المنصف المرزوقي: لا وحدة عربية فعلية إلا عبر الثقافة
عندما اتصلنا بالمنصف المرزوقي للقائه في باريس، قبل فترة لاجراء هذا الحوار ضمن اطار سلسلة الحوارات مع المفكرين الفاعلين حالياً في الثقافة والحياة العربيتين، كان يستعد لمغادرة العاصمة الفرنسية الى تونس. حتى هنا قد يبدو الأمر عادياً، فالرجل تونسي وهو لا يقيم في فرنسا إلا في شكل موقت، واعتاد التوجه الى بلاده لشؤون البحث والتدريس بين الحين والآخر. لكن الأمر كان في هذه المرة مختلفاً. فالذي قرأ الصحف الفرنسية في صباح ذلك اليوم نفسه كان يعرف أن المرزوقي يتجه في ذلك اليوم الى تونس متوقعاً ان يرسل الى السجن منذ أن تحط الطائرة به في مطار عاصمة بلاده. فالنائب العام في تونس يطلبه للتحقيق معه في عدد من الاقوال والتصريحات حول حرية التعبير وحقوق الانسان في تونس وفي غيرها، نسبت اليه وجرى تداولها في الصحف وارتأت السلطات التونسية ان الوقت حان للعودة الى مساءلة المرزوقي في شأنها، صحيح أن المرزوقي كان اعتقل مرات، لكن توجهه الى تونس هذه المرة لم يكن بحسب العادة، بل على سبيل التحدي، لكي يبرهن عملياً انه، في الاصل، لم يقترف جرماً لا في حق بلاده ولا في حق سلطتها.
أمام إصراره هذا نُصح المرزوقي بعدم السفر، لكنه أصر، وسافر بعد اجراء اللقاء، لكنه بدلاً من أن يعتقل هذه المرة، شرح موقفه ووجد من يستمع اليه ولا يؤذيه، ولو من دون اقتناع. هل لأن الامور تبدلت، أو لأن هذا المفكر الناشط في مجال حقـوق الانسان في بلده لم يعـد «يخيف»؟ فـقـط هو نفسه لا يعرف السبب. المهم انه من جديد أكد مواقفه وجرأته وكون لا شيء يمكنه أن يمنعه من العودة الى بلاده، بحسب أقواله.
والمرزوقي دكتور في الطب، وضع العديد من المؤلفات في مجال الصحـة العامة، وعلاقة القضايا الصحية بالحياة الاجتماعية. غير أن شهرته بدأت منذ عقدين من السنين وأكثر حين ترأس الجمعية التونسية لحقوق الانسان ما جعله مادة خصبة للمطاردة والملاحقة من السلطات الامنية، وذلك بالتوازي على تكوينه، ضمن اطار كلية الطب في الجامعـة التونـسية لجيل من الباحثـيـن الذيـن اهـتموا خاصة، تحت اشرافه، بالامراض النـاتـجة عن الظلم الاجتماعي والفقر، وكذلك بامراض الاطفـال ووفيـاتهم. ولقد اثمر هذا العمل، طبـياً وفكرياً لا سيما انطلاقاً من كليـة الطب في مديـنة سوسة. غير ان هـذا كله لم يـحمه من مغبة الطرد والملاحقة منذ ذلك الحين ما اضطره الى الاقامة بين الحين والآخـر في فرنسا يخـوض انطلاقاً منها يعتبره معركته الدائمة من اجل حقوق الانسان.
و د. المنصف المرزوقي، الذي صور تجربة حياته ونضاله في اجزاء اربعة يتألف منها كتاب له أصدره قبل فترة في عنوان «الرحلة» هو حالياً الناطق باسم المجلس الوطني للحريات في تونس، ويكتب في الصحف والمجلات، ومن ضمنها مجلة «الحدث» الصادرة في باريس باللغة العربية والتي له فيها زاوية شهرية دائمة يتناول فيها شؤون الديموقراطية ومستقبل المجتمعات العربية.
وهذا الحوار مع المرزوقي المولود في العام 1945، هو حلقة جديـدة من هذه السلسلة التي تنشرها «الحياة» منذ حين، والتي ضمت حوارات مع ابرز قادة الفكر في العالم العربي.
> فترة طويلة أمضيتَها في العمل الفكري والدفاع عن حقوق الإنسان ومسائل أساسية مثل الإصلاح والنظرة الى المستقبل العربي. أي صورة يمكن ان تنقلها إلينا من موقعك الراصد للواقع، من خلال التاريخ، والمتطلع الى المستقبل، نعني صورة الوضع الراهن للعالم العربي؟
- المشكلة ان الزمن الجيولوجي ليس زمن الحضارات وزمن الحضارات ليس زمن الشعوب، وزمن الشعوب ليس زمن الدولة وزمن الدول ليس زمن الأشخاص. أنا أعيش في زمن الأشخاص، وبالنسبة إليّ، ثلاثون سنة نضالاً من اجل الديموقراطية وحقوق الإنسان من دون نتيجة واضحة شيء رهيب. لكن ثلاثين سنة بالنسبة الى الشعب المصري وعمره خمسة آلاف سنة أو بالنسبة الى شعب شاب كالشعب التونسي (ثلاثة آلاف سنة فقط) هذا مثل لا شيء.
ما أشعر به وأنا داخل زمني ولا أستطيع ان أرتفع بقامتي لرؤية زمن الشعب والحضارة، اننا أخذنا منعرجاً واضحاً. الناس يتصورون ان الديموقراطية موجودة ككل أو ليست موجودة وهم يقولون إنها غير موجودة عندنا. ولكن انظر لآلياتها الأربع, وسترى الأمر بصفة مختلفة. فعلى صعيد حرية الرأي، كلنا نتكلم والاستبداد هو الأخرس. على صعيد حرية التنظيم من يستطيع اليوم العودة بنا الى نظام الحزب الواحد؟
المجتمع العربي تقدم شوطاً كبيراً في استقلاله. بقي القضاء المدجن والانتخابات المزوّرة. لكن آخر قلاع الاستبداد هذه آيلة للسقوط، طال الزمان أو قصر. إذاً، ما أقوله لنفسي أوقات الإحباط: ثمة شيء يتحرك ولكن ببطء وبزمن غير زمنك. قد لا أعيش لأرى أمتنا تتخبط في مشاكل الديموقراطية بدل مشاكل الاستبداد، لكنني أشعر بأنني ساهمت في الجهد الجماعي وهذا يعيد إليّ معنوياتي.
> بما ان المطروح حالياً بإلحاح في العالم العربي مسألة علاقتنا بالآخر، وهي موضوع اشتغلت عليه طويلاً، السؤال: أين نحن الآن من هذا الآخر الذي يمثله الغرب عموماً، وأين نحن من المواجهة الحضارية؟ هل صارت هذه المواجهة قدراً لا يمكن السير قدماً من دونه؟
- علاقتنا مع الغرب علاقة عصابية (Nevrotique) والبرء منها يتطلب التشبع ببعض البديهيات. ان هناك ثلاثة مستويات من الغرب: غرب الأنظمة وهو غرب قبيح، لنا الحق في مواجهته لأنه غرب الاستعمار في السابق وغرب دعم الديكتاتوريات في الحاضر. هناك غرب القيم والتكنولوجيا، وهذا علينا ان نتعلم منه كما تعلم منا. وهناك غرب المجتمعات المدنية وهذا غربٌ حليف لنا وصديق، من الغباء وضعه في السلة ذاتها مع غرب الأنظمة.
المفكر Jared Diamond يعبّر عن أفكار أخرى يجب زرعها ايضاً، منها ان الغرب كما يظهر ذلك الباحث الأميركي عاش على حافة الهمجية 9500 سنة ولم يتقدم إلا منذ 500 سنة، وبفضل علوم العرب والفرس والهنود وتكنولوجيا الصين، خصوصاً لأن فيه أراضي خصبة واسعة في الوقت الذي تصحرت فيه اراضينا... أي ان عوامل تخلفنا مرتبطة بالبيئة وبظروف تاريخية، وأن ليس لنا ان نعاني عقدة نقص او تفوق، فكلنا بشر تواتيهم الفرص، او تتحالف ضدهم الطبيعة. المهم في مستوى الحضارة ككل ان يتواصل التقدم البشري، فكل حضارة تحمل المشعل لفترة ولمصلحة الجميع. يجب إذاً الخروج من عُقد لا تجدي نفعاً، والتشبع بعقلية اليابانيين الزاخرة بالتواضع والتعلم والعودة تدريجاً الى ساحة الابتكار، لا لإحراز تفوق على الغرب بل لإحراز تفوق على أنفسنا.
> بعد هزيمة 1967، كانت هناك نهضة فكرية نهلت من الحداثة ولكن ايضاً من الوجوه المضيئة في التراث، علاماتها كتب ودراسات قالت غضب الفكر العربي من الهزيمة ورغبته في تجاوزها... فهل تعتقد بأن تلك الانتفاضة النهضوية أثرت؟
- المشكلة الأساسية التي طُرحت في ذلك الحين، كمنت في ان تشخيص سبب الهزيمة لم يكن واضحاً، والدليل ان القوة الاحتجاجية التي صعدت وتحتل اليوم الواجهة هي القوة الإسلامية وهذه تطرح ان هزيمتنا- والعسكرية الجزء الطافي من جبل الجليد- كانت نتيجة التخلي عن القيم وأن الرد هو العودة الى القيم. والحال ان المسألة الأولى هي مسألة آليات الحكم القديمة، أي آليات الاستبداد وهذه ليست في حاجة الى خطاب أخلاقي وإنما الى مشروع سياسي يقطع مع كل أصناف الاستبداد، بخاصة اذا كان باسم القيم. لكن تياراً فهم هذا المعطى وهو الذي يطرح مشاكل الديموقراطية وحقوق الإنسان كأولوية مطلقة للخروج من مسلسل الهزائم، فيما غاب المعطى عن كثر، وبينهم بعض كبار المثقفين.
> ألهذا يرى كثر اليوم ان المثقفين صامتون، خانوا أو دُجّنوا... او ابتعدوا مشمئزين، بينما لجأ بعضهم الى مهادنة أنظمة وتيارات قومية متأزمة أو أصوليات... بكلمات اخرى ما هي صورة الساحة الفكرية العربية الراهنة؟
- مشكلة المثقفين، ولا أتحدث هنا عن الأكاديميين ولا عن أبواق السلطة هي شعورهم بالذنب. كل من تجند لإيديولوجية ما، شاهد أين وصلت وأين أوصلت. ثمة إذاً خوف مفهوم من التورط بالغلطة ذاتها. باستثناء بعض المثقفين الإسلاميين الذين يكررون أخطاء كل من تجندوا للماركسية والقومية العربية والوطنية الخ.
إن دور المثقف ليس ان يكون مبرر الفعل السياسي، وإنما هو من يقوّمه من موقع الأهداف التي سنّها لنفسه. ربما تقول لي: أنت ايضاً تنهى عن المنكر وتأتيه بما أنك مجند للدعوة الديموقراطية وحقوق الإنسان. وردي انني تعاملت في كتاب «عن أي ديموقراطية تتحدثون» وفي كتاب «الإنسان الحرام» بكثير من الحزم والمراجعة والتنسيب، حتى مع الأفكار التي أدافع عنها. دور المثقف ان يحترز من أفكاره قبل ان يحترز من أفكار الآخرين... دوره ان يبقى العين التي لا تنام عندما تنام كل العيون لئلا تصبح أفكار التحرر أدوات تجدد الاستعباد.
> طالما نتحدث عن المثقف ودوره، لا بد ان تخطر في بالنا كلمة حداثة، فهل يمكن اتهام حداثة عربية ما بأنها مسؤولة جزئياً عما يحدث؟
- بصراحة، لم أفهم يوماً ما الحداثة وما بعد الحداثة، ربما لأنني لم أدرس بما فيه الكفاية «القدامة» و «ما قبل القدامة»، لذلك استسمحك عذراً بعدم الرد على السؤال حتى لا أفضح جهلي الفاضح بمفاهيم تبدو مهمة لأصحابها.
* في رأيك، من يصنع الذهنيات العربية حالياً، وأي ذهنيات تُصنع على هذا النحو؟
- نحن أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب على رغم ان كتابها المقدس اسمه القرآن الكريم وأول أمر صدر للرسول (صلى الله عليه وسلم) هو عبارة أقرأ. العرب يخصصون عشرين دقيقة سنوياً للقراءة ونحن ننتج من الكتب أقل ما تنتج اليونان. تقول عدنا للجلد الذاتي، ابداً إنه واقع ندين به للاستبداد الذي حاصر المبدعين وحاصر الفكر ومنع الحوار والجدل، وتتبع الكتاب وأغلق الحدود في وجه الكتاب العربي. لهذا، تتشكل الذهنيات من الفضائيات سلباً وإيجاباً. الإيجابي هو وصول المعلومات وتشبع العرب بمفهوم الحوار، ولو كان افتراضياً. الخوف هو ان ينمي عصر الإعلام هذا السلبية. لكن قناعتي ان عصر الصدمة بالصورة والاستهلاك السريع سيمر، وأن الكتابة والفكر عائدان.
> هل يمكن، بعد، الحديث عن وحدة ثقافة أو فكر عربية... أم ان ثمة كما يقول البعض، «تطوراً غير متكافئ» بين منطقة وأخرى، بل حتى بين فئات مختلفة داخل كل منطقة يجعل الوصول الى نقاط تلاق مستحيلاً؟
- إن الفضاء العربي موحد ثقافياً، بل لا وجود لوحدة عربية فعلية إلا عبر الثقافة على رغم الاختلافات التي تشير إليها والموجودة في كل فضاء ثقافي باتساع فضائنا وتعقيده. السؤال هو هل الثقافة قادرة وحدها على تحقيق وحدة الفضاء السياسي الذي يمكن ان يوحد الفضاء الاقتصادي أو يدمجه؟ هذا ما لا أعرفه، ولكن اذا اعتبرنا اننا أمة تسكن لغتها وتاريخها اكثر مما تسكن أرضاً وواقعاً فلن أستغرب ان تنجح الوحدة الثقافية في خلق وحدة سياسية.
> إذا كان تشخيصك للواقع الراهن، في صورة عامة، تفاؤلياً... هل تحدد لنا، دوافعه، وإذا كان متشائماً قل لنا لماذا؟
- أنظر الى قوى الدمار الهائلة التي حولنا، مثلاً بالاستماع الى نشرة الأخبار أو بقراءة التقارير المخيفة حول الكارثة المناخية التي تهددنا. إنها تمنع كل تفاؤل. انظر الآن الى قوى الإبداع والمقاومة التي حولنا ومنها ولادة الأطفال ولو في المخيمات. إنها تمنع كل تشاؤم. هذا ما يجعلني من أصحاب التشاؤل، بحسب التعبير الشهير للأديب الفلسطيني إميل حبيبي. إن قدرنا، افراداً وشعوباً وحضارات، ان نتحرك على الدوام بفعل هاتين القوتين. المهم ان نجند وأن نتجند لقوى الإبداع وأن نثق فيها ونتحمل ما تفعله بنا قوى الدمار، وهكذا الى النهاية. لست من المؤمنين بالنهايات السعيدة لكنني جعلت شعاري في الحياة: من الغباء محاولة إصلاح العالم ومن الإجرام عدم المحاولة.
> في خضم هذا كله، أي دور يمكن للفكر ان يلعبه؟ في الجامعات؟ في الإعلام؟ من خلال المناصب السياسية... او حتى من خلال الشارع؟
- الدور الأول والأهم والأخير، كل شيء فكر حتى احتقار الفكر، التكنولوجيا، السياسة، كل هذا فكر يصنع حياتنا لأننا لسنا كائنات بيولوجية فقط وإنما كائنات مصنوعة هي وعالمها من الكلمات والمفاهيم، ومن ثمة تأكيدي مسؤولية المثقف. فكل كلمة يكتبها يمكن ان تكون نبتة مباركة أو لغماً سينفجر عاجلاً أم آجلاً في وجه شخص، أو حتى أمة. تذكر الأفكار الخطرة التي قادت للغولاج (المنافي) السوفياتية او للمحتشدات النازية او غرف التعذيب في بلداننا.
في مجال بحثه الدائم عن مفهوم جديد للهوية يقول المنصف المرزوقي اخيراً «يفكر سجين الرؤيا لثقافة مغلقة ومتحجرة، أكان عربياً أو مسلماً أو آسيوياً، من منطلق القفص الذي وضع نفسه فيه. هو لا يتـصور رؤيا شرعية وأخلاقية غير التي نشأ عليها أو اعتنقها. هو يريد تصدير تصوره للعالم وتصوره للإنسان، لتعم الحقيقة التي خص بها. هو يفرح عندما تنتصر نظرته ولا يضيره في شيء اغتيال معتقد على غرابته أو لغة على ضيق انتشارها. انظر اليه والزبد حول شفتيه والشر يتطاير من عينيه، واستمع الى خطابه الحماسي حول ضرورة تخليص لغته من الشوائب التي دخلتها وتنقية موسيقاها من الدنس الذي لحقها من التأثير الأجنبي وفظاعة الأفكار المستوردة التي تشكل وباء ومرضاً يتهدد عقول الناشئة.
لكن التنوّع بالنسبة الى المشرّع العالمي ليس شيئاً غريباً يواجه في أسوأ الحالات بالاستهجان والرفض وبـ «التسامح» في أحسنها. هو على العكس، ظاهرة صحية لأن التباين هو الذي يعطي للتقاسم معناه وجدواه. يركز المشرع العالمي في فقرة أخرى على الفكرة نفسها. «عليها (الأمم) أن تتقاسم ما لديها من علم ومعرفة». يأمر المشرع الأمم اذاً ان تكف عن اعتبار ثقافتها ملكاً لها بل يطالبها بـ «أن تنظم المبادلات بروح السماحة والعطاء المتبادل».
يدعو المشرع العالمي اذاً الى استبدال الفقر بالغنى، لأن التنوع ظاهرة خصب وعلامة ثروة، وكل نتاجه راجع لمن يرضى بالغناء الفاحش بدل الفقر المدقع. ها قد أصبحت موسيقى بيتهوفن ولغة الإسكيمو المؤهلة للانقراض وأثار أنجاكور، ملككَ أنت العربي المسلم، لك فيها حق ونصيب بما هي جزء من تراثك كعضو من العائلة البشرية الكبرى. ها قد أصبح فكر ابن عربي وآثار قرطاج والفن المعماري بسيدي أبو سعيد مُلكاُ وحقاً من حقوق قبائل الهنود الحمر في غابات البرازيل ومواطني بافاريا وفنلندا.
صحيح ان الثقافات تتقاسم أحسن ما لديها منذ القدم، لكن الأمر أصبح بتشريع وتشجيع وتنظيم جعل كل الشعوب تسعى كي تصنف المنظمة العالمية للتربية والعلوم معالمها الطبيعية والمعمارية في قائمة كنوز البشرية لتفاخر بكونها حافظة لهذه المعالم ووصية عليها باسم البشرية جمعاء لا بكونها مالكتها الوحيدة. أول شعور ينتابنا أمام هذا المشروع الجبار نوع من الذهول.
أصبحنا نغرف من كل الثقافات كأصحاب الحق لا كلصوص أو متسولين. لكن أهمّ ما في العملية تبعاتها الهائلة على صعيد تشكيل هويتنا أو على وجه التحديد القفزة النوعية التي تحدثها داخلها. ان التفاعل الإيجابي الذي يصفه المشرع العالمي ليس موقفاً انتهازياً ينطلق من السطو على أحسن ما في كل ثقافة لترصيع جِيد ثقافتنا واثرائها حتى تكتسب تفوقاً على الثقافات الأخرى، بخاصة المتقوقعة على ذاتها من فرط عقدة النقص أو عقدة التفوّق. انه تحوّل جذري في العلاقة مع الثقافات الأخرى وقد أصبحت فجأة الكنز المشترك الذي يحق لنا جميعاً التمتع به.
نحن إذاً أمام موقف يقطع مع الموقف القديم الذي كان يصنّف الثقافات الى ثقافتي وثقافاتهم. أضيف الى حقي القديم في التمتع بالثقافة العربية الإسلامية بحكم مكان ولادتي وتاريخي وشعوري بالانتماء العربي المسلم، حق التمتع بكل الثقافات. أصبح من حقي القول: ليَ الحق في الغَرف من كل ثقافاتنا، لأنني صاحب ثقافة في مستوى وصاحب كل الثقافات وجزء منها جميعاً في المستوى الأعلى الحقيقي.
هذا ما جعلني أردّ يوماً على آدمي متخلف صرخ في وجهي: لا تنسَ أنك على أرض بلدي، فأجبته ببرود: وأنت لا تنسَ أنك على أرض كوكبي. المستوى الأعلى للانتماء اذاً ليس الثقافة وانما اعتبار الشخص لنفسه أنه ابن أم كل الأمم التي هي الإنسانية، وابن أب كل الأوطان الذي هو العالم».
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد