د.بشار الجعفري ورواية تاريخية تؤصل للإسلام في أرخبيل الملايو معتمداً على الوثائق
عن طريق التجارة والتجار، ومع رحلات الاستكشاف، وبالفتوح والقوة وصل الإسلام إلى أرخبيل الملايو كما تقول بعض دراسات المستشرقين من غير المسلمين، ولم تناقش مثل هذه الآراء لانعدام وجود دراسات جادة ومنهجية، ولانعدام وجود معلومات لدى القارئ قادرة على مناقشة الآراء التي تحملها الدراسات التي وصلتنا، هذا ما يذهب إليه د.بشار الجعفري في تقديمه للبحث الشائق (أولياء الشرق البعيد- أساطير مجهولة في أقاصي المعمورة) والذي صدر في طبعته الثانية المعدلة عن الهيئة السورية العامة للكتاب بدمشق منذ أيام، وقد أحسن د.الجعفري بطبعه في الهيئة بدمشق، والهيئة أصدرته بصورة لائقة، ليقدم كلاهما للقارئ السوري كتاباً فيه من التميز الكثير شكلاً ومضموناً، وحبذا لو قدم المؤلفون ذوو المكانة مؤلفاتهم في مؤسسات سورية لتكون متاحة للقارئ السوري بالشكل الأمثل، وحبذا لو تبع هذا الكتاب، كتاب الجعفري المهم (سياسة التحالفات السورية) في طبعة تتاح للقارئ السوري.
الأساطير والحلقة المفقودة
عنون المؤلف كتابه بالأساطير، وذلك عن وعي وقصد، فما يتم تداوله عن الشرق البعيد والإسلام أشبه ما يكون بالأساطير، ويعزو ذلك في السطور الأولى إلى الاهتمام الذي أولاه الدارسون للمناطق القريبة من المنطقة العربية «تنقب في أمهات الملفات المتعلقة بتاريخ العلاقات العربية والإسلامية مع أوروبا والغرب، على حين لم تول تلك الأقلام عناية مماثلة لتاريخ العلاقات العربية والإسلامية مع أقاليم جنوب شرق آسيا عموماً ومع أرخبيل الملايو على وجه الخصوص، رغم ما يكتنف تلك العلاقات من معطيات ودروس مهمة لا تزال صالحة حتى أيامنا هذه، ورغم ما تنطوي عليه تاريخية العلاقات هذه من قدم وغنى في الاتصالات المبكرة، وتواصل في التحالفات الرادعة وتشابه في التجربة وتماثل في طبيعة الخصوم والأعداء».
الذي يعني القارئ هنا هذه النظرة المتقدمة جداً للدكتور الجعفري، فهو الدبلوماسي العارف، وقبل سنوات من الحرب التي تشن على العرب، وعلى الإسلام ضمناً حدد مواطن الضعف الفكرية، فالعرب توجهوا بحكم الجوار وأشياء أخرى إلى الغرب وأوروبا، وتغافلوا عن العلاقات التي تربط بين العرب، ومن تشابهات في التجربة، بل التجارب، واللقطة التي يوقف عندها هي طبيعة الخصوم والأعداء، وإذا ما عدنا إلى ما أطلق عليه رحلة نهوض النمور الآسيوية والآلية التي تعامل معها الخصوم ندرك عمق ما جاء به الدكتور جعفري.. هذا بالإضافة إلى الأثر الكبير الذي تركه المسلمون الأوائل الذين قصدوا الأرخبيل وأندونيسيا، مما قرّب من الطبيعة التي تؤثر السلام والإقناع بعيداً عن القوة الفتوح، ويضاف إلى ذلك أن هذه الرواية التاريخية ليست رواية بعيدة، بل هي رواية عن قرب لرجل قضى عمراً في تلك المنطقة، ومن هنا أنظر إلى هذه الرواية من اتجاهات ودوافع:
– تحرير النظرة الاستشراقية التي اتخذت وجهات غير دقيقة.
– إنصاف المسلمين الأوائل الذين قصدوا الملايو، وإنصاف مسلمي الأرخبيل.
– القراءة السياسية الدبلوماسية الواعية، وهو الذي يتواصل مع صفوة المجتمع.
نقد المصادر
أسهمت الروح الأكاديمية التي يملكها د. جعفري في تحديد المصادر ونقدها في مقدمة الدراسة الضافية، فنهج بذلك نهج الدراسة الأكاديمية التي خبرها، وهذا ما ساعده على تحديد المنهج الروائي التاريخي القائم على التوثيق، لكنه لا يكتفي بالوثائق والإحالات، بل قام بإسباغ ا لروح على الشخصيات، وكساها من ذاته لتصلح أن تكون عملاً درامياً شائقاً يتتبع هذه الرحلة، فأخذ من كتابات المستشرقين الغربيين والآسيويين من غير المسلمين مثل: ساستسري، شرايكه، وينستدت، كليفورد، غرينباوم، برنارد لويس، غرونجيه، فليكه.. إضافة إلى أعلام التاريخ في الحضارة الإسلامية وخاصة كتب أدب الرحلات الغنية، والكتاب يؤكد أن الجعفري قرأ وهضم الكتب، ولم يستعن بها لأخذ معلومة مثل: أبو الحسن السيرافي، ابن رسته، الاصطخري، ياقوت الحموي، ابن خلدون، ابن بطوطة، الإدريسي، القزويني، القلقشندي وغيرهم من الكتاب.. ويبدو أن الكاتب وهو صاحب المعرفة باللغات آلمه ما وجده في الكتب والدراسات من ظلم للحضارة الإسلامية والآسيوية عموماً، لذلك حدد غرضه من هذا الكتاب بشكل مباشر «إن كتابي هو رحلة روائية عبر عبق التاريخ والجغرافيا والثقافة غرضها الرئيسي هو إثبات أن سادة العولمة بمعناها الحضاري والإنساني هم المسلمون والعرب والآسيويون بمن فيهم سكان أرخبيل الملايو، وأن هذا المصطلح ليس جديداً ومستنبطاً من التقدم العلمي الغربي الحالي، بل قديم قدم الاتصالات بين الشرق العربي والشرق الآسيوي، وأن التجار والدعاة و«والي سونغو» أو «أولياء الشرق البعيد» هم مؤسسو العولمة الإنسانية الحضارية الأوائل في الدنيا، فالغيرة على العرب والمسلمين وأهل الأرخبيل الذين عرفهم هي الدافع للكتاب وتأليفه، ورد الحقائق إلى أصحابها ،وهذا بحد ذاته نقطة مهمة لمصلحة الكتاب والكاتب، فهو ليس كاتباً محلياً متقوقعاً، ولا يجمع الوثائق المتاحة ليدافع عن أمته دفاعاً مرضياً، بل لكاتب يتحدث لغات عدة، وارتقى سلم الأكاديمية، وخبر الشعوب من قادتها إلى الشرائح كافة، ويكتب ليضع أمته في موضعها، لا ليبخس الآخرين ويظهر تفوقاً غير حقيقي، وفي حديثه يتناول السبق الحضاري، ولا يتحدث عن تفوق عرقي أو ديني أو ما شابه.
الكتاب وجغرافيته
لم يبتعد المؤلف عن الحاضنة العربية في المشرق وبغداد خاصة، بل قدم من خلال شخوصه أحداثاً تجري في بغداد ليمهد للبيئة المناسبة للانطلاق «وأما في الداخل فقد نكّل المعتصم بكل من خالف رأيه المعتزلي القائل بخلق القرآن، وقد قام المعتصم بنفسه بامتحان الإمام أحمد بن حنبل حول هذه المسألة، ولما خالفه الرأي ضربه بالسوط وأمر بسجنه وتعذيبه..».
ويضيف في تصوير الأجواء «هكذا كانت الأجواء السائدة في عصر أبي عبد الله، شعوب مسلمة ومتعددة الأعراق واللغات تتعايش فيما بينها متحينة الفرصة للقفز فوق سدة السلطة، وأقليات غير مسلمة من مختلف الطوائف والعقائد تبحث عن دور لها في ظل عظمة الخلافة الإسلامية، وعلماء وفقهاء يجولون الأمصار بحثاً عن الحقيقة المنشودة ووقوفاً على حدود تلك العظمة الجغرافية».
ومن ثم تأتي رحلة السفينة التي تستغرق أعواماً، فيها ما فيها من أهوال وموت ورعب يأتي تصويرها كما في كتب الرحلات لابن بطوطة، مع استخدام مصطلحات مماثلة وشبيهة مثل (الزابج)، وتبدأ العلاقة التجارية وها هو الأمير في تلك البلاد البعيدة يقول «إن حكومتنا تولي أهمية كبرى للتجارة مع الأمم الأخرى، ولذلك فنحن نقوم بالسهر على حفظ أموال وتجارة الضيوف الأجانب الذين يتاجرون معنا».
ما بين بغداد وأرخبيل الملايو وحضرموت، ما بين سياسة وتجارة واقتصاد، ما بين علم وتاريخ وأدب، يسرد المؤلف تاريخ تلك الحقبة، ويرصد التعامل بين العرب والآخرين، وللحق فإن الكتاب يمتع قارئه ويشوقه، ولكنه في الوقت نفسه صعب على القارئ الذي لم يمتلك تلك الخلفية التاريخية للحقبة التي تجري روايتها..
كتاب مهم يعطي أبعاد قراءة الدكتور الجعفري السياسية والفكرية لمجريات سبقت، وربما يؤسس لرأيه فيما يمكن أن يكون حاكماً لعلاقات الناس والدول، وربما كان اختيار الأسلوب الروائي الحكائي من باب الخروج من إعطاء أحكام قيمة قد يختلف عليها الباحثون والقراء..
كتاب (أولياء الشرق البعيد) يميط اللثام عن خاصة كتابية وفكرية وأدبية عند الدكتور الجعفري ويكشف جوانب عن جهود العرب في نشر الإسلام، وفي إقامة علاقات مميزة مع الآخرين، ومحاولة لإعادتنا لقراءة هذا المنجز وقد جاء في كلمة الكتاب:
«هذا الكتاب الرواية المودع بين يدي القارئ هو أشبه ما يكون بالسفينة الشراعية التي حملت أوائل الرواد من سواحل الخليج العربي وعمان إلى الهند والبنغال والصين وجزر الملايو، فلنحاول معاً محاكاة مأثرة أولئك الرواد المبكرين، ولو أدبياً، لعلنا ندرك حجم ومدى الإنجاز الذي حققوه وأنجزوه في تلك المناطق النائية من كرتنا الأرضية التي سماها الرحالة العربي ابن بطوطة في غير يوم بلاد الواق- واق».
كتاب جدير بالقراءة، وشكراً للهيئة السورية للكتاب أن قامت بإعادة طبعه ليكون ميسراً بين أيدي القراء السوريين.
إسماعيل مروة
المصدر: الوطن
إضافة تعليق جديد