in Lessing, Philosophical and Theological Writings. Translated & edited by H.B. Nisbet (Cambridge University Press: Cambridge, 2005), pp.32-34.
• Lord, Beth, Kant and Spinozism. Transcendental Idealism and Immanence from Jacobi to Deleuze. (New York: Palgrave Macmillan, 2011)
• Nadler, Steven, Spinoza: A Life. (Cambridge University Press: Cambridge, 2001)
• Nadler, Steven, Spinoza s Heresy: Immortality and the Jewish Mind. (New York: Oxford University press, 2001)
• Salvatore, Armando: “Power and Authority within European Secularity: From the Enlightenment Critique of Religion to the Contemporary Presence of Islam”, The Muslim World, vol. 96, October 2006, pp. 543-561
• Stone, Harold, “Why Europeans Stopped Reading Averroes: The Case of Pierre Bayle”; Alif: Journal of Comparative Poetics, no.16 (1996), pp.77-95
• Wolfson, Harry Austryn, The Philosophy of Spinoza: Unfolding the Latent Processes of his Reasoning. 2 Volumes (Cambridge: Harvard University Press, 1934)
• Yovel, Yirmiyahu, Spinoza and other Heretics: Vol. I, The Marrano of Reason (New Jersey: Princeton University Press, 1989)
رابعاً – دوائر المعارف:
Encyclopedia of Philosophy. Editor in Chief: Donald Borchert, 2nd edition (Detroit: Thomson Gale, 2006)
د. أشرف حسن منصور: الحوار المتمدن
- See more at: http://webcache.googleusercontent.com/search?q=cache:-k7LV3uBDEQJ:www.ahewar.org/debat/show.art.asp%3Faid%3D269091+&cd=3&hl=ar&ct=clnk#sthash.d6D6vixH.dpuf
إضافة تعليق جديد