تركيا: من «البكستنة».. إلى «الأفغنة»!
طرح تفجير أنقرة المزدوج الذي حصل السبت الماضي مدى قابلية أن تتحوّل تركيا الى أفغانستان أخرى، بعدما تحوّلت فعلاً الى باكستان أخرى.
لقد باتت تركيا لحركات المعارضة السورية بكل فصائلها منذ وقت طويل مثل باكستان لحركات المعارضة الأفغانية. والمفارقة التي تجمع أن باكستان تدعم حركات متطرفة مثل «طالبان» و «القاعدة»، وهي التنظيمات نفسها تقريباً التي تدعمها تركيا في سوريا، مع فارق «بسيط» هو أن درجة التوحّش عند التنظيمات السورية المعارضة التي تدعمها تركيا أكبر بكثير، ويزداد الفرق لجهة أن سلطة «حزب العدالة والتنمية» تطرح نفسها على أنها تمثل إسلاماً معتدلاً!
كذبة الإسلام المعتدل لم تنطل كثيراً على شعوب المنطقة، وأيقنت أن هذا الإسلام هو مجرّد شخص قادم من العصور الوسطى مع ربطة عنق. هكذا يستطيع إسلام «حزب العدالة والتنمية» أن يرتكب كل الموبقات من دون أن يحاسبه أحد على الأقل حتى الآن. لكن اللعبة باتت مكشوفة منذ تفجيرات سوروتش في 19 تموز الماضي وصولاً الى ذروة الانكشاف في تفجير أنقرة يوم السبت الماضي.
وبمقارنة بسيطة بين الوضع في تركيا في مرحلة ما قبل الانتخابات النيابية الأخيرة في السابع من حزيران الماضي وبين مرحلة ما بعدها، يتّضح أن تركيا كانت تشهد منذ سنتين ونصف السنة على الأٌقل واحدة من أكثر الفترات هدوءاً واستقراراً داخلياً تبعاً للتفاهم بين الدولة التركية و «حزب العمال الكردستاني».
ولكن فجأة، بعد الانتخابات النيابية، تحوّلت تركيا خلال أقل من ثلاثة أشهر الى بركان من نار وحمام من دم وحالة من فوضى سياسية وأمنية وعسكرية، وباتت أقرب لتكون أفغانستان، من أن تكون باكستان التي كانت عليه الى ما قبل الانتخابات النيابية.
فجأة بعد انتخابات حزيران الماضي، فتحت تركيا قاعدة إينجيرليك أمام الأميركيين، وفجأة اعلنت الحرب على «داعش»، وفجأة اعلنت الحرب على «حزب العمال الكردستاني»، وفجأة حصلت مجزرة سوروتش التي راح ضحيتها 32 شخصاً، ومن بعدها مجزرة انقرة الأخيرة التي قتل فيها أكثر من مئة شخص وجرح المئات.
أسئلة كثيرة تطرح. لماذا انقلب الوضع فجأة من مستقر وعادي الى متوتر ودموي؟ ولماذا المستهدف في تفجيري سوروتش وأنقرة هم الفئة نفسها أي مؤيدي ومناصري «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي؟
الجواب على هذين السؤالين كفيل بفهم ما يجري اليوم في تركيا منذ اربعة أشهر ونيّف، وصولاً الى الأول من تشرين الثاني المقبل، موعد إجراء الانتخابات النيابية المبكرة.
لا يختلف أحد أن تحوّل الوضع من مستقر الى دموي مرتبط ارتباطاً وثيقاً برغبة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان بتغيير المعادلة التي نشأت بعد فشل «حزب العدالة والتنمية» للمرة الأولى منذ العام 2002 في أن ينفرد بالسلطة التنفيذية والتشريعية.
وعلى قاعدة أن «حزب العدالة والتنمية» قد أصابه البلل، فلا خشية من تجربة انتخابات جديدة علها تعيده منفرداً الى الحكم، وتمكّن أردوغان من ترجمة حلمه بنظام رئاسي بقوة الأمر الواقع لا بقوة الدستور والقانون.
وكان اردوغان أعلن بعد الانتخابات التشريعية الاخيرة أن النظام التركي تغيّر بمجرد أن انتخب هو من قبل الشعب لرئاسة الجمهورية في صيف 2014. وبذلك كان يكشف أردوغان أوراقه كاملة من دون تردد واستحياء.
استراتيجية أردوغان هي أنه بمقدار كسر الصوت الكردي يمكن أن يعود منفرداً الى الحكم، ولذا كانت الحرب على الأكراد، وليس فقط على «حزب العمال الكردستاني» أملاً بتخويف الأكراد من جهة، وطمعاً بكسب بعض الأصوات القومية من درب «حزب الحركة القومية» تكون باعتقاده كافية ليرتفع التأييد لـ»حزب العدالة والتنمية» من 41 في المئة الى 44 في المئة، وهي نسبة كافية ليحصل على 276 نائباً، أي النصف زائداً واحداً.
مجزرة سوروتش أتت في هذا الإطار. حتى الآن لم يكشف عن نتائج التحقيقات بشأن العملية الارهابية التي أعلن رئيس الحكومة احمد داود أوغلو أن «داعش» قام بها حتى قبل أن يبدأ التحقيق. ومن بعدها لا أحد يدري ما الذي حصل في التحقيق.
تفجير أنقرة يأتي في السياق ذاته: تخويف الصوت الكردي والإمعان في الانتقام ممن كان السبب في كسر اردوغان في الانتخابات الماضية. لا يمكن لأحد ان يسأل ان هذا الأسلوب هو انتحاري لأردوغان، فالمستأثرون بالسلطة غالباً ما لا يعودون يرون ما يفعلون. تتقدم نزعات الانتقام على ما عداها، فيُعمى البصر والبصيرة على قاعدة «ومن بعدي الطوفان».
ارتباك حكومة حزب العدالة والتنمية في التعاطي مع تفجير أنقرة يُطلق الشبهات في مسؤوليتها عن المجزرة.
1ـ حاولت الحكومة التركية التعاطي بلا مبالاة ولا مسؤولية عندما أعلن داود اوغلو أن حكومته ليست حكومة «حزب العدالة والتنمية»، بل هي حكومة انتخابات. كان يريد أن يتهرّب هو وحزبه من المسؤولية. لكن الكل يعرف أن كل الوزراء في الحكومة الانتقالية هم إما أعضاء في «حزب العدالة والتنمية» أو كانوا وزراء او نواب سابقين عن الحزب او موظفين منتمين الى الحزب الحاكم. ولو افترضنا خطأ كل ذلك، فعلى الأقل، هو الحزب الذي يقود الحكومة، وله نصف الوزراء المباشرين، ولا يمكن له أن يتهرّب من المسؤولية.
2 ـ بان الارتباك واضحاً عندما أشار داود اوغلو الى أن مرتكبي تفجير انقرة المزدوج قد يكونون «داعش» و «حزب العمال الكردستاني». وهذا الجمع بين العدوين اللدودين لا يمكن أن ينطلي على أحد، اذ كيف يمكن لهما ان يلتقيا على تفجير مثل هذا؟ وكيف يمكن لـ «حزب العمال الكردستاني» أن يقتل مئة من مؤيديه كما لو أنه منظمة مافيا إجرامية، في حين أنه يقود نضالاً إنسانياً للمطالبة بحقوق شعب مقهور ومهدورة حقوقه في بلد كان يتعامل مع أكراد كما لو أنهم ليسوا بشراً؟
3 ـ أعلن داود أوغلو أن لدى السلطات التركية قائمة بأسماء انتحاريين محتملين تضمّ العشرات، وقد تبيّن ان اسمَي اللذين ارتكبا الجريمة الموصوفة في أنقرة ضمن في هذه اللائحة. اكثر من ذلك فإن والد أحدهما تحدث قبل سنتين الى صحيفة «راديكال» التركية عن شكواه الى السلطات الأمنية عن أخذ «داعش» لابنه الى سوريا ولدى عودته في إحدى المرات الى بلده آدي يمان طلب من الشرطة التركية أن تعتقله وتحبسه، لكن هذه السلطات استجوبته في المخفر وأطلقت سراحه فوراً. وعندما سئل داود اوغلو في حديث تلفزيوني بعد تفجير أنقرة لماذا لم تتخذ الحكومة إجراءات بحق القائمة التي تحدّث عنها، كان جوابه، الذي أثار سخرية النقابات ومنظمات المجتمع المدني، أن تركيا بلد قانون ولا يمكن اعتقال أحد لمجرد الشبهة، ولا يمكن التحرّك إلا إذا حدث شيء ما. بكل بساطة ولا مسؤولية، ينتظر رئيس الحكومة التركي ان يقتل الانتحاريون المدنيين الأبرياء لكي يتحرّك بعد فوات الأوان!
4 ـ لقد وقع التفجير في قلب العاصمة التركية، وهو الأكبر في تاريخ تركيا منذ إعلان الجمهورية في العام 1923. مع ذلك لم يتحمّل أحد المسؤولية. لا وزير الداخلية استقال ولا وزير العدل. وبعد خمسة أيام كان قائد شرطة أنقرة هو كبش الفداء الذي افتدى به المسؤولون السياسيون أنفسهم. بل عندما سئل وزير الداخلية عما إذا كانت هناك ثغرات أمنية أجاب بالنفي. ولكن قبل يومين كان أردوغان يقول إنه قد تكون هناك أخطاء حصلت ويجب التحقيق في ذلك. وفي كلتا الحالتين هناك تناقض ومكابرة بتحمل المسؤولية او تحميلها للموظفين الصغار. لا أحد يُصدّق ان هناك ضعفاً استخبارياً، خصوصاً أن الأسماء كانت موجودة والحادثة في قلب أنقرة، ووسط توتر أمني كبير، ومع ذلك هل يعقل ألا تكون هناك تحسّبات لعمل مثل هذا النوع؟
5 ـ لقد بان الارتباك والتخبّط عبر منع مدعي عام الجمهورية كل وسائل الإعلام من نشر أي معلومة مكتوبة او مرئية او عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو أي وسيلة أخرى حول الحادثة، بعدما تكاثرت الشبهات والاتهامات للحكومة. فلماذا كل هذا التعتيم؟
يتهم الأكراد اردوغان شخصياً بأنه وراء العمل التفجيري في انقرة. صحيفة «أوزغور غونديم» التابعة لـ «حزب العمال الكردستاني» عنونت صفحتها الأولى بعد التفجير بـ «أردوغان القاتل». أردوغان لم يعلق على الحادثة سوى بعد أربعة أيام، وكان تعليقه أن «داعش» و «حزب العمال الكردستاني» و «قوات الحماية الكردية» في سوريا، و «حزب الاتحاد الديموقراطي السوري» بزعامة صالح مسلم هم سواء بالنسبة الى تركيا... فكلهم إرهابيون. حماية «داعش» أو إخراجها من دائرة التركيز هدف أساسي لأردوغان. لا يمرّ اسم «داعش» بمفرده في تصريحات قادة «حزب العدالة والتنمية». لا تزال وظيفة هذا التنظيم المتشدد قائمة ما دام يخدم الهدف الأول والأخير لأردوغان وهو إسقاط النظام في سوريا. لكن هذا الوحش لن يتردد في لحظة الانقلاب عليه، التي لم تحن بعد في أن يلتهم أسياده. التقارير التي نشرتها الصحف التركية، امس الاول، كانت مرعبة في القول إن عشرة آلاف من أصل تركي ينتمون اليوم الى «داعش». كان الاعتقاد أنهم حوالي الخمسة آلاف. وإذا أضفنا الى هذا أن من 13 الى 15 في المئة من قواعد «حزب العدالة والتنمية» (أي حوالي 2 - 3 ملايين) لا ترى في «داعش» تنظيماً إرهابياً، فإننا أمام صورة مخيفة من بيئة رسمية وشعبية حاضنة للإرهاب في تركيا، ولا أحد يدري كيف يمكن تطهير النسيج الاجتماعي التركي من هذا الفيروس في المستقبل.
لقد أدّت سياسات «حزب العدالة والتنمية» الخاطئة والمغامرة الى إدخال تركيا في أتون من الدم والنار والدموع والتراجع الاقتصادي والعزلة الخارجية، حيث بلغت الكاريكاتورية والسخرية ذروتها في استدعاء وزير الخارجية التركي للسفيرين الروسي والأميركي في أنقرة لاحتجاج على مساعدات عسكرية من بلديهما لقوات الحماية الكردية في سوريا، وفي أن ذلك يمثل تهديداً للأمن القومي التركي، من دون ان يتساءل وزير الخارجية ومَن فوقه من مسؤولين، كيف يمكن لهذا أن يكون تهديداً للأمن القومي التركي ولا يكون التهديد الحقيقي هو أن تفتح تركيا حدودها ومخازن أسلحتها وأراضيها لكل صنوف الدعم بالسلاح والمقاتلين من كل انحاء العالم للمجموعات المعارضة في سوريا؟
أوليس جديراً بمسؤولي «حزب العدالة والتنمية» أن يتساءلوا مع المعلق البارز التركي سامي كوهين لماذا أصبح لتركيا كل هذا الكمّ من الأعداء؟
رغم أنه كان جزءاً من سياسات «حزب العدالة والتنمية» في السابق، إلا أن الرئيس السابق عبدالله غول كانت له الجرأة في أن يرسل برقية تعزية إلى صلاح الدين ديميرطاتش، رئيس «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، عن ضحايا مجزرة انقرة. وكان لدى ديميرطاش الشجاعة ليدعو الله في ردّ على الرسالة أن يرضى عن غول. حتى الآن لم يعزِّ أي من مسؤولي «حزب العدالة والتنمية» أحداً من الأكراد، لا بمجزرة سوروتش، ولا بمجزرة أنقرة.
في مناخ مثل هذا كيف يمكن لتركيا أن تغيّر سياساتها؟ يجب انتظار انتخابات الأول من تشرين الثاني المقبل، لعل قادة «حزب العدالة والتنمية» يعقلون بعض الشيء، ويقبلون بحكومة ائتلافية تُخرج تركيا من جحيمها الحالي، وهذا لن يحصل إلا إذا وجّه الناخب التركي رسالة قوية الى «حزب العدالة والتنمية» أنه لا يستطيع التحكم بالبلاد بمفرده لأن النتيجة أمامه ستكون المزيد من القتل والتفجيرات والدماء والدموع.
الاستطلاعات لا تعطي «حزب العدالة والتنمية» ما يريده. وإذا لم تكن الانتخابات وسيلة لتغيير السياسات فليس على تركيا سوى أن تنتظر المزيد من الفراغ السياسي والعبث الدموي والمزيد من تحوّلها الى أفغانستان أخرى، ليس بسبب تدخل الدول الخارجية التي لا تزال تحتفظ برباطة جأش تجاه أنقرة، بل بسبب السياسات الرعناء لـ «حزب العدالة والتنمية»، والرغبة الجنونية في أن يستمرّ قادته، ما دام الرئيس بشار الاسد في الحكم، في إغراق سوريا في الدم والخراب والفوضى، على ما خرج به فريدون سينيرلي اوغلو، وزير خارجية النظام التركي بعد لقائه مع نظيره السعودي، ليتحوّل النظام في تركيا، ومنذ سنوات، فعلاً لا قولاً الى التهديد الأكبر للاستقرار والسلم في المنطقة، وإلى المغّذي الأول للفتن والحروب الأهلية في الشرق الأوسط وصولاً إلى تركيا نفسها.
محمد نور الدين: السفير
إضافة تعليق جديد