ظلم يهدّد سلام العالم
هل أطلق نابليون نداءه ليهود العالم عندما استعصت في وجهه أسوار عكا عام 1799 فخاطبهم قائلاً: " ...انهضوا، هذه هي اللحظة المناسبة، إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن، حاملة إرث إسرائيل."؟
وهل أعادت بريطانيا طرح فكرة نابليون رداً على محاولة محمد علي لتوحيد مصر وسورية، خلال مؤتمر الدول الاستعمارية الذي عقد سراً في لندن لمدة عامين للبحث في سبل ضمان سيادة الحضارة الغربية على العالم، وإيجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الغرب الاستعماري إلى أطول أمد ممكن؟
هل قال هنري كامبل بانرمان رئيس الوزراء البريطاني في مؤتمر لندن السري الذي اختتم عام 1907: "يتعين علينا أن نضع في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة معادية لأهل البلد وصديقة للدول الأوروبية."؟
كثير من الباحثين العرب يؤكدون صحة هذه المعلومات الواردة أعلاه بشكل قاطع، وهؤلاء يقولون إن السرية رفعت عن تقرير كامبل لمدة أسبوعين فقط ثم أعيدت رغم مرور قرن عليه خوفاً من آثاره الممتدة. غير أن بعض الباحثين العرب الجادين يرون أنه لا يجوز لنا أن نركن لا لإعلان نابليون ولا لتقرير كامبل لأنهما كلاهما يفتقران للسند التاريخي القاطع(!)
وسواء ثبتت صحة إعلان نابليون وتقرير كامبل أم لم تثبت، فإن الغرب كان ولا يزال هو المستفيد الأكبر من زرع هذا السرطان الاستيطاني في قلب المنطقة العربية كي يفصل جناحها المغربي عن جناحها المشرقي، ويحبط كل محاولة للنهوض فيها. في هذا الضوء أرى أن مأساة فلسطين كانت ولا تزال أم مآسي العرب، وأن السرطانات، الداعشية وسواها، التي ظهرت وتظهر في مختلف أعضاء الجسد العربي الآن، ليست سوى انتقالات للسرطان الأم الذي كرسته بريطانيا في فلسطين قبل إنهاء انتدابها عليها عام 1948، متخلية عن دور الراعي الأكبر لأمريكا!
بدأ البريطانيون انسحابهم من فلسطين قبل شهر من موعد انتهاء انتدابهم عليها، وتفيد الوثائق أنهم قد سلّموا للصهاينة «... 2700 مبنى حكومي و50 محطة قطار، وثلاثة آلاف كيلو متر من الطرق المعبدة وموانئ عدة و37 معسكراً بما فيها من أسلحة وقطع غيار».
عندما احتل البريطانيون فلسطين العام 1917 أخذوا الأرض المشاع وأعطوها لليهود، كان عدد اليهود يومها لا يزيد عن خمسين ألفاً وقبل أن يغادر الإنجليز فلسطين العام 1948 كان هذا العدد قد تضاعف عشر مرات، وكان الصهاينة قد سيطروا، تحت نظر الجيش البريطاني وسمعه، على «خمس مدن ودمّروا مئتي قرية فلسطينية وارتكبوا عشرات المجازر». وعندما أعلنت بريطانيا نبأ نهاية انتدابها على فلسطين كان مقابل كل فلسطيني أو عربي بسلاحه البسيط ستة «يهود» مزوّدين بالأسلحة الحديثة. والمضحك من شر البلية هو أن «اليهود» كانوا يملكون 5.5 % من أرض فلسطين، لكن قرار التقسيم الذي أصدرته الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947 أعطاهم نصف أرض فلسطين!
أعلن البريطانيون نهاية انتدابهم في الخامس عشر من أيار 1948 الساعة السادسة تماماً حسب توقيت واشنطن، فأعلن الصهاينة قيام «دولتهم « بعد دقيقة واحدة! وبعد ذلك بعشر دقائق اعترفت أميركا بـ «دولة إسرائيل». فياله من تنسيق مُحكَم!
أعلم أن بعض الأخوة العرب الذين «ملّوا من فلسطين» قد يعتبرون كلامي هذا نوعاً من النكوص إلى اللغة الخشبية، وانسياقاً مع نظرية المؤامرة، التي تربط كل شيء بالمكائد التي تُدبَّر ضد العرب في الخارج، ولهؤلاء بعض الحق، لأننا في أحيان كثيرة نهرب من مسؤوليتنا عما يجري بإلقاء التبعة على المؤامرات الخارجية، لكن إغفال المكائد الحقيقية من شأنه أن يقودنا إلى تطرف آخر هو «جلد الذات» الذي قد يكون أكثر ضرراً!
كيث وايتلام
في العام 2000 زار دمشق بدعوة من دار قدمس العالم المؤرخ كيث وايتلام صاحب كتاب «اختلاق إسرائيل القديمة، إسكات التاريخ الفلسطيني» الذي أثار، عقب صدوره، ضجة هائلة في العالم، مما جعل المفكر الكبير إدوار سعيد يعتبره أهم كتاب قرأه خلال العام 1996، فهو برأيه «عمل أكاديمي من الطراز الأول، وكاتبه يتمتّع بجرأة كبيرة في نقده للعديد من الفرضيات حول تاريخ إسرائيل التوراتي».
يشغل وايتلام منصب رئيس قسم الدراسات الدينية في جامعة استيرلينغ باسكتلندة، وإليكم خلاصة المحاضرة التي ألقاها في المركز الثقافي العربي في المزة، والحوار الطويل الذي أجريته معه:
ينتمي كتاب وايتلام لموجة «الأعمال التاريخية التصحيحية» التي بدأت تظهر منذ منتصف الثمانينيات مع ازدياد تناقض نتائج التنقيبات الأثرية مع التأويلات التوراتية. وفيه يكشف وايتلام بأسلوب منهجي علمي موثق «كيف تمكنت الأوساط العلمية الغربية من اختراع إسرائيل القديمة وإسكات التاريخ الفلسطيني» وكيف قامت الدراسات التوراتية بتجريد كلمة «فلسطين» من أي معنى وكيف تجاهلت تاريخ الكنعانيين السكان الأصليين للمنطقة، رغم أن التنقيبات الأثرية تثبت وجودهم قبل ظهور إسرائيل بألف عام، إلا أن علماء الآثار التوراتيين… «لا يضفون عليهم أي وعي قومي، ودياناتهم تُمَثَّل على أنها مجرد عبادة خصوبة هابطة، تفتقر إلى الدافع الأخلاقي المهيمن لدين يهوه، وعلى هذا فهي ديانة لاأخلاقية». ومن خلال ما سبق يستنتج وايتلام: «أن المعالجة التقليدية لهذه المشكلة كانت تشوِّه سمعة هؤلاء السكان أو تنكر حقهم في الوجود».
يستنتج وايتلام في ضوء التنقيبات الأثرية والوثائق التاريخية «أن تاريخ إسرائيل القديم يبدو مجرد لحظة قصيرة من التاريخ الفلسطيني الطويل». كما يرى أن «إسرائيل لم تكن أكثر من كينونة في الزمن الفلسطيني».
سألت وايتلام عن الضغوط، السياسية والدينية، التي تعرّض لها أثناء سعيه لإيصال الحقيقة العلمية، فأجابني: «إن بعض من لم تعجبهم طروحاتي، شنوا هجوماً شديداً على شخصي وعلى قدراتي العلمية، لكن هناك عدداً متنامياً من العلماء الذين قاموا بمثل هذا العمل، وقد توصلوا إلى استنتاجات مماثلة لاستنتاجاتي، ربما قبل أن أصل إليها، وقد أدّى هذا العدد المتنامي من العلماء لحصول تغيير في المشهد، مما خفّف الضغط عني بحيث لم أعد أشعر بأنني وحدي، وهذا كله يجعلني الآن أقل عرضة للضغوط، كما أنه يعزز مكانة الدراسات الجديدة ويثبت صحة الرأي الجديد». سألت وايتلام عما إذا كان من الممكن للكاتب أن يكون محايداً في مواجهة الظلم التاريخي فأجابني برصانة: «هذا غير ممكن. وهذه إحدى النقاط التي أوردتها في كتابي، إذ قلت بأننا لسنا محايدين؛ ومسألة فلسطين وتاريخها لا تجعل من الممكن لك أن تكون محايداً».
نجيب عازوري
في العام 1904، ألّف الكاتب العربي اللبناني نجيب عازوري الذي كان نائباً لحاكم القدس، كتاباً بعنوان «يقظة الأمة العربية» قال فيه: «ثمّة مشروعان يتشكلان في المنطقة الآن: الحركة القومية العربية، التي تكافح لاستعادة الدولة العربية الموحّدة، والحركة الصهيونية التي تهدف لبناء دولة قومية لليهود في فلسطين. هذان المشروعان محكومان بأن يتصادما وأن يتصارعا، وعلى نتيجة صراعهما يتوقف مستقبل المنطقة، بل مستقبل العالم».
كان نجيب عازوري مثقفاً عربياً كبيراً صاحب رؤيا، فقد ربط بشكل غير مباشر بين غزوات الفرنجة والمشروع الصهيوني، إذ قال: «على كل حال، هذه ليست هي المرة الأولى التي يستخدم فيها الغرب الدين كحجة للسيطرة على الشرق».
لكن هذا المفكر الكبير قُتِل في ظروف غامضة داخل شقته في باريس قبل افتتاح المؤتمر العربي الأول هناك العام 1913.
في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي قام كاتبان سوريان برحلة إلى فلسطين وألّفا كتاباً قيماً بعنوان «هؤلاء الصهيونيون» طبع العام 1946، نبّها فيه، ببصيرة نفاذة، وعقل خلاق، إلى الأخطار الآتية التي تتهدد فلسطين والعرب جميعاً! وقد صدقت نبوءتهم بشكل دقيق يبعث على الحيرة والأسى، حتى يكاد المرء يقتنع بأننا أمة لا تقرأ، كما يصفنا أعداؤنا!
قدم المؤلفان كتابهما بأسلوب رشيق جذاب مدفوعين بـ «إرادة غلابة لأن يُقرأ من قبل أكبر مجموعة عربية في الوطن والمهجر» وأعلنا منذ البداية منهجهما العقلاني الذي يتبدّى من خلال التزامهما بتقديم «وصف صادق لحياةٍ عدوّة يجب الاستعداد لها بكل جد»، كما يتبدى في قولهما: «آثرنا ألا ننافق العرب فنحطّ من قدر الصهيونية ونرفع العرب إلى درجة التخدير».
يأخذ هذا الكتاب شكل رحلة بالقطار، مكتوبة بضمير الأنا، تبدأ من دمشق، مروراً بطبريا وحيفا وانتهاء بتل أبيب. وسأكتفي هنا بالوقوف عند نقاط وردت فيه ما تزال ساخنة حتى الآن.
في الطريق إلى حيفا يبدي الراوي أسفه لأن العرب يستهلكون قدراً كبيراً من القوة الكهربائية التي تنتجها شبكة روتمبرغ للكهرباء: «حتى لكأنهم يساهمون رغم أنفهم في إثراء الصهيونية وتقويتها». وفي مكان آخر يقترح المؤلفان محاربة الصهيونية بسلاحها: المال. وبعد عقد مقارنات محرجة، يستنتج المؤلفان: «إن المال لا ينقصنا، لكن آفتنا الكبرى خرَق في التفكير وتوزيع للجهود و(لامبالاة) نخشى أن نحصد عواقبها بعد حين»!
وبعد أن يفند المؤلفان «حق اليهود» التاريخي المزعوم في فلسطين، يقولان بكل وضوح إن ما يجري في فلسطين هو مشروع استعماري، فالاستعماريون: «يريدون أن يجعلوا من فلسطين مركزاً استراتيجياً ممتازاً للتسلط على البلاد العربية»؛ ولا يكتفي المؤلفان بتحديد السرطان الصهيوني المتعاظم بل يصفان له الدواء العربي الوحيد الناجع أي: «...الاتحاد والتضامن، والنظام، والإبداع، وتحديد المبادئ والغايات، وتفضيل المصالح العامة على الشهوات الخاصة، والعمل المتواصل، تعضده القوة ويمدّه المال، وعندئذ يفرح المؤمنون»!.
فالخلاص الوحيد برأي المؤلفين يكمن في: «منع تسرّب الأرض للصهيونيين، ومقاطعة بضائعهم»، ولتحقيق ذلك لا بد من تحسين ظروف القرية الفلسطينية من خلال الدعم المالي العربي.
بعد ذلك يطلق المؤلفان نبوءتهما الجارحة: «وإذا توانوا - أي العرب - عن نصرة إخوانهم عرب فلسطين ووقفوا موقف المتفرج، هان أمرهم على جميع الأمم، وأصبحوا هدفاً لكل طامع، وغدا ما يُسمّى بالأمة العربية، اسماً بلا مسمّى، فيتهافت عليهم خصومهم، يجدون فيهم لقمة سائغة جديدة طرية الجانب، وتنهار كل مهابة لهم في نفوس الخلق، ويسري الداء من فلسطين إلى ما جاورها، وإن من لم يستطع إيقاف الظالمين في رقعة صغيرة من الوطن العربي، لن يستطيع الصمود أمام جحافل الأمم التي لا تعرف لها في الحياة مذهباً سوى القوة والغلبة»! وقد تحققت كل النبوءات المأساوية التي أطلقوها!
صحيح أن قوى الهيمنة الغربية تحاول الآن التغطية على الصراع الأساسي في المنطقة بإشعال صراعات فرعية بين الأشقاء، بأدوات أصولية فاشية، لكن قضية فلسطين تبقى كما وصفها أحد أهم وأشهر المؤرخين في القرن العشرين البريطاني أرنولد جوزيف توينبي 1889 -1975 قبل رحيله بسنوات:
«إن مأساة فلسطين ليست مأساة محلية، إنها مأساة العالم، لأنها ظلم يهدّد السلام العالمي».
حسن م يوسف: السفير
إضافة تعليق جديد