حزب البعث: القوميون يردون على أصحاب النزعة القطرية
الجمل ـ الدكتور سليم بركات:
لم تكن الكتابات القومية بالغزارة الواجبة خلال السنوات المنصرمة منذ بدايات ما يسمى "بالربيع العربي" وحتى يومنا هذا، الأمر الذي يعكس تراجع الثقافة الوطنية والقومية في مواجهة مخاطر هذا "الربيع" المدمر للحياة العربية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ومهما يكن فإن النقطة المنهجية التي أرغب في لفت النظر إليها هي أن البحث في القضايا التي تمس المصير العربي تستدعي التعمق الفكري في خصوصية الأمر المبحوث، كي يتم التمييز بين ما هو طارئ وبين ما هو مصيري. هذه المنهجية في التفكير تحصن من الوقوع في المزالق والأوهام التي تحرف الباحث أوالمفكر عن الموضوعية وتوصله إلى استنتاجات خاطئة، وربما خطيرة كلما ابتعد عن الحقيقة واقترب من هذه الأوهام .
عقيدة البعث وطنية قومية
ما أرغب الإشارة إليه هو أن المعرفة لا تكون معرفة بالمعنى الحقيقي إلا عندما تكون نتيجة دراسات علميّة معمقة، ولاسيما إذا كان الأمر متعلقاً بقضايا المصير العربي الوطنية القومية، ويمس عقيدة حزب سياسي كحزب البعث العربي الاشتراكي، الذي اقترن وجوده بلملمة الأشلاء العربية في مشروع قومي وحدوي عربي تبناه الحزب منذ أربعينات القرن المنصرم وحتى يومنا هذا. مشروع أخلص له وأكد عوامله المستنبطة من صميم الواقع العربي لا من البحث المجرد المقارن بحالات أخرى. فعقيدة البعث الوطنية القومية متميزة بخصوصيتها الوجدانية، لم تأت بواسطة أدوات القياس والاقتباس من الأمم الأخرى كما يتوهم البعض وإنما أتت نتيجة عوامل داخلية تحمل طابع الخصوصية العربية ، وإن كان هذا لا ينفي أثر المحيط الخارجي بفعل مقتضيات التطور والتقدم، التي تتطلب بناء مجتمع ديمقراطي نقدي يقاد بالأفكار. الأمر الذي يؤكد أن البحث عن قوانين جديدة من منظور البعث يتطلب البحث داخل المجتمع العربي وليس خارجه، وبما أن لكل مجتمع خصوصيته فإن الدراسة التاريخية المقارنة التي اعتمدها منظرو القومية قد تساعد العرب في تحقيق وحدتهم المنشودة كونهم ينتمون إلى أمة واحدة وإلى وطن محدد، انتماء لا يقوم على الوعظ والإرشاد بقدر ما يقوم على السلوك والمبادئ التي يعززها المخزون العاطفي العربي المتوارث عبر التاريخ.
من لايملك هوية قومية لايصنع تاريخاً
لا شك أن التردي الحاصل في المجتمع العربي قد أفرز موجة من التشكيك في المبادئ القومية، وحتى في وجود هوية قومية عربية يشترك فيها العرب المجزئين تحت شعارات الخصوصية القطرية، والهويات المتعددة (الإقليمية والدينية والإثنية، والجغرافية...) تشكيك نلمسه من خلال الانحسار الحاصل للمد القومي العربي في المرحلة الراهنة، والذي جعل من الهوية القومية الوطنية قضية للجدل بعد أن كانت مسألة بديهية. إنها اليوم ومن خلال أزمات المنطقة وعلى رأسها الأزمة السورية محل طعن وتشكيك لأن العرب في حالة من التيه يعيشون الهزيمة والتشتت، وطالما هم في هذه الحالة من التردي لابد من أن يتلذذوا بجلد أنفسهم، دون أن يعلموا أن في تخليهم عن هويتهم القومية الوطنية يكون تخليهم عن ماضيهم وعن تراثهم وأمجادهم، كما يكون تنكرهم لتجاربهم التاريخية ولوجودهم وعن مستقبلهم، وبالتالي يكون ضياعهم ليصبحوا خارج التاريخ و الجغرافيا معاً. وحتى لا يكون هذا الخروج كانت عقيدة البعث القومية الوطنية الوحدوية المفعلة للهوية القومية العربية ولحيوية الضمير القومي العربي المتجه نحو إرادة التحرر والتطور والتغيير، فمن لا يملك هوية قومية لا يصنع تاريخاً، ولا يغير واقعاً، ولا يحلم بمستقبل، ولا يهزم تيئيساً ولااستسلاماً ولاسيما في هذا العصر الذي مازال يعجّ بالمبادىء القومية ويتبنّاها.
مضمون البعث الثوري
كانت ولادة حزب البعث العربي الاشتراكي نتيجة التجربة المرة للمرحلة الاستعمارية، كما كانت نتيجة للمحاولات الرامية إلى ضياع فلسطين وخلق الكيان الصهيوني، وبالتالي كانت وما زالت في مواجهة الطموح الاستعماري الغربي في تجزئة الوطن العربي، الذي يسلب الأمة العربية إرادتها ووجودها، ويفقدها ماضيها وحاضرها ومستقبلها. لذلك كان البعث واضحاً مع جماهير الشعب العربي عندما طالبها بامتلاك ذهنية جديدة وفهم جديد يعطي الثورة العربية أبعادها الوطنية القومية الموحدة، التي تمكّنها من امتلاك معطيات العصر الذي تعيش فيه، فالوحدة والحرية والاشتراكية تمثل أهداف الأمة العربية ومصلحتها، كما تمثل مضمونها الثوري الذي لا يكون إلا باستبدال الثقافة التقليدية السائدة المعوقة في المجتمع العربي بالثقافة الحديثة المناضلة.
من هذا المنطلق كان الإحساس بالمسؤولية التاريخية التي يفرضها النضال الحزبي لقيام الدولة العربية الواحدة، ومن هذا المنطلق أيضا أصبحت الوحدة العربية هدفاً يحتل الأولوية في فكر البعث وفي التاريخ العربي الحديث والمعاصر. لقد ولد البعث في سورية، وهو يرفض الإيديولوجيات السائدة في سورية كما يرفض مثيلاتها في الوطن العربي، ولد وهو يرفض الإيديولوجية الدينية الإسلاموية مضافاً إليها الإيديولوجية القومية اللفظية، المرتمية في أحضان التبعية للمستعمر، ولم يأت رفض هذه الأيديولوجيات مجتمعة من قبل البعث إلا لأنه تبنى الأيديولوجية القومية العربية الثورية المؤمنة بالأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة. لقد ولد البعث من رحم العروبة ومن متطلبات الواقع العربي كبناء، ولد في سورية التي تنزع بفطرتها إلى بعث القومية العربية، سورية بلاد العرب قبل الحرب العالمية الأولى وأثناء الثورة العربية الكبرى، وقلب العروبة النابض كما قال جمال عبد الناصر، وهذا لا يعني أن لسورية ميزة عن غيرها من أقطار الوطن العربي سوى أنها وجدت في ظروف تاريخية وجغرافية جعلتها تسبق الأقطار العربية الأخرى من حيث الوعي القومي ومن حيث رؤاها القومية الوطنية الوحدوية.. كيف لا وهي أول قطر عربي ينتزع استقلاله !
الوطني هو القومي والقومي هو الوطني
من المفيد هنا الإشارة إلى كلمتي وطني وقومي وغيرها من الكلمات التي سادت في عصر النهضة الأوروبية وعمت الوطن العربي فيما بعد نتيجة التأثر العربي في هذه النهضة مثل كلمة (national) والتي تعني اسما كلمة مواطن وتعني صفة كلمة وطني وقومي، ومثل كلمة (nation) والتي تعني (دولة، شعب، قوم، أمة...) ومن ثم كلمة (citizenship) التي تعني مواطنة وكلمة homeland) ) والتي تعني وطن، لنرى أن كل هذه الكلمات المترجمة إلى اللغة العربية قد خضعت من حيث الفهم لمعطيات الترجمة ولآراء المترجمين، وعلى سبيل المثال لا الحصر ما تعنيه كلمة (Renaissance) التي تعني (نهضة، صحوة، يقظة، ولادة جديدة)، والتي فهمت في الفكر الغربي بمعنى الميلاد الذي تحقق على صعيد الواقع بفضل اقترانه بميلاد الثورتين الأمريكية والفرنسية بينما بقيت في الفهم العربي مشروعاً ذهنياً لم يتحقق على صعيد الواقع لأنه لم يقترن بإنجاز ثورة عربية تحمل طموحاته حتى الآن. وإذا ما تتبعنا هذه الكلمات أو المصطلحات أو المفاهيم ولنسميها ما نشاء على صعيد الفكر القومي العربي و البعث ضمناً لوجدنا أن الوطني هو القومي وأن القومي هو الوطني، وأي فهم يعارض هذا الفهم يعد خاطئاً وملغوماً.
يُعّرف حزب البعث العربي الاشتراكي كما نص عليه دستور الحزب على أنه حركة قومية شعبية انقلابية تناضل في سبيل الوحدة والحرية والاشتراكية، كما يتضمن هذا الدستور مجموعة من المبادئ الأساسية والعامة غير القابلة للتعديل والتي تؤكد من وجهة نظر الحزب على أن العرب أمة واحدة لها الحق الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة، وأن تكون حرة في توجيه مقدراتها، أمة واحدة تختص بمزايا متجليه في نهضاتها المتعاقبة، وتتسم بخصب الحيوية والإبداع وقابلية التجدد والانبعاث، أمة ذات رسالة خالدة تظهر بأشكال متجددة ومتكاملة في مراحل التاريخ، وترمي إلى تجديد القيم الإنسانية، والتقدم البشري، وهي تنمي الانسجام والتعاون بين الأمم.
إن حزب البعث العربي الاشتراكي حزب عربي يشمل الوطن العربي برمته، ويحق لكل عربي الانتساب إلى صفوفه، حزب يؤمن بأن القومية حقيقة خالدة وأن الشعور القومي الواعي الذي يربط الفرد بأمته ربطاً وثيقاً هو شعور مقدس يحفز القوة الخلاقة التي تشجع على التضحية، وتبعث الشعور بالمسؤولية التي لا تعالج السياسة القطرية إلا من وجهة نظر المصلحة العربية العليا، وهذه العقيدة القومية التي يدعو إليها الحزب تمثل إرادة الشعب العربي الانقلابية النضالية من أجل التحرر وقيام الدولة العربية الواحدة ضمن هذه البقعة من الأرض التي تسمى الوطن العربي والتي تمتد ما بين (جبال طوروس جبال بشتكويه، خليج البصرة، البحر العربي، جبال الحبشة، الصحراء الكبرى، المحيط الأطلسي، والبحر الأبيض المتوسط).
إن حزب البعث العربي الاشتراكي مؤسسة منتجة للكفاءات ولبناء الإنسان العربي الجديد، والبعثي الحقيقي هو من يتمثل أفكار الحزب ويعيشها نضالاً إلى جانب الجماهير العربية من أجل تحقيق أهداف البعث في الوحدة والحرية والاشتراكية، وإلى أن تصبح هذه الأهداف خياراً في حياته اليومية بالفكر والممارسة. ومع ذلك قد يحدث العكس عند البعض، عندما يلبس هذا البعض لكل حالة لبوسها، ليصبح ألعوبة بيد الآخرين تتقاذفه أهواؤه وميوله التي حولت حياته عن أغراضها، أفليست الريادة أصالة في المعرفة والبطولة أصالة في العمل؟. لابد للبعثي من أن يكون متفائلاً بقدرته على صنع المعجزات مهما كانت المصاعب، فالإنسان أولا والإنسان أخيراً، مطلوب من البعثي أن يكون ملتزماً بعروبته مناضلاً لتحقيق وحدتها، أميناً على رسالتها، ورائداً من روادها. وهذا لا يكون إلا عندما يدرك كل بعثي أن الوطني هو القومي وأن القومي هو الوطني كما هو متعارف عليه لدى أمم و شعوب العالم.
سورية تمثل إرادة الجماهير العربية
من هذا المنطلق المحمل بالمباديء والقيم العربية تمكنت سورية شعباً وجيشاً وقيادةً من الصمود في مواجهة هذه الحرب الكونية الإرهابية المعلنة عليها من قبل التحالف الإمبريالي الصهيوني الرجعي، ومن هذا المنطلق أيضا مثلت سورية إرادة الجماهير العربية في المقاومة، وهي ليست بحاجة إلى اجتهادات أو إعادة ترتيب للأولويات ولاسيما فيما يتعلق بصوابية ودور مؤسسات البعث الوطنية القومية التي تشكل مسيرة البعث النضالية ، وإنما الحاجة إلى تحقيق اللحمة الوطنية القومية التي تفعل صمودها وتسرع في تحقيق انتصاراتها.
إقرأ أيضا:
العمل الحزبي الوطني والقومي: د. عبد اللطيف عمران جريدة البعث 27/7/2016
إضافة تعليق جديد