سوريا والهدنة: صعود «النصرة» و«داعش» وتدخل تركي جواً وبراً والفصائل تتناحر في الغوطة
تبدو الهدنة السورية التي لم يعد من الممكن التأكد من تماسكها واستمرارها إلا من خلال تصريحات عابرة للحدود، كأنها تحوّلت إلى كيان «افتراضي» مستقل ومنفصل عن الواقع السوري، ولا يتأثر بأحداثه مهما تطورت وتصاعدت هذه الأحداث.
لذلك لم يكن مستغرباً أن تُمدّد الهدنة لثلاثة أيام جديدة بتوافق أميركي ـ روسي، برغم الهجوم الواسع الذي قام به «جيش الفتح» في ريف حلب الجنوبي، وأدى إلى خروج خان طومان الإستراتيجية من سيطرة الجيش السوري.
ويبدو أن الجيش السوري بدأ أمس عملية لاسترداد المنطقة، حيث تدور اشتباكات مع المجموعات المسلحة في محيط خان طومان في ريف حلب الجنوبي بمختلف أنواع الأسلحة، وسط غارت جوية وقصف بالمدفعية وراجمات الصواريخ على تجمعات المسلحين في الحي الغربي لبلدة خان طومان وطرق إمدادهم من الراشدين الرابعة والخامسة والخالدية. وأشارت وكالة الأنباء السورية ـ «سانا» إلى مقتل 4 أشخاص وإصابة 14 جراء سقوط قذائف على حيي الميدان والجميلية في حلب.
ووسط الغموض الذي يلفّ حدود الهدنة ونطاقها وآليات تطبيقها وكيفية المحاسبة على الانتهاكات التي تتعرض لها، كان لافتاً مدى الانتعاش الذي أصاب «جبهة النصرة» في ظلالها وتحت سقفها، فيما كان المتوقع أن تؤدي إلى عزلها وإضعافها. والحال كذلك فلماذا لا يستغل زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري هذا الواقع ويخرج داعياً إلى «النفير» لأرض الشام، ومطالباً الفصائل بالتوحد مع «جبهة النصرة»، باعتبارها تمثل «طائفة المجاهدين» الذين أفشلوا المؤامرات ضد «إقامة الخلافة وتطبيق الشريعة في الشام، أرض الرباط والجهاد»؟
ويغدو التساؤل عمن هو الطرف المستهدف من وراء فرض الهدنة ومن هو الطرف المستفيد، مشروعاً للغاية، بعد ملاحظة أن الانتعاش «النصراوي» رافقه تحرر تنظيم «داعش» من تداعيات الهزيمة التي لحقت به في تدمر والقريتين، واستعادته زمام المبادرة في أكثر من منطقة، سواء ضد الجيش السوري كما حصل في حقل الشاعر ومحيطه، أو ضد الفصائل في ريف حلب الشمالي حيث يسيطر على قرى جديدة بشكل شبه يومي. وما زاد الطين بلّة أن أنقرة تستغل هذا التقدم لـ «داعش» كي تزيد من حجم تدخلاتها فوق الأراضي السورية والتي بلغت ذروتها، أمس الأول، مع ورود أنباء عن تنفيذ الجيش التركي عملية إنزال في الجهة المقابلة لبلدة كيليس التركية.
الظواهري: دعوة للنفير والوحدة .. والغوطة؟
ودعا الظواهري أنصاره في مختلف أنحاء العالم إلى الانضمام للقتال في سوريا، مشدداً على ضرورة توحد الفصائل، لأنها باتت قضية حياة أو موت، في وقت استمرت فيه الاشتباكات في الغوطة الشرقية بين «جيش الإسلام» من جهة و «جيش الفسطاط» و «فيلق الرحمن» من جهة ثانية.
وكان لافتاً أن «جيش الإسلام»، خلال دعايته الإعلامية المواكبة للاشتباكات، ركز بشدة على أنه يواجه ما أسماه تحالف «الإخوان المسلمين - القاعدة». وهذا التوصيف الذي استخدمه «جيش الإسلام» لا يشير إلى مدى عمق الخلاف بين الأطراف المتقاتلة في الغوطة الشرقية فحسب، بل يشير كذلك إلى حجم التجاذب الإقليمي الذي يقف وراءه ويغذّيه، لأن المعركة وفق هذا التوصيف باتت بين إيديولوجيتين، تتماهى كل منهما مع موقف إقليمي مختلف، وليس بين فصيلين نتيجة أسباب محلية محضة.
ويبدو أن الأمور في الغوطة ذاهبة نحو التصعيد، خصوصاً في ظل فشل مبادرات الوساطة التي أطلقتها عدة جهات للتوسط بين المتقاتلين، ما أدى إلى تجدد الاشتباكات التي أسفرت حتى الآن عن مقتل ما يقارب 300 مسلح من جميع الأطراف. وبالرغم من أن «جيش الإسلام» نجح، أمس، في السيطرة على بلدة مسرابا، معتبراً نفسه بذلك أنه أفشل مخطط تقسيم الغوطة الذي كان يخشاه، إلا أنه فشل في معركة الإعلام، حيث تضررت سمعته تضرّراً غير مسبوق، خصوصاً بعد صدور بيان «علماء الغوطة» الذي حمّله المسؤولية عن البدء في الاعتداء على الفصائل الأخرى.
لذلك تبدو دعوة الظواهري إلى التوحد في ظل هذه الظروف، إما أنها دليل على انفصال الرجل عن الواقع وعدم إدراكه حقيقة ما يجري على أرض الشام، أو أنها محاولة أخيرة لوضع الفصائل أمام الأمر الواقع قبل أن تتخذ «جبهة النصرة» قراراً مصيرياً حول طبيعة وجودها في سوريا وشكله والأبعاد التنظيمية التي يمكن أن تلجأ إليها في سبيل ذلك. لكن هذا لا يمنع أن الدعوة إلى «النفير» تمثل خطورة بالغة، لأنها تشير إلى استعداد «القاعدة» للتصعيد في سوريا مستغلة حالة الخلل البنيوي الذي تعاني منه إدارة الهدنة فيها.
«داعش» يهاجم من جديد .. وتركيا تصعّد
ولوحظ أنه منذ انتهاء الجولة الثالثة من محادثات جنيف وما رافقه من تصعيد على الأرض، كان «داعش» من أكثر الأطراف المستفيدة من جراء ذلك. إذ تجاوز التنظيم تداعيات الهزيمة التي لحقت به في تدمر والقريتين على يد الجيش السوري، واستعاد مبادرته الهجومية، حيث نفذ خلال أسبوعين عدة عمليات، فشل في بعضها لكن نجح في القسم الأكبر منها. فقد هاجم في مدينة دير الزور، كما هاجم في حقل الشاعر وبسط سيطرته على الحقل للمرة الثالثة بعد معارك شرسة مع الجيش السوري، كما هاجم، أمس، محيط طريق خناصر - أثريا على محور جبل أبو كرز - الحمام، لكن الجيش تصدى له وأفشل هجومه. غير أن ذلك لا يلغي أن إصرار التنظيم على مهاجمة الطريق الوحيد الذي يمتلكه الجيش لدخول مدينة حلب، يشكل حالة استنزاف كبيرة لقدرات الجيش في المنطقة.
من جهة أخرى، واصل التنظيم قضم مزيد من البلدات والقرى في ريف حلب الشمالي، حيث انتزع، أمس، السيطرة على بلدة دوديان الحدودية للمرة الثالثة خلال أسابيع قليلة، في ظل معارك الكر والفر مع الفصائل المسلحة الأخرى. كما سيطر على قرية دلحة، وأسر بعض عناصر الفصائل التي تقاتله.
ويأتي ذلك بعد أسابيع من إعلان متحدث باسم التحالف الدولي عن وجود اتفاق أميركي ـ تركي يقضي بدعم بعض الفصائل المسماة «الفصائل المنتقاة» لتمكينها من السيطرة على كامل الشريط الحدودي بين جرابلس وإعزاز. غير أن فشل هذه الفصائل في مهمتها، دفع أنقرة على ما يبدو لرفع وتيرة تدخلها فوق الأراضي السورية. وقد اتخذ هذا التدخل شكلين: الأول مواصلة قصف معاقل «داعش» باستخدام المدفعية الرابضة على الضفة الثانية من الحدود، والثاني: عبر القيام بعمليات تدخل بري كما حصل، خلال اليومين الماضيين، حيث أشارت صحيفة «يني شفق» التركية إلى توغل فرقة تركية خاصة، مؤلفة من عشرات الجنود، داخل الأراضي السورية في الجهة المقابلة لبلدة كيليس التركية. وذكرت الصحيفة أن العملية جاءت بهدف رصد منصات الصواريخ التي يستخدمها تنظيم «داعش» لاستهداف الأراضي التركية. ونقلت وكالة «الأناضول» عن مصادر عسكرية تركية قولها إن «طائرات استطلاع تركية حددت مساء أمس الأول (السبت) مواقع للتنظيم في ناحية صوران وقرية براغيدة وقصفتها بالمدفعية وراجمات الصواريخ». ولفتت المصادر، بحسب الوكالة، إلى «تدمير ثلاث مركبات وثلاث منصات صواريخ وقتل 55 إرهابياً».
وتأتي هذه التحركات التركية في إطار تصعيد متدرج لجأ إليه الجيش التركي منذ فترة، من دون أن يكون واضحاً الحد الذي يمكن أن يقف عنده أو حقيقة الهدف الأخير الذي يبتغي تحقيقه، لا سيما في ظل تأكيد السلطات التركية استمرارها في تبني مشروع «المنطقة الآمنة» وتهديد مسؤولين فيها باللجوء إلى كل الأساليب بذريعة وقف سقوط قذائف «داعش» على أراضيها.
إلى ذلك، يزور وزير الخارجية الأميركي جون كيري باريس اليوم وغدا ثم لندن، لإجراء مباحثات تتناول بصورة أساسية سبل التوصل إلى تسوية ديبلوماسية للنزاع في سوريا. وسيلتقي كيري نظيره الفرنسي جان مارك ايرولت من دون معرفة ما إذا كان سيشارك اليوم في اجتماعا دعا إليه نظيره الفرنسي كلا من وزراء خارجية السعودية والإمارات وقطر وتركيا لبحث وقف الأعمال العدائية في سوريا.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد