أغرب أنواع الصيام في الديانات والثقافات المختلفة
يعتبر الصيام واحدًا من أكثر العبادات التي اشتركت فيها الديانات بشتى عقائدها، لكن أشكاله اختلفت من دين لآخر باختلاف الأمم والشرائع وباختلاف الأمور المرتبطة به والأسباب الداعية له. غير أن جوهر ومفهوم الصوم الذي اتفقت عليه الديانات بمختلف طبائعها هو "التحكم بالغريزة والامتناع عن بعض العادات المحببة للنفس" وعلى مدار السنوات القليلة الماضية لم تتوقف قيمة الصوم عند معتنقي الديانات المختلفة فقط وإنما أصبح للصوم بمفهومه المذكور شعبية تتخطى الإيمان الديني. إن فكرة الصوم لها تاريخ طويل وغريب فعلا التراث الديني الإنساني.
صيام الصمت
أتت بعض الشرائع السابقة بأنواع غريبة من الصوم تختلف عن تلك التي نعرفها، منها الصوم عن الكلام بجميع ألوانه، وقد شاع هذا الصوم لدى كثير من الشعوب البدائية. فعند السكان الأصليين لأستراليا كان على المرأة إذا مات زوجها أن تصوم عن الكلام لمدة قد تصل إلى العام. ويظهر في إحدى مواضع القرآن أن هذا النوع من الصيام كان مقررًا أيضًا في الديانة اليهودية "فإما ترين من البشر أحدًا فقولي إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيا" سورة مريم.
وفي الوقت الذي كانت فيه شريعة مريم وقومها هي الشريعة اليهودية فإن قومها لم ينكروا عليها إشارتها للصبي في قوله: "فأشارت إليه* قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيًا" وإنما فهموا بمجرد إشارتها بأنها تخضع لهذا النوع من الصوم.
الصيام عن بعض أنواع الطعام دون غيرها
تمتثل الكثير من الديانات للصيام النباتي عن طريق الصيام عن المأكولات الحيوانية دون غيرها من المأكولات، منها الديانة "الجاينية" وهي إحدى الديانات التي تتبع في شعائرها قواعد الزهد والتحكم بالنفس وتحرير الروح من أجل الارتباط الإلهي بما في ذلك عدم تناول الطعام إلى درجة الشبع. كما تخضع الديانة الجاينية في صيامها لقواعد نباتية محددة ترجع إلى مبدأ راسخ في جوهر العقيدة الجاينية وهو اللاعنف تجاه جميع المخلوقات الحية فيمتنع معتنقي هذه الديانة عن جميع المأكولات الحيوانية بما في ذلك أكل البيض، ولكن من المسموح شرب الألبان ما لم يتم التعرض لأي حيوان بالعنف أثناء عملية إنتاج الحليب
أما الرهبان في هذه الديانة فمن غير المسموح لهم تناول الخضروات الجذرية -ذات الجذور الممتدة في التربة- ويرجع ذلك إلى أن عملية قطف ثمار تلك الخضروات قد تتسبب في وقع بعض الضرر على المخلوقات الدقيقة التي تعيش إلى جانب الجذور وإلحاق الأذى بها. كما يمتنع معتنقي تلك الديانة أثناء صيامهم الكامل عن شرب الماء إلا بعد غليانه وذلك للتأكد من عدم تواجد أي من الكائنات الدقيقة التي تعيش داخل المياه. كما أن الصيام عن كل غذاء مصدره الحيوان معروف أيضًا في ديانات أخرى في مواعيد محددة من كل عام كالديانة المسيحية والصابئة وغيرهما، كما أصبح الصوم عن المنتجات الحيوانية ظاهرة لدى الكثيرين ممن يرجعون في ذلك الصيام إلى أغراض صحية أو حمية وليس بدافع الإيمان الديني.
الصوم عن النظافة
يعد الصوم عن الاستحمام وتنظيف الجسد من الأمور التي يعرف بها الصوم عند اليهود. فالصوم عند اليهود ينقسم إلى نوعين، نوع يشبه الصوم في الإسلام يبدأ فيه اليهود الصيام عن الطعام والشراب والجنس منذ طلوع الفجر وحتى دخول الليل ولكن في خلال "يومي كيبور والذي يعني يوم الغفران وتيشا باف وهو اليوم الأكثر حزنًا في التقويم اليهودي والذي يصوم فيه اليهود باعتباره تلك الفترة من الزمن التي تم فيها تدمير الهيكل المقدس في القدس على حد زعمهم". يكون الصوم في هذين اليومين صوم عن الطعام والشراب والجنس إضافة إلى حرمانية الاستحمام، أو التعطر أو حتى غسل الأسنان، كما يحرم ارتداء الجلود في هذين اليومين، ولا تنطبق تلك القاعدة على بقية أيام الصيام.
الصوم عن العمل
كانت هناك عدد من الديانات التي شرعت الصيام عن العمل بما في ذلك كل الأعمال أو غالبيتها، فقد شرعت البوذية صيام أربعة أيام من كل شهر قمري، وتسمى تلك الأيام بالـ "يوبوزاتا" وهم (اليوم الأول، والتاسع، والخامس عشر، والثاني والعشرين) بالتوافق مع منازل القمر الأربع، ويقتضي الصوم في تلك الأيام الإمساك عن أي نوع من أنواع الأعمال والتفرغ إلى التأمل وتفريغ الطاقات السلبية بالابتعاد عن أي عمل من أعمال الدنيا بما في ذلك التفوه بالبذاءة والغناء والرقص ووضع مستحضرات التجميل، ولذلك فإن أتباع الديانة البوذية يقومون بإعداد الطعام منذ اليوم السابق لأيام الصوم الأربعة لما في الصوم من حرمة القيام بأي نوع من الأعمال. ويتشابه هذا النوع من الصيام مع ما قررته الشريعة اليهودية من تحريم مزاولة الكثير من الأعمال في يوم السبت. و يُقال إن اليهود كانوا يمتنعون في هذا اليوم عن الطعام والشراب أيضًا حتى قصر الأمر فيما بعد على الامتناع عن مزاولة الأعمال فقط.
الصوم حتى الموت
يعد الصيام حتى الموت هو الإجراء الذي يتخذه أتباع الديانة اليانية الذين بلغ بهم المرض إلى حد يستعصي معه العلاج. وهذا النوع من الصيام لا يعد انتحارًا في نظرهم، لأنه لا يحدث تحت تأثير الغضب والحزن أو غيرهما من المشاعر السيئة، وإنما هو قرار يؤخذ في وقت يكون الموت فيه حتميًا بسبب المرض. وبداعي الزهد يقرر الإنسان التخلي عن كل ما هو مادي بغرض تطهير الجسد من جميع الرغبات لإزالة الخطايا وتحرير الروح من مدار الولادة والاستعداد للبعث من جديد حسب اعتقادهم. ويقدر الخبراء بأنه وتحديدًا في الهند فإن هناك أكثر من 200 إنسان يموتون سنويًا بهذه الطريقة التي تسمى بالسانثارا التي يطالب البعض بتجريمها ومنعها، ويعتبرها أتباع الديانة الجاينية فضيلة كما يقول "سادفي شوبانكار" الكاهن لدى الديانة الجاينية: "إنه ليس عملًا إنتحاريًا، بل هو تفكير عقلاني وشجاعة"
يبدأ الأمر عندما يشعر أحد أتباع الجاينية بأنه قد دخل في المرحلة الأخيرة من حياته، فيطلب الإذن من أصدقائه وعائلته ليبدأ في ممارسة السانثارا، ويبدأ بعدها بشكل تدريجي في التخلي عن الطعام والشراب وجميع المرفقات الدنيوية من أجل تحقيق السلام مع الموت، أما هؤلاء الغير قادرين على إتمام هذا العمل فيتم اعبارهم قد فشلوا في النذر وعليهم التخلي عن صيامهم.وقد سجلت أكبر فترة تمكن فيها أحدهم من البقاء على قيد الحياة صائمًا بهذه الطريقة باسم راجستان راجستاني البالغ من العمر 60 عامًا في 2009، وتوافد الآلاف من أتباع الديانة لرؤيته في لحظاته الأخيرة والاحتفال به.
لطالما كان الصوم هو الفضيلة التي اتفقت عليها معظم الديانات باعتباره دعوة للتجدد الروحي والبدني حتى في المجتمعات المبكرة من التاريخ الإنساني. كان الصوم هو الفضيلة التي يقصدها البشر قبل الذهاب إلى الحروب فيتباركون بها، كما يصوم البشر في بعض الأحيان اتقاءا للكوارث والمجاعات كما فعل السكان الأصليين لأمريكا. ويعد الصيام لدى بعض الشعوب جزءًا من طقوس سن الرشد. فالصيام في كل دين له مكانة مرادفة للسمو وضبط النفس والإقبال على أعمال البر والتقوى، التي هي طريق إلى الصفاء النفسي والجسدي، وتبعا لذلك فهو أقرب الطرق للشعور بالقرب من الله.
إضافة تعليق جديد