مقدمات ونتائج المشهد الكردي الخاطئة
هناك اوجه شبه عديدة بين ما يشهده الشارع الكردي العراقي حاليا من تظاهرات واحتجاجات جماهيرية وصدامات وعنف، وبين ما شهدته عدة بلدان عربية قبل بضعة اعوام في اطار ما سمي بـ”الربيع العربي”.وتتمحور اوجه الشبه حتى الان حول طبيعة الظروف والمقدمات والشعارات والمطالب، واساليب التعبير عنها، وردود فعل السلطات الحاكمة حيالها.تفجرت التظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية المليونية في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا على خلفيات واسباب اقتصادية-حياتية صرفة في ظاهر الامر، تتعلق بمطلب رئيسي يتمثل بتحسين الظروف الاقتصادية، وتقليل الفوارق الطبقية بين اقلية مترفة ومرفهة ومتخمة، وفئات وشرائح اجتماعية واسعة، معدمة ومحرومة ومهمشة.
وفي مرحلة لاحقة اتسع نطاق المطالب الاقتصادية الى مطالب سياسية، تتعلق بانهاء “الحكم الديكتاتوري”، وانتهاج مبدأ التداول السلمي للسلطة، وتكريس الديمقراطية والحكم الرشيد وحرية التعبير.
وقد دخلت القوى السياسية المعارضة للسلطات الحاكمة على خط التظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية لتعطيها زخما اكبر، واستمرارية اكثر.ولعله لم يكن مفاجئا او مستغربا ان تلجأ السلطات الحاكمة في البلدان التي عمتها التظاهرات والاحتجاجات الى الاساليب والوسائل القمعية كما هو المعتاد، ظنا منها انها ستتمكن من اخماد وتطويق “الفوضى” واعادة الامور الى وضعها المعتاد-ولانقول الصحيح-.بيد ان ما حصل فيما بعد كان معاكسا تماما لما هو متوقع، فبدلا من ان تنجح الاجهزة الامنية والمؤسسات الحكومية المعنية باخماد التظاهرات وانهائها، اتسعت وامتدت الى قصور الحكم والدوائر الحساسة، لتنتهي اما الى هروب الحكام او مقتلهم او استسلامهم، دون ان تنتهي الامور وتتوقف التداعيات عند هذا الحد، بل كانت هناك احداث ووقائع ومفاجآت من نوع اخر.وعند التأمل والتدقيق في صورة المشهد الكردي الحالية، سنجد ان “الاوضاع الاقتصادية السيئة” شكلت العنوان الاهم والابرز لمجمل التفاعلات الحاصلة طيلة ثلاثة او اربعة اعوام سابقة.
وقد تداخلت وتشابكت عوامل مختلفة وراء وصول الاوضاع الاقتصادية في اقليم كردستان الى مستويات سيئة للغاية، ربما تتحمل حكومة الاقليم ومفاصل القرار العليا المسؤولية الاكبر في ذلك، لانها معظم الاحيان بنت مواقفها وتوجهاتها واجراءاتها على فرض الامر الواقع، والمراهنة على قبوله وتقبله من قبل الاطراف الداخلية العراقية، والاطراف الاقليمية والدولية، وعلى التمنيات والطموحات الكبرى، التي تحتاج الى وقت طويل جدا لتحقيقها، وظروف اخرى تختلف بالكامل عن الظروف الحالية، ناهيك عن ان اصحاب القرار الكردي، ساهموا بشكل او بآخر بتفشي الفساد الاداري والمالي من قبل من بأيديهم السلطة والهيمنة والنفوذ، والدوائر العائلية والحزبية والمناطقية والاقتصادية المحيطة والمرتبطة بهم.
سلطات اقليم كردستان، قررت قبل اعوام قلائل التعامل والتفاوض بصورة مباشرة مع شركات اجنبية لاستخراج وتصدير النفط من الاقليم، وعدم تحويل عوائده الى الحكومة الاتحادية في بغداد، وفي ذات الوقت بقيت تطالب بحصتها من الموازنة المالية الاتحادية، واكثر من ذلك اعتبرت ان بغداد هي المسؤولة عن عدم صرف رواتب موظفي الاقليم، او التلكؤ بصرفها.وهي التي عطلت المؤسسة التشريعية الاولى في الاقليم (البرلمان المحلي) ومنعت بعض اعضائه، فضلا عن رئيسه من دخول مدينة اربيل، لانهم ينتمون الى كيان حزبي يتقاطع مع ما يمكن ان نسميه بـ”حزب السلطة”.وهي التي اصرت على اجراء الاستفتاء حول الانفصال قبل ستة شهور، رغم اجواء الرفض الداخلي والاقليمي والدولي، ولكنها تهربت وتنصلت من تبعاته الكارثية، التي تسببت بمزيد من المعاناة الحياتية لابناء الشعب الكردي.وهي التي اصرت على حصر القرار والهيمنة والنفوذ والتأثير في لون حزبي – وحتى عائلي- واحد، حتى وصلت الامور الى الحافات الخطيرة والمحطات القلقة.
الى وقت قريب، لم يتوقع اصحاب القرار الكردي، ان تتجاوز التظاهرات والمسيرات الاحتجاجية حدود مدينة السليمانية وعدد من الاقضية التابعة لها، وهذا ما جعلهم يكتفون بالانتظار والترقب والصمت السلبي، ومواصلة المناكفات مع الحكومة الاتحادية في بغداد، رغم اظهار بعض المرونة وتقديم جملة تنازلات، لغرض تخفيف وامتصاص بعض ضغوط الشارع الكردي.بيد ان ما حصل قبل اقل من اسبوع من تظاهرات ومسيرات احتجاجية واسعة في اربيل ودهوك، قرع جرس الانذار، وجعل اصحاب القرار يشرعون باعادة حساباتهم بصورة متأخرة جدا على ما يبدو، فحينما تكسر اربيل المحصنة سياسيا وحزبيا حاجز الخوف والصمت، فهذا يعني امورا كثيرة تمتاز بقدر كبير من الخطورة.
وينبغي هنا ان نذكّر، بأن القراءة الاستشرافية غير الدقيقة لمآلات ما بعد الاستفتاء، تكررت بخصوص حدود ومديات تظاهرات الشارع الكردي، واستبعاد – بل رفض- احتمال وصولها الى عاصمة الاقليم، لتزداد الامور تعقيدا، وتبرز كل الاحتمالات والخيارات السيئة على الطاولة.فالمطالب الاقتصادية اتسعت، لتصبح مطالبات سياسية تتمحور حول تغيير السلطات والرموز الحاكمة، واندفعت الاحزاب والقوى السياسية المعارضة لتنتقل من مرحلة التحشيد والنقد الاعلامي الى الفعل الميداني.
في مقابل ذلك، فان السلطات الحاكمة، وكما هو المعتاد، ومثلما حصل في بلدان “الربيع العربي” لجأت الى استخدام القوة ضد المتظاهرين، على امل ان تتمكن من ايقاف تداعيات الاحداث في الاقليم، دون ان تدرك ان الاساليب والوسائل القمعية لن تكون مجدية، وانما على العكس من ذلك ستوسع نطاق التظاهرات والاحتجاجات، لتبلغ النقاط الحرجة جدا.
وفي اول تصريح له حول التظاهرات، قال رئيس حكومة الاقليم، نيجرفان البارزاني “ان حكومة إقليم كردستان ستقف بوجه من يريد إثارة الفوضى وسنتخذ ما يلزم لمنع ذلك”، وهذا كلام يستبطن بين طياته مواجهة التصعيد بالتصعيد، وهو ما يشير بطريقة او بأخرى الى ان اوضاع الاقليم تسير وتتحرك الى منزلق خطير.
في ذات الوقت، وجهت بعثة الامم المتحدة في العراق (يونامي) انتقادات واضحة لسلطات اقليم كردستان، حينما قالت في بيان لها بشأن الاحداث الاخيرة “ان الحق في الاحتجاج السلمي هو من حقوق الإنسان الأساسية وهو حجر الزاوية للديمقراطية، ويعد أحد الطرق الهامة المتاحة للجمهور للتعبير عن رأيه، وان السلطات مسؤولة عن ضمان أن يكون هذا الحق محترما ومحميا، وأن تكون ممارسته متاحة للمواطنين في أمان وكرامة مع حماية القانون والنظام”.ولعله من غير المستبعد ان تمتد التظاهرات الاحتجاجية الى مؤسسات الدولة وشخوصها ورموزها، وفي حال حصل ذلك، فان الفوضى، ستكون هي المعلم الابرز في المشهد الكردي العام، والتي يمكن ان تنهي الواقع السياسي القائم، وتؤسس لواقع جديد قد لا يتبلور ويتضح خلال فترة زمنية قصيرة، وما يعزز ذلك الى حد كبير عوامل عدة، من بينها، انعدام الثقة بين الطبقة السياسية الحاكمة ومواطني الاقليم، واتساع نطاق المعارضة السياسية من قبل معظم الاحزاب والقوى الموجودة ضد “حزب السلطة”، وامكانية دخول اطراف خارجية على خط الاحداث بطريقة تكسر القوالب القائمة. وكل ذلك يشير الى ان العودة الى الوراء لم تعد ممكنة، وحتى الخطوات الاصلاحية لحكومة الاقليم لن تجدي نفعا بعد الان، لان سقف المطالب وطبيعتها وحدودها تغيرت وتبدلت واتسعت.
العهد
إضافة تعليق جديد