من الإنسان السيد إلى الإنسان الراعي

14-04-2021

من الإنسان السيد إلى الإنسان الراعي

يدخل البروفسور مشير باسيل عون عالم هايدغر وهو على يقين من أنه يمضي في اللجّة. لذا سنرى كيف يطوي هذا البحث انهماماً مخصوصاً في فضاء نشاطه الفلسفي. إذ لا شيء عنده في عالم الأفكار ينجو من المساءلة، فهو حتى حين يعتني بهايدغر قارئاً ومتحرّياً لفكره، يروح يبسط كل ما لديه عنه على أرض الاستجواب.


البحث التالي استقراء لمنزلة الإنسان في أسفار هايدغر، وفيه اقتراب من المطارح الأبعد غوراً في شخصيته كفيلسوف وإنسان في الآن عينه.


1. المدخل المنهجيّ: الانعطاف من الإنسان إلى الكينونة


لا يستطيع المرء أن يدرك مقاصد الفكر الذي أنشأه الفيلسوف الألمانيّ مارتن هايدغر (1889-1976) ما لم ينظر نظرًا صبورًا في التحوّل الذي طرأ على مسيرته الفلسفيّة وإنتاجه الممتدّ على ستّة عقود من الزمن. فالبحث عن مقام الإنسان في العمارة الفكريّة التي شيّدها هايدغر يستوجب الإلمام بطبيعة المنعطف أو المنعرج الذي اجتاز به حين قرّر الانتقال من التأمّل في بنية الاختبار الوجوديّ الملازمة لانبساط الكائن الإنسانيّ الفرديّ إلى التأمّل في معنى الكينونة عينها. من ثمّ، يجمع أهل الاختصاص على القول بأنّ هايدغر الأوّل يختلف عن هايدغر الثاني. فالأوّل بلغ نضجه في كتاب الكينونة والزمان الذي نشره في العام 1927، بينما الثاني تجلّت خصوصيّتُه في الكتابات المتأخّرة التي تلت أمليتَه الجامعيّة الشهيرة في ماهيّة الحقيقة. وهي الأملية التي ألقاها في جامعة فرايبورغ الألمانيّة في فصل الشتاء 1931-1932. إيجازًا لطبيعة المنعطف، يمكن القول بأنّ هايدغر الأوّل كان يروم مساءلة الكينونة عن طريق استخراج بنية الاختبار الوجوديّ التي تنشئ هويّة الكائن الإنسانيّ، فيما هايدغر الثاني طفق يستفسر الكينونة عن سرِّها من دون الاستناد إلى اختبارات الإنسان الوجوديّة. فالسؤال عن معنى الكينونة هو السؤال الأوّل والأخير في مسيرة هايدغر. غير أنّ السبيل إليه يختلف من مرحلة إلى مرحلة.


في المرحلة الأولى ظنّ هايدغر أنّ تحليل الكائن الإنسانيّ الذي يحمل فيه همّ مساءلة الكينونة يمكنه أن يمهّد الطريق للبلوغ إلى استجلاء معنى الكينونة. فأخذ يتبيّن السمات الأساسيّة التي يتّسم بها هذا الكائن الإنسانيّ الذي طفق يطلق عليه اسم الدازاين. من هذه السمات الأساسيّة اقتران الإنسان بالعالم. فالإنسان كائنٌ-في-العالم، منسلكٌ في عالميّة العالم، يختبر كينونته بالاستناد إلى ما ينطوي عليه انسلاكُه في العالم. من السمات أيضًا انسلاكه في الزمان بما يختبره من اتّصال بالماضي وبالحاضر وبالمستقبل. وفي جميع هذه المكوِّنات الزمنيّة، يدرك الإنسانُ ذاتَه في حالة الهمّ أو الانهمام أو العناية. فهو كائنٌ مهمومٌ أو معنيٌّ بمآلات اختباراته الوجوديّة. وفي أقصى هذه الاختبارات انفطارُ كيانه على الموت. فالإنسان هو الكائن المعقودُ كيانُه على الموت. أمام استحقاق الموت يدرك الإنسانُ أصالة كيانه في أعظم قدر من الجلاء الخلاصيّ. أمام استحقاق الموت المقبل يستوعب الإنسانُ جوهر وجوده ومعطوبيّته في الوقت عينه. فإذا به كائنٌ مقذوفٌ إلى المنفرجات المشرَّعة أمامه. ومن ثمّ، لا يقوى الإنسان على الانتقال من الوجود المزيَّف الموارب إلى الوجود الحقيقيّ الأصيل إلّا حين يضطلع بمائتيّته. حين يختبر الإنسان هذه المائتيّة يستبق الفوزَ بكلّيّته الكيانيّة لأنّ الموت هو الإمكان الأقصى للإنسان. وهو الإمكان الأخصّ الذي لا يختبره إلّا الفردُ في فرادة كيانه، أي كلُّ فرد على حدة. استباق الموت في الزمان ينطوي على اختبار إمكان الوجود في لاإمكانه المطلق، أي في مائتيّته. وحين يختبر الإنسان إمكان موته الخاصّ، يستوي على وجود أصيل، أي ينتقل من حالة اللاأصالة إلى حالة الأصالة. بمقتضى هذا الانتقال، يصبح من الممكن اختبار معنى الكينونة الناشب في صميم وجوده التاريخيّ. فإذا بها كينونةٌ مقترنةٌ بالانهمام الأقصى واستباق الموت، وكلاهما لا يتحقّق إلّا في تضاعيف الزمان. وعليه، يضحي الزمان هو الأفق الذي يتجلّى فيه معنى الكينونة التي يختبرها الإنسان موضعًا من مواضع تجلّي الكينونة في ذاتها.

في المرحلة الثانية، أدرك هايدغر أنّ تجلّي الكينونة في ذاتها لا يقترن ضرورةً باختبار الإنسان لمائتيّته. فأخذ يحرّر الكينونة من كلّ مقولات الاختبار الوجوديّ، ويضعها في موضع المشيئة الحرّة التي تُملي على التاريخ أحكامَها وقراراتها. فالكينونة، ولئن ارتبطت بالإنسان، ليست خاضعة لاختباراته. هي حالةٌ من الانكشاف والانحجاب الحرّ يستدلّ عليها الإنسان حين يتأمّل في المعاني الأصليّة التي تختزنها مقولةُ الحقيقة (aletheia) في مؤدّاها الإغريقيّ الأصليّ (إماطة اللثام أو كشف الحجاب). فإذا كانت الحقيقة كشفًا للحجاب، فإنّ إمكان إسدال الحجاب يظلّ ملازمًا لها. وما من موضع أشدّ أمانةً لتلازم الكشف والإسدال في صميم الحقيقة، حقيقة الكينونة وحقيقة الكائنات، من اللغة التي تستجمع فيها كلَّ طاقات الإفصاح والإضمار، والإقبال والإدبار، والتعرية والتورية. لذلك اعتبر هايدغر اللغة مسكنًا للكينونة، فيه تقطن وبه تحتمي من ادّعاءات العقل الميتافيزيقيّ الحسّاب. وذهب أيضًا، في هذه المرحلة الثانية، إلى ترسيخ استقلال الكينونة في حركة انكشافها وانحجابها، فجعل لها تاريخًا خاصًّا بها يسمو على التاريخ الحدَثيّ المباشر. فإذا بالميتافيزيقا تنقلب تاريخًا لنسيان الكينونة، وإذا بالكينونة تروم أن تتجاوز الميتافيزيقا حتّى تغدو مشيئتُها الذاتيّة هي التي تحرّك التاريخ الحدَثيّ وتبلغ به إلى أقصى إمكاناته.


2. هايدغر الأوّل: الإنسان صاحب المبادرة واستحضار الكينونة

أراد إذًا هايدغر، في المرحلة الأولى، أن يستنطق الإنسان عن اختباره الوجوديّ للكينونة التي تستوطنه في هيئة الهمّ والعناية. فأنشأ كتابه الأوّل (الكينونة والزمان) مبحثًا في الأنطولوجيا، وهو علم الكائن، كما كان يعرّفه اليونان وكما نقلته العرب عنهم. المسألة الأساسيّة إذًا في هذا الكتاب هي مسألة الكينونة. وبما أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي ينفرد عن غيره من الكائنات بانعقاد كيانه على إمكان مساءلة الكينونة، فإنّ أجدر السبُل للخوص في مبحث الكينونة (الأنطولوجيا) هو التحرّي عن الاختبارات الوجوديّة البنيويّة التي بها يتحقّق مثلُ هذا الإمكان من المساءلة. في هذا السياق، يجزم هايدغر بأنّ مساءلة الكينونة هي التي تنشئ كيان الإنسان. والإنسان يكتسب من هذه المساءلة إدراكًا للكينونة ينبغي للفكر أن يستجلي طبيعته ويتحرّى عن مضامينه. ذلك أنّ هذا الإدراك هو الذي يساعد الكينونة على الانكشاف والإفصاح عن قوامها.


كان هايدغر يسعى إذًا في كتاب الكينونة والزمان إلى تحليل البنية الأنطولوجيّة التي يحملها الإنسان في ذاته بما هو كائنُ مساءلة الكينونة وكائنُ مساءلة الكائنات كلّها. فالمهمّة الأولى ينبغي أن تتحرّى عن الاختبارات الأصليّة التي يكتسبها الإنسان في علاقته بالعالم وبالأشياء وبالكائنات وبالكينونة. لا بدّ من هذا التحليل الوجوديّ البنيويّ كسبيل إلى النظر في الكينونة عينها (الأنطولوجيا). في بناء هذا التحليل يؤثر هايدغر استخدام عبارة الدازاين للدلالة على الاختبار البنيويّ الوجوديّ الذي يربط الإنسان بالكينونة. فالدازاين كائنٌ ينطوي كيانُه على فهم أصليّ للكينونة. وحين ينظر المرء في مضامين هذا الفهم، يتبيّن له، بحسب هايدغر، أنّ ثمّة بنيةً اختباريّة أصليّة تجعل هذا الفهم ممكنًا. هي بنيةٌ  مثلّثة الأضلاع تجد وحدتها في اختبار الهمّ الكيانيّ الأصليّ.


الضلع الأوّل في هذه البنية: هو حالة الانقذاف أو المقذوفيّة (Geworfenheit) التي يختبرها الإنسان بارتمائه في مصطرع الوجود. معنى هذه الحالة أنّ الإنسان لا يني يجد نفسه ملقًى في الوجود، لم يسبقه إلى هذا الارتماء أيُّ حالة قبليّة تأسيسيّة. فالإنسان هو توًّا في الوجود، من دون استئذان أو استشارة أو قرار. هو في حكم المعثوريّة الذاتيّة (Befindlichkeit)، يلفي نفسه معثورًا عليه باستمرار، في مواجهة جميع الكائنات قاطبةً. إنّه شعور الانوجاد الدائم غير المسبوق بوجود آخر أو بإرادة متواطئة. لا عجب، من ثمّ، أن تضحي المقذوفيّة والمعثوريّة كلتاهما في أساس كلّ اختبار وجوديّ وفي أساس كلّ اتّصال بالكائنات وبالأشياء. وهما أيضًا ينشئان التربة التي ينغرس فيها ما ينطوي عليه الماضي من بُعد زمنيّ.

الضلع الثاني في هذه البنية: هو الخروج من الذات إلى الوجود (Existenz). وجود الدازاين هو خروج من الذات إلى العالم، وانتصاب الذات على الدوام في ما هو مقبلٌ عليها، أي إقامتها في منفسح الإمكانات المشرَّعة أمامها (ek-sistere). ليس الوجود إذًا قوقعةً في الذات وانطواءً على المنجز منها وفيها. إنّه انبثاقٌ للذات الإنسانيّة وتفتّحٌ لإمكاناتها الخصبة التي لا يحدّها إلّا الموت. أمّا الكيفيّتان اللتان يتحقّق بهما هذا الخروج إلى العالم فهما الفهم والاستشراف. الفهم (Verstehen) هو السمة الأساسيّة لوجود الدازاين الذي يخرج إلى العالم في هيئة الكائن الفاهم، أي المكتسب لصوَرٍ من الإدراك تؤهّله للتواصل مع أشياء العالم وكائناته. غير أنّ بنية الفهم لا تضمن الإصابة في إدراك حقيقة الأشياء والكائنات لأنّ الفهم الصحيح هو الذي يُصغي إلى ما تُفصح عنه الأشياء من إشارات الدلالة على طبائعها الخاصّة وسماتها الذاتيّة. أمّا الفهم الخاطئ، فهو الذي يقهر الأشياء والكائنات ويُلبسها ما لا طاقة بها عليه. ولا يتحقّق الفهم الصحيح إلّا حين ينعقد في استشراف (Entwurf) منفتح على حقيقة الأشياء والكائنات. فالاستشراف يحمل إليها كلّها وعود الإمكان الناشبة في صميم كينونتها. والاستشراف الحقّ هو الذي يكفّ عن حصر الأشياء والكائنات في ضمّة مغلقة من الإمكانات. من ثمّ، كان الوجود، بما هو خروجٌ من الذات وانبراءٌ واستيطانٌ في المقبل من الإمكانات، هو المنبع الذي منه يصدر المستقبل في بُعده الزمنيّ. وما المستقبل سوى الإقبال إلى الإمكانات الوجوديّة اللامحدودة.


أمّا الضلع الثالث في هذه البنية: فهي المعيّةأو استواء كينونة الإنسان في مصاحبة الآخرين. فالمعيّة هي أيضًا مُنشئةٌ لكينونة الإنسان لأنّها تضعه في محضر الآخرين الحتميّ، يستدعونه ويستثيرون فيه رغبة الإتيان بهم إليه حتّى تنكشف له فيهم قدرتُه على الخروج من ذاته وتجاوزها. ذلك أنّ الإنسان لا يحيا في انطواء الأنا المنغلقة، بل في انفتاح الذات الراغبة في التواصل. والمعيّة الصحيحة هي التي تضع كلَّ ذات في مواجهة حقيقتها الباطنة حتّى تستخرج منها إمكانات بلوغها إلى أقصى تحقّقاتها المقبلة.


لا ريب في أنّ الجامع المشترك بين هذه الأضلاع الثلاثة هو الهمّ أو العناية (Sorge). الهمّ هذا (أو الانهمام) هو في صميم فعل الفهم الذي يهتدي إليه الإنسان في تناوله للكينونة. فالإنسان مقبلٌ إلى فهم الكائنات والكينونة على قدر ما يُعنَى بها، وبإقبالها إلى الحضور، وبانسلاكها في منفرج التفتّح (Offenheit)، وباستدعاءاتها المتواترة له. وجوده في العالم، هو الكائن-في-العالم، ينبسط على هيئة الفهم لأنّ العالم هو الذي يجعل الإنسان كائنًا في شبكة من الارتباطات والمشاريع والاستشرافات. العالم هو موضع تشابك جميع المعاني التي يختبرها الإنسان من جرّاء ارتباطه بالكائنات والأشياء والآخرين.


في العناية أو الهمّ يبلغ الإنسان إلى صميم كيانه، ولكن من غير أن يتماهى كيانُه هو وكيانات الكائنات والآخرين. فهو لا يبلغ هذا الصميم لا بانكفائه إلى ذاتيّته المنطوية، ولا بامتزاجه بكيان الآخرين. الصميم من الكيان الإنسانيّ هو الانفتاح على ذاته وعلى الكائنات وعلى الآخرين. بيد أنّ الانفتاح لا يستقيم إلّا في مجرى الزمان. لذلك اقترن اختبار الإنسان لذاته وللكائنات وللآخرين وللكينونة بالبُعد الزمنيّ الملازم للوجود. فالدازاين، بما هو خروج الذات إلى العالم، يستلزم الانسلاك في مسرى الزمان المثلَّث المواقيت في مستقبله وماضيه وحاضره حيث الصدارة لما يأتي به المستقبلُ على الإنسان من إمكاناتٍ يستشرفها هو في تجاوزه لذاته. بذلك يظهر الزمان كالمحضن الأصليّ الذي يمكّن الإنسان من الانبساط في الوجود. وهو انبساطٌ يتحقّق في حالتي العناية والفهم تحقّقًا يجعل كيان الإنسان كيانًا زمنيًّا على وجه الإطلاق. فالإنسان، بحسب هايدغر، يتزمّن، أي ينخرط في مسرى الزمان على قدر ما ينهمّ بالكائنات ويُعنى بها، وعلى قدر ما يخرج من ذاته وينفتح على طاقات ذاته واستدعاءات الكائنات له.


من المسائل التي يعالجها هايدغر أيضًا في كتاب الكينونة والزمان انتقال الكائن الإنسانيّ من حالة اللاأصالة إلى حالة الأصالة. فالإنسان، بحسب هايدغر، تتنازعه حالتان متعارضتان. الحالة الأولى هي الانغماس في مَغموريّات الناس (das Man) ومَهموميّاتهم، والانصراف عن تطلّب الحدّ الأقصى من الخصوصيّة اللصيقة بكيانه، فيما الحالة الثانية هي حالة الاعتماد على الذات، والركون إليها في خاصّيّة اختباراتها الأساسيّة، والاعتزام (Entschlossenheit) على مجابهة استحقاقات الكيان الذاتيّ، وفي أقصى إمكاناتها الخاصّة ينتصب الموتُ مستحثًّا الإنسان على الاضطلاع بمسؤوليّة وجوده واستثمار طاقاته المرتسمة أمامه في آفاق مستقبله. في الحالة الأولى يستطيب الإنسانُ الاستئناس بما يألفه الناسُ من أفكار وأقوال وأفعال يضرب على منوالها ويحتذي حذوها، وفي يقينه أنّه يُعفي نفسه من مسؤوليّة المجابهة الذاتيّة لتحدّيات الوجود. هو إذًا في وضع التنكّر لخاصّيّته الذاتيّة والتهرّب من استحقاق المائتيّة الملازمة لكيانه. أمّا في الحالة الثانية، فإنّه يُعرض عمّا يفعله سائر الناس المغمورين (das Man)، ويقرّر أن ينحت وجوده الخاصّ نحتًا ذاتيًّا، أي أن يحيا بمقتضى ما تُمليه عليه إمكاناتُه الخاصّة. وليس ثمّة من سبيل للبلوغ إلى مثل هذا القرار الوجوديّ إلّا بقبول صريح ورضيّ لمائتيّته التي تعيّن له أقصى ما ينعقد عليه كيانُه من إمكانات وترسم فيها حدودها الفاصلة. هو الكائن المقبل إلى الموت (Sein zum Tode) لا يني يخطو خطوات الأصالة بانتقاله من المغموريّة الشائعة العموميّة إلى الاعتزام الذاتيّ الجريء. وحده القلق الوجوديّ العميق (Angst) الذي يتجاوز الخوف يمكّن الإنسان من هذا الانتقال لأنّه قلق الإنسان من جرّاء انتصابه أمام رهبة العدم. ذلك أنّ العدم يُشعر الإنسانَ بأنّ الكائنات برمّتها عرضةٌ للتلاشي والزوال في أيّ لحظة من لحظات الوجود وعند أيّ منعطف من منعطفاته. غير أنّ هذه العدميّة اللصيقة بالكائنات تمتلك جانبًا شديد الخطورة والإفادة، عنيتُ به قدرتَها على جعل كلّ إنسان يفوز بالإدراك الأصوب للكائنات وللكينونة بما هي كينونة.

لا بدّ، في هذا السياق، من ذكر الزمان كموضع اختبار أساسيّ للإنسان في تطلّبه لذاتيّته وخاصّيّته وأصالته. فتحليل البنية الوجوديّة للإنسان في كتاب الكينونة والزمان يُظهر أنّ الإنسان يحيا في قلق الإقبال إلى ذاته وإلى الآخرين وإلى الكائنات والأشياء والأغراض. وليس لهذا الإقبال من موضع سوى الزمان ينبسط فيه. فالإقبال هو حركةٌ تستوجب الزمان كمحضن لها. ولذلك اقترن معنى كينونة الإنسان وكينونة الكائنات وكينونة الأشياء باختبار الانبساط الثلاثيّ الأبعاد للزمان في فتوحات الإنسان الوجوديّة الأصليّة: «كانت مهمّة الاعتبارات التي سقناها إلى الآن هي أن نؤوّل الجملة الأصليّة (das ursprüngliche Ganze) للدازاين الواقعانيّ، تأويلًا أنطولوجيًّا-وجودانيًّا انطلاقًا من أساسه، وذلك بالنظر إلى إمكانات الوجود (Existierens) الأصيل وغير الأصيل. وقد تجلّت الزمانيّة بوصفها هذا الأساس ومن ثمّ بوصفها معنى الكينونة الذي للعناية. ولهذا فإنّ ما كانت هيّأته التحليليّة الوجودانيّة التمهيديّة للدازاين قبل فسح المجال أمام الزمانيّة، هو منذ الآن مستعادٌ في صلب البنية الأصليّة لجملة الكينونة (Seinsganzheit) التي للدازاين. ومن إمكانات تزمّن الزمان الأصليّ، التي تمّ تحليلها، حصلت البنى التي كانت قبلُ «قد بُنيت» فحسب على التأسيس الذي من شأنها. ولكنّ الكشف عن هيئة كينونة الدازاين إنّما يبقى مع ذلك مجرّد طريق. فإنّ الغرض (Ziel) هو بلورة مسألة الكينونة بعامّة. وإنّ التحليليّة التي تتّخذ من الوجود موضوعًا لها، إنّما تحتاج أوّلًا، من جهتها، إلى النور الصادر من فكرة الكينونة (Idee des Seins) بعامّة التي تكون قد وُضِّحت قبلُ» من الواضح أنّ كلّ الجهد الذي بذله هايدغر في كتاب الكينونة والزمان إنّما كان يرمي إلى استجلاء معنى الكينونة في سياق الاختبار الوجوديّ البنيويّ للزمان. ومع أنّ هايدغر أعرض عن هذا الطريق، فإنّ استخراج الزمان، وقد اختبره الإنسان في بنية الهمّ أو العناية، كمحضن أو كبُعد أو كأفق لفهم الكينونة يظلّ هو الأساس في التوسّعات التي أتت من بعد الانعطاف. فالإنسان، بما هو دازاين، لا يني ينبري إلى الكائنات في مجرى الزمان. والانبراء، بحسب هذا المدلول، خروج الذات إلى العالم. الدازاين هو كائن الخروج إلى ذاته وإلى الآخرين وإلى الكائنات بحيث ينقلب الوجود كلّه انبراءً أو خروجًا، أو قل وَجْدًا للذات في ما هي مستنهضةٌ إليه من متنوَّع الاختبارات والتحسّسات والالتقاطات. ومن ثمّ، كان الإنسان كائنًا تاريخيًّا يجعل التاريخ ممكنًا من جرّاء فتوحات الكينونة التي ينطوي عليها كيانُه. وما الزمان سوى منفسح الحرّيّة الذي تنعم به الكائنات حين تختبر انبساط كيانها في التاريخ، أي حين تختبر تفتّحها وتحقّقها كمشاريع مقبلة إليها.

3. هايدغر الثاني: الكينونة صاحبة المبادرة في الانكشاف والانحجاب واستدعاء الإنسان

حقيقة الأمر، في هذا كلّه، أنّ هايدغر لم يتقصّد الاعتناء بتحليل البنية الاختباريّة للإنسان إلّا من أجل استجلاء معنى الكينونة. ولذلك لا يجوز على الإطلاق إسلاك هايدغر في سلك الوجوديّات الغربيّة المعاصرة، ولئن استلهمه غير فيلسوف من فلاسفة الوجوديّة المعاصرة. فالسؤال الأساسيّ الذي يحتلّ مقام الصدارة في جميع أعمال هايدغر وفي كلتا المرحلتين إنّما هو السؤال عن الكينونة بما هي كينونة. في المرحلة الأولى، ظنّ هايدغر أنّه يستطيع أن يستخرج هذا المعنى من النظر في مدلولات الاختبار الوجوديّ البنيويّ الذي يبسطه الكائن الذي يحمل في ذاته همَّ السؤال عن الكينونة، عنيتُ به الإنسان، بما هو كائن الانبراء أو الخروج أو الانفتاح، أي كائن استشراف إمكانات الوجود القصوى من معين المستقبلات الآتية عليه. غير أنّ ما خرج به هايدغر من كتاب الكينونة والزمان غير المكتمل لم يُقنعه الإقناع الكافي بالفوز المكين، إذ ظلّ في حيرة من أمره، يشعر، في موضع من المواضع، بأنّ الكينونة تتجاوز، بما لا يوصف، الفهم الوجوديّ الذي يكتسبه الإنسانُ من جرّاء إقباله الاستشرافيّ على إمكاناته القصوى في انسيابات الزمان المثلّثة الأضلاع. ومع أنّه ابتهج باستجلاء البُعد الزمانيّ الملازم لاختبارات الإنسان لكيانه ولكيان الآخرين وكيان الكائنات الأخرى، غير أنّه ما تجرّأ قطّ أن يحصر معنى الكينونة في سياق هذا الاستجلاء.

لذلك ما فتئ هايدغر يتوجّس هلعًا من مخاطر الإطباق الذاتيّ على معنى الكينونة. فالإنسان، على نحو ما أملته عليه الميتافيزيقا العقلانيّة الغربيّة الحسّابة، لم يتورّع عن الإمساك بالكينونة وإخضاعها وضبطها وتطويعها في قوالب الإدراك الذهنيّ التمثّليّ الذاتيّ. وبما أنّ هايدغر كان يميل ميلًا صريحًا إلى المذهب الفِنومِنولوجيّ، فإنّه كان شديد الحذر من جميع ضروب العقلانيّات الغربيّة. فانتماؤه إلى الفِنومِنولوجيا الهوسّرليّة، ولئن أجرى عليها بعض التعديل، كان يمُلي عليه أن يصون كرامة الأشياء والكائنات والظواهر في ما تنطوي هي عليه من قوام ذاتيّ، وغنى أصيل، وقابليّات مستقلّة للتفتّح العفويّ. في ظنّه أنّ الميتافيزيقا الغربيّة أهملت الكينونة من بعد أن حوّلتها إلى كائن أسمى. فافترضت أنّ الكينونة هي الكائن الأشدّ قوامًا، والأكثف جوهرًا، والأرفع كرامةً، والأقدر على حمل الكائنات قاطبةً. وطفقت تطلق اسم الكينونة على المتّحد الأكثر استقطابًا للواقع والأرحب تضمّنًا له. فإذا بها تتغافل عن سمات الزمانيّة التي تتّسم بها الكينونة، ومنها التناثر والعوز والغياب والانحجاب والبؤس. الكينونة هي في نظر هايدغر رمز البؤس الأقصى لأنّها الأقلّ استثارةً للاعتناء وللرعاية، فيما الكائن الأسمى أو الكائن الأكمل أو الكائن الأقدر هو الذي يقوم في مقام الصدارة التاريخيّة.

أخذ هايدغر رويدًا رويدًا يبتعد عن التحليل الوجوديّ البنيويّ ويتناول مباشرةً السؤال الأنطولوجيّ الأبرز عن معنى الكينونة في ذاتها. وقد أعانه على هذا التحوّل التأمّلُ في مفهوم الحقيقة عند الإغريق الأوائل. فخلافًا لما استقرّ في العقول منذ أفلاطون وأرسطو في شأن تصوّر الحقيقة، يعتقد هايدغر أنّ مفكّري الزمن الإغريقيّ الأوّل الذين أتوا قبل سقراط التمعت في أبصارهم رؤى مبتكرة جريئة للكينونة وللإنسان. من هذه الرؤى أنّ الحقيقة هي تناوبُ الكشف والحجب، والظهور والاختفاء، والإقبال والإدبار. هي، بمقتضى أصلها اللغويّ اليونانيّ (aletheia)، تعاقب الإماطة والإسدال في اللثام. أمّا المفهوم الذي شيّعه أفلاطون وأرسطو، ومن بعدهما العقلانيّات الغربيّة، فإنّه يُبطل حركة التعاقب هذه، ويُقصي طور الانحجاب والاختفاء، ويُكره الأمور على الانكشاف الكلّيّ والتعرّي المؤذي، بحسب مقولة التطابق المفترض بين ما في الأذهان وما في الأعيان. ولا غرابة، من ثمّ، أن يُفضي هذا الإبطال إلى إقدام العقل التمثّليّ التطابقيّ على مطاردة الكائنات ومعانفتها ومقاهرتها حتّى تستكين وتستذلّ. والفرق شاسعٌ بين هناء الكائنات في ظلّ الحقيقة التي تصون لها حرّيّتها في الانحجاب، وشقاء الكائنات في خضمّ الحقيقة التي تتعقّبها حتّى في عقر حميميّتها.


حين أدرك هايدغر سموّ النظر الإغريقيّ الأوّل في معنى الحقيقة، ارتدّ عن ملاحقة الكينونة بحسب مقولة التطابق، وطفق يتلمّس السبيل إليها في خفر عظيم ورهبة خاشعة. ويقينُه الوحيد أنّ حقيقة الكينونة التي يبحث عنها لن تتأتّى له إلّا بمقدار ما يصون هو لها حرّيّة الانكشاف والانحجاب: «إنّ الحجب يضمن للاعتلان ماهيّتَه. على قدر ما يضطلع الحجبُ إذًا بهذه الضمانة، يجب عليه أن يكون، في ماهيّته، على نحوٍ يؤهّله للحجب. فالانحجاب يضمن على قدر ما يحجب. كلاهما هما الأمر عينه، وهما لذلك قابلان للقول في الكلمة عينها». معنى هذا التفسير الذي أنشأه هايدغر في مأثورات هِراقليطس أنّ انحجاب الكينونة يضمن لها أن تنبسط في حقيقتها حين تصون الكائناتُ لها حرمتَها. كلا الانحجاب والاعتلان يطبعان كينونة الكائنات بطابع الاختلاف الجوهريّ. فالكينونة حين تنكشف، تهب الكائنات شيئًا من حقيقتها. ولكنّها حين تنحجب، تمنح الكائنات أيضًا شيئًا من حقيقتها. في كلتا الحالتَين تأتي الكائناتُ إلى حقيقتها، إمّا من موقع انكشاف الكينونة الجزئيّ فيها، وإمّا من موقع انحجاب الكينونة الجزئيّ فيها. فانكشاف الكينونة إظهارٌ لبُعد من أبعاد التحقّق المنجز في الكائنات، وانحجاب الكينونة إظهارٌ لبُعد من أبعاد الإمكان الرحب اللصيق بهذه الكائنات عينها.

من جرّاء هذا كلّه، انتهى هايدغر إلى النظر في الاختلاف الأنطولوجيّ الناشط بين الكينونة والكائنات. وفي ظنّه أنّ رسالة الفكر الإنسانيّ المعاصرة ينبغي لها أن تتدبّر معاني هذا الاختلاف. فكر الاختلاف هو الذي يعتمده هايدغر لينوب مناب ميتافيزيقا التمثّل والتطابق. معنى هذا الاختلاف أنّ الكينونة لا تنفصل عن الكائنات، وأنّ الكائنات لا تنفصل عن الكينونة. ومع ذلك، فإنّ الكينونة لا تستغرقها الكائناتُ، لا في تنوّعها الرحيب، ولا في انتشارها الكثيف، ولا في فراداتها المتمايزة. ثمّة اختلافٌ جوهريٌّ يجعل الكينونة هي الكينونة، ويجعل الكائنات هي الكائنات. فالكائنات تقوم في الكينونة، والكينونة تتجلّى في الكائنات. إلّا أنّ قيام الكائنات في الكينونة لا يجعل الكائنات، على رحابتها، موضع التجلّي الأكمل للكينونة. وتجلّي الكينونة في الكائنات لا يجعل الكينونة خاضعةً لسلطان الكائنات في وقوعيّتها أو واقعانيّتها التاريخيّة.

للكينونة إذًا منفسحٌ من الحرّيّة يتيحه لها انعقادُ حقيقتها، في منطوقها الإغريقيّ الأصليّ (aletheia)، على تعاقب الانكشاف والانحجاب فيها. فالطبيعة تستطيب الانحجاب، على حدّ ما كان يردّده أهل الإغريق الأوائل. ومن ثمّ، لا بدّ للإنسان، عند هذا المنعطف الخطير، من أن يحزم أمره ويستجلي مقامه من بين جميع الكائنات التي تستوطن الكون الرحيب. فهو، من بين جميع هذه الكائنات، الكائن الوسيط الذي يعاين ويتدبّر كيفيّات انسلاك الكائنات الأخرى في الكينونة. هو منسلكٌ في الكينونة على غرار انسلاك جميع الكائنات الأخرى فيها. بيد أنّ لانسلاكه كيفيّةً ينفرد بها، عنيت بها كيفيّة الوساطة والرعاية. لذلك وصفه هايدغر، في المرحلة الثانية، براعي الكينونة. والراعي، في المفهوم البدويّ، يصاحب القطيع في ترحاله، ويسهر على تحرّكه، ويصونه من المسالك المؤذية والانحدارات القاتلة.

لا غرابة أن ينصرف هايدغر، من بعد ذلك، إلى التبصّر في كيفيّات العلاقة الناشطة بين الكينونة والإنسان. فالكينونة تهب نفسَها في الإنسان كعطيّة منبثقة من قوامها الأصليّ الوهّاب. ذلك أنّ الكينونة هي، بحسب هايدغر، فعلُ وهب وعطاء وجود. الكينونة جودٌ أصليٌّ يُفصح عنه هايدغر في العبارة الألمانيّة الشهيرة (es gibt): «ليس الحدث نتاجًا لشيء آخر، بل العطاء عينه الذي تمنح عطيّتُه المغنية وحدها شيئًا كفعل الوهب. حتّى الكينونة عينها هي في عوز إلى فعل الوهب هذا لكي تبلغ إلى خاصّتها بما هي إقبالٌ إلى الحضور». هذا الفعل الوهبيّ الذي لا فاعل له إنّما يدلّ على الوهب الأصليّ المنبجس من فيضٍ ذاتيّ لا هويّة له ولا علّة سوى هويّة الفيض الذاتيّ وعلّة الفيض الذاتيّ. أمام هذا الفيض الذاتيّ للكينونة يقف الإنسان موقف العرفان والشكران، يغمره شعورٌ بمديونيّة كيانيّة تستحثّه على ملازمة الكينونة ورعايتها وصونها. المديونيّة المعطوفة على الامتنان تُفضي بالإنسان إلى الوثوق بتجلّيات الكينونة في تضاعيف الزمان والركون الهنيّ إليها. فإذا بالكينونة، وقد جادت بذاتها في الكائنات، وخصوصًا في الإنسان، تستدعي هذا الإنسان إلى مشاركتها بهجة الإفصاح عن ذاتها. وإذا بالإنسان، وقد انفرد عن الكائنات بكونه هو موضع تجلّي الكينونة (الدازاين)، يُسلم أمره إليها، وينساب في مجراها العذب الجميل، وينضمّ إلى حيويّتها الدفّاقة المتوهّجة.

هذا كلّه في الأصل البهيّ. أمّا في مصطرع التاريخ، فإنّ معطوبيّة الوجود غالبًا ما تضطرّ الإنسان إلى نسيان الكينونة. ينضاف إلى هذا أنّ الكينونة، بما هي حرّيّةٌ مطلقةٌ في الانكشاف والانحجاب، قد يحلو لها أن تمتحن الإنسان بإعراضها عنه وانكفائها إلى حميميّة ذاتها. فإذا بالتاريخ الإنسانيّ ينقلب مسرحًا لتواطؤ المعطوبيّة الإنسانيّة والحرّيّة القدَريّة التي تمتلكها الكينونة. بذلك يتّضح فهم هايدغر للتاريخ الذي يعاين فيه سطوةً قدَريّة للميتافيزيقا المتغافلة عن سرّ الكينونة. الميتافيزيقا، في نظر هايدغر، هي زمن نسيان الكينونة. منذ النشأة الأولى عند سقراط وأفلاطون وأرسطو، حاولت الميتافيزيقا أن تُخضع الكينونة لمقولات المبدإ والعلّة والقيمة والمفهوم. فإذا بها تعتمد التمثّل الذهنيّ الذي يضع الكائنات والكينونة في قوالب التصوّر المفهوميّ الضابط. ويبدو أنّ هايدغر هو الذي أتى، بحسب اعتقاده، لإعتاق الكينونة من زمن النسيان الميتافيزيقيّ المتعاقب منذ خمسة وعشرين قرنًا. لكنّه ليس وحيدًا في هذا الميدان. فهو يستعين تارةً بأهل التفكّر الإغريقيّ الأوائل، وتارةً بالنابغين من الشعراء الذين تحسّسوا عمق الهوّة التي باتت تبعد الإنسان عن السكنى الهنيّة في أرض الكينونة.

من جرّاء هذا التواطؤ بين المعطوبيّة الوجوديّة والحرّيّة القدَريّة التي تمتلكها الكينونة يصيب الإنسانَ والكينونةَ كليهما معًا ضربٌ من المحدوديّة القاهرة. فالإنسان محدودٌ لأنّه كائنٌ مائتٌ يقترن وجودُه بجود الكينونة الأصليّ. والكينونة محدودةٌ لأنّ حركة انكشافها وانحجابها مقترنةٌ بالفهم الأنطولوجيّ الأعمق الذي يكتسبه الإنسانُ من جرّاء انفتاحه على تجلّيات الكينونة في الكائنات. في منتهى المطاف، تغدو المحدوديّة هي السمة الغالبة للوجود برمّته. وليس للإنسان أو حتّى للكينونة من مهرب يعتقهما من محدوديّتهما. والأغرب أنّ التاريخ يتحوّل موضعًا لتحقّق هذه المحدوديّة المزدوجة حيث يصعب على الإنسان، في رعايته للكينونة، أن يضمن استقامة علاقته بالكينونة، واستقامة فهمه لها، واستقامة حضورها فيه وحضوره فيها. فالتاريخ كلّه يُضحي تموّجًا وتقلّبًا في الكينونة بين الكشف والحجب، وفي الإنسان بين الفهم والنسيان. أمّا تصوّرات التاريخ الهيغليّة المتوقّلة إلى قمم الاكتمال والتحقّق والمماهاة، فهي تناقض مناقضة صريحةً ما يذهب إليه هايدغر في تصوّره لمثل هذا التواطؤ الذي لا يني ينشط بين محدوديّة الكينونة ومحدوديّة الإنسان، أي بين محدوديّة الحرّيّة القدَريّة في الكينونة ومحدوديّة المعطوبيّة الوجوديّة في الإنسان. ينجم عن ذلك كلّه أنّ المذاهب الإنسانيّة التي تدّعي وضع الإنسان في موضع السيّد المتسلّط على الكون تخطئ خطأً فادحًا لأنّها تهمل واقع المحدوديّة المزدوجة. من الأفضل إذًا أن يُعرض الإنسان عن هذه المذاهب، وأن يكفّ عن بناء التصوّرات الإنسانيّة المخالفة لهذه المحدوديّة. فالإنسيّة الحقّة هي التي تصون المحدوديّة، وتضمن مقام الصدارة للكينونة الجوّادة، وتُفرد للإنسان مقام الراعي الساهر والرقيب الوديع.

4. من الإنسيّة الأنطولوجيّة الإغريقيّة الأولى إلى الإنسيّة الميتافيزيقيّة الحديثة

لا ريب في أنّ التصوّر الإنسانيّ الأنسب لمقام المحدوديّة المزدوجة هو الذي يستلهم الاختبار التفكّريّ الإغريقيّ الأصليّ. فالإنسان، في نظر مفكّري الإغريق السابقين لسقراط وأفلاطون وأرسطو، هو صاحب الدهشة الخفرة أمام رحابة الكينونة، يُذهله كيف تنطوي الكائناتُ في حضن الكينونة من غير أن تذوب وتتلاشى. في هذ الزمن الأوّل، كان الإنسان يحترم احترامًا عظيمًا سرّ انكشاف الكينونة في الكائنات وسرّ انحجابها أيضًا. فكان، في انذهاله، جزءًا من الكون، يصاحب الأشياء والعناصر والكائنات في تفتّحها ونموّها وتطوّرها وذبولها وتقهقرها وانعدامها. لم يكن يجرؤ على الانفصال والتمايز والاستعلاء، بل كان جلّ همّه أن يترصّد مجرى الأمور، ويتعقّب حركة الأشياء، حتّى إذا ارتسم وجهٌ جديدٌ عليها سارع إلى التأمّل فيه والاتّعاظ به. كان الإغريق الأوائل يعتقدون أنّ الكائنات لا تبلغ إلى حقيقتها الناشبة في الكينونة من جرّاء إعمال النظر الإنسانيّ فيها، بل بالأحرى هي الكائنات التي تنظر إلى الإنسان. ذلك أنّ «الإنسان هو الذي ينظر إليه الكائن»، وهو «الذي يصغي إلى الكائن». فلا يأتيه الخلاص إلّا على قدر ما يُصغي إلى الكائن إصغاء الفهم والانسجام لأنّ دعوته أن يسكن في جوار الكائنات سكنى الإصغاء إلى نداءاتها.

 حين يتحدّث هِراقليطس وبارمنيدس عن الكائنات وعن الكينونة، فإنّهما لا يستخدمان إلّا اللغة التي تلائم مسرى الانكشاف والانحجاب. واللغة عندهما هي اللوغس (Logos) بما ينطوي عليه من قدرة ذاتيّة على اقتبال الأشياء في ما يرتسم عليها عفويًّا من أمارات ودلائل. ليست اللغة، في نظر الإغريق الأوائل، إلّا تلك الحاضنة الرقيقة التي تهيّئ للكائنات منفسحًا حرًّا للإفصاح عن ذاتها. الفكر كلّه كان في هذا الزمن الأوّل منسجمًا أشدّ الانسجام مع الكينونة. لذلك قال بارمنيدس بأنّ الكينونة والفكر أمرٌ واحدٌ في منتهى المطاف. هذه القولة الجريئة أذهلت هايدغر لأنّه عاين فيها دنوًّا من سرّ الكينونة يتجاوز كلّ وساطات العقل والفهم واللغة. فالإنسان ليس هو، في المقام الأوّل، عقلًا يتحرّى عن مضامين الأشياء وحقائقها، بل ساهرٌ متأمّل يستقبل في ذاته إيماءات الوجود المنبثقة من الكينونة. أمّا فكر هؤلاء الإغريق الأوائل، فلم يكن في حال من الأحوال فلسفةً عقلانيّةً تجتهد في إنشاء معرفة علميّة بها تدرك جوهر الكينونة وجوهر الكائنات وبها تضبط كيفيّات الاقتران بين الكينونة والكائنات. فالتصوّر السائد في ذلك الزمن كان شديد الاحترام للوحدة الجامعة التي تنتظم فيها كلُّ الأشياء. وما الإنسان سوى الشاهد الأمين على وحدة التناغم هذه وعلى حضور الكينونة المألوف في ثنايا الوجود كلّها.

فهذا بارمبنيدس يستقبل، في نشيده، إيماءات الكينونة من غير أن يُخضعها لإملاءات العقل. الكينونة تنبسط في نشيده من غير وساطة ذهنيّة أو تعقّل إدراكيّ أو وساطة مفهوميّة. انبساط الكينونة في نشيد بارمنيدس استهلالٌ لزمن من التفكّر الإنسانيّ يؤثر حركة الكائنات على اجتهادات العقل، فيضعها في مقام الصدارة. التفكّر الإغريقيّ الأوّل في الكينونة (الأنطولوجيا الأولى) يتقدّم على كلّ ميتافيزيقا ابتكرها الإغريق اللاحقون حين فصلوا الكينونة عن الكائنات ووضعوها في مرتبة العلّة الأولى، وحين سلخوا الإنسان عن الانسجام الكونيّ الأصليّ، فنصّبوه وعيًا يعاين ويستحضر، وإدراكًا يتناول ويتدبّر، وعقلًا يحاسب ويرتّب ويصنّف ويحكم. أمّا الأصل، فهو أن تنبسط بين الكينونة والفكر وحدةٌ من الانسجام والتكامل تصون مقام الكينونة والكائنات والإنسان معًا. حين يعلن بارمنيدس أنّ الفكر والكينونة أمرٌ واحدٌ، فهذا يعني أوّلًا أنّ الإنسان لا يكون إنسانًا إلّا على قدر ما يتماهى هو والكينونة. إنسانيّته مستلّةٌ من وحدته الإصليّة مع الكينونة. فهو، قبل أن ينقلب كائنًا حيًّا، وحيوانًا عاقلًا، ورقيبًا محاسبًا، وحاكمًا مفتيًا، ومواطنًا مجتهدًا، كائن الانسجام والتطابق مع الكينونة. فالكينونة هي مقياس التفكّر في الإنسان لأنّ الفكر والكينونة أمرٌ واحدٌ. وقولة بارمنيدس تعني ثانيًا أنّ الكينونة ليست غريبةً عن كيان الإنسان، إذ هي عين الفكر الذي يجعل الإنسان في قربى الانضمام إليها. وما يحدّ الكينونة يحدّ الفكر على السواء. ومن ثمّ، ليس من ضرورة على الإطلاق لإنشاء عمارة معرفيّة تضع الإنسان في مواجهة الكينونة، على نحو ما أتت به الميتافيزيقا الناشئة.

نشأت الفلسفة إذًا، بحسب هايدغر، حين أعرض أفلاطون وأرسطو عن اعتماد هذه الوحدة التناغميّة الأصليّة، وأقاما العقل الإنسانيّ رقيبًا وحسيبًا يستحضر الكينونة في الكائنات بحسب ما تمليه عليه ضرورات الإدراك المنطقيّ في الوضوح والتمايز والتماسك. وصاحبَ نشوءَ الفلسفة تكوّنُ الميتافيزيقا كاجتهاد عقليّ صرف يُهمل الاختلاف الأنطولوجيّ الأصليّ بين الكينونة والكائنات. أوّل الفلاسفة الإغريق الميتافيزيقيّين كان أفلاطون الذي حوّل حضور الكينونة الحرّ في الكائنات إلى جوهر صمديّ صلب هو أشبه بنواة مضمونيّة ثابتة متعالية تهيمن على الكائنات وتُخضعها لمشيئتها. عوضًا من أن تغمر الكينونةُ الكائنات ببهاء خفرها وحشمتها، غدت، في الأفلاطونيّة، هي المثال الأعلى إليه تتطلّع الكائنات، وفيه تعاين قمّة كمالها، ومنه تستمدّ قوام معقوليّتها. الكينونة هي الفكرة المثال التي تختزن كلّ الكمالات وكلّ المعقوليّات وكلّ التصوّرات. لذلك ينشأ بين الكينونة والكائنات شيءٌ من الفصل أو القسمة يثبتها أفلاطون إظهارًا لسموّ الكينونة وتشهيرًا بجوازيّة الكائنات وهبائيّتها، إذ يعتبر أنّ «بين الكينونة والكائن ثمّة فسحة فاصلة (خوريزموس). والكلمة خورا (اليونانيّة) تعني الموضع. في مقصد أفلاطون أن يقول بأنّ الكينونة والكائن قائمان في موضعين مختلفين». حينئذ يعمد أفلاطون إلى الفصل بين الكينونة والكائنات، فلا تعود الكينونة منغلّةً في الكائنات في هيئة الحضور الخفر، بل تضحي في موضع علويّ يتجاوز الكائنات ويسمو عليها. إنّه موضع الفكرة المثال التي ليست هي من صنع التمثّلات الذهنيّة الذاتيّة، بل صورةُ المعقوليّة الأسمى التي تهب الأشياء قابليّتها للإدراك. وبما أنّ الأفلاطونيّة تعارض بين المعقولات والمحسوسات، أي بين الكينونة والكائنات، وبين الفكرة والأشياء، فإنّ الكينونة تظلّ، بما هي كينونة، منقوصة القوام لأنّ الأفلاطونيّة ربطتها، بوصفها صورةً مثاليّة للأشياء، بالأشياء عينها التي تجسّد هي عين جوهرها. فتنحدر الكينونة إلى مصفّ الكائن الأسمى، كائن المثال الأعلى الذي يرسم في الكائنات صورتها المثاليّة. فتكفّ عن أن تكون هي الكينونة في ذاتها، حاضرةً في الكائنات، ومستقلّةً عنها في الوقت عينه. الأفلاطونيّة جعلت الكينونة الحرّة، التي عاين الإغريق الأوائل أنوار حضورها، بمثابة الكائن الأسمى، فأفقدتها بهاء سرّيّتها، وأقحمتها في معادلة المثال المنشئ للأشياء المحسوسة. والحال أنّ هايدغر كان يرى في تلمّسات الإغريق فهمًا حصيفًا لمقام الكينونة في ذاتها بمعزل عن وظيفتها المثاليّة المعرفيّة التي أسندتها إليها الأفلاطونيّة.

في هذه المرحلة الأولى من نشوء الميتافيزيقا ينبغي أيضًا النظر في مآلات الكينونة عند أرسطو الذي تناول الكينونة في مقولة الفعل أو العمل (الإرغون اليونانيّ). فالكينونة تضحي عنده حضورًا قابلًا للإمساك. الكينونة الأرسطيّة ماهيّةُ الأشياء في قوام حضورها المنجز بانتقاله من القوّة إلى الفعل. ومع أنّ أرسطو حاول إعادة الكينونة من عالم المثُل إلى عالم الواقع، إلّا أنّ محاولته تظلّ، بحسب هايدغر، مطبوعةً بمعارضته للمثاليّة الأفلاطونيّة. فأرسطو يحلّل الأشياء ويربطها بعللها. وينتقل من علّة إلى علّة حتّى يفضي إلى العلّة الأولى، أي الكائن الأوّل الذي يكتمل فيه الفعلُ على وجه الإطلاق. غير أنّ هذا الكائن الأوّل يسلخ الكينونة عن الكائنات ويحبس عليها في دائرة الكمال الأعلى. فإذا بالميتافيزيقا الأفلاطونيّة تنقلب مبحثًا في الأنطولوجيا اللاهوتيّة حيث يعتلي الكائنُ الأوّل سدّةَ الرئاسة على جميع الكائنات. في موازاة هذا كلّه، يعتمد أرسطو تعريفًا جديدًا للحقيقة التي تلَمَّس حيويّتها مفكّرو الإغريق الأوائل. فإذا بها تنقلب تطابقًا جامعًا مانعًا بين الوصف والموصوف. كلّ قول لا يقبض قبضًا على موضوعه لا يليق به أن يدّعي الحقّ. فالحقيقة مانعةٌ للانسياب الحرّ في منفسحات الكينونة الحرّة. الحقيقة الأرسطيّة اجتهادٌ يمسك بالأشياء إمساكًا قاهرًا، فيما الحقيقة الإغريقيّة الأصليّة تفسيحٌ للكينونة وتحريرٌ لها من ضرورات الانسلاك الإكراهيّ في قوالب الوقائع المنجزة.

لا عجب، من ثمّ، أن تنتقل هذه الميتافيزيقا الأفلاطونيّة، وقد تعزّزت بالسببيّة والتطابقيّة الأرسطيّة، إلى اجتهادات الفلسفة الغربيّة الحديثة التي نصّبت الإنسان سيّدًا على الكينونة، وأقامت الحقيقة التطابقيّة كيقين مطلق ينبغي الاعتصام به في منتهى المطاف. هذا التحوّلان الخطيران (سيادة الإنسان ويقين الحقيقة) أفقدا الإنسان الحديث صلته العفويّة بالكينونة. فغدا أشبه بالسلطان المتربّع على عرش الكائنات يتصوّرها بحسب مقولاته الذهنيّة الذاتيّة، وينحت لها قوامًا يناسب مقتضيات الوضوح والتمايز والبداهة التي جعلها ديكارت معيارًا للمعرفة الصحيحة. وعليه، فإنّ العقلانيّة الحديثة هي، بحسب هايدغر، وريثةُ الميتافيزيقا الأفلاطونيّة والأرسطيّة التي انتقلت إليها عن طريق الآمِريّة الرومانيّة التشريعيّة التي حوّلت حقيقة الأشياء إلى الاستقامة القانونيّة المطلقة. في الفلسفة الحديثة تحوّلت الكينونة إلى مقام التصوّرات الفكريّة، وتحوّل الإنسان إلى ذات منتجة للأفكار. فأضحت الكينونة هي الطبيعة التي تختزن جميع الكائنات. وأمست الذات الإنسانيّة هي الوليّ الوحيد على الطبيعة، سيادةً وامتلاكًا.

تعاظمت السيادة الإنسانيّة في الفلسفة الحديثة حين أعلن كانط أنّ شروط إمكان الاختبار المعرفيّ هي أيضًا شروط إمكان أغراض هذا الاختبار. معنى ذلك أنّ الأشياء يرتسم قوامُها بحسب بنية الذات العارفة، لا بحسب بنيتها الذاتيّة هي. أمّا الموضوعيّة، فتفوز بها الذاتُ العارفة على قدر ما تُخضع الأشياءَ لمقولات الفاهمة البنيويّة. وبما أنّ الذات هي التي تحكم على الأشياء، فإنّ وعي الذات بذاتها هو أعلى درجات المعرفة الموضوعيّة. وما المعرفة المطلقة التي أصّلها هيغل سوى التعبير عن سقوط الاختلاف الأنطولوجيّ الأصليّ في مصهر الذوبان المثاليّ الذي أنشب المعقوليّةَ في صميم الكائنات. فانتهت كلُّ واقعة إلى معقوليّتها، وانحبست فيها، وأصبحت كلُّ معقوليّة قائمةً في حيّز الواقعة. هو المصهر الهيغليّ الذي قلّص الكينونة وقيّدها في معقوليّة الكائنات، وقلّص الحضور وقيّده في مستحضرات الأشياء المنجزة الجاهزة القابلة للاستخدام. فانصهر التماثل واللاتماثل في قوام الهويّة التطابقيّة المطلقة.


أمّا آخر التحوّلات الميتافيزيقيّة المنبثقة من الأفلاطونيّة، فيتجلّى في انتفاضة نيتشه على كلّ التصوّرات الفكريّة المثاليّة الموروثة. فيلسوف العدميّة المنتفض يقلب الموازين رأسًا على عقب. فيؤثر الكائنات على الكينونة، والصيرورة على الثبات، والإبداعات المتفلّتة على الإنجازات المقيّدة، والحياة المتفوّرة على المثُل المنتظمة. غير أنّه لا يلبث أن يسقط في متاهات الاقتدار الذاتيّ الذي يحذّر منه هايدغر في الأزمنة الحديثة. فإرادة الاقتدار هي التي تنحت في الكائنات صورة إقبالها إلى الوجود بحيث تنقلب الكينونةُ ثمرة العزم الاقتداريّ الذي تختزنه الإرادة الذاتيّة. فالكينونة، بحسب نيتشه، هي القيمة التي يبتكرها الإنسان المقتدر كلّما أراد أن ينهج لنفسه سبيلًا جديدًا من التفوّق. وما القيم التي ينحتها الإنسان المقتدر سوى الضمانات التي تهيّئ لإرادة الاقتدار أن تنتعش وتنمو وتتعزّز. من أجل ذلك يعتقد نيتشه أنّ إرادة الاقتدار ليست مجرّد ملكة من ملكات النفس الباطنة، بل هي بنيةٌ لصيقةٌ بالوجود منها تغترف الكائناتُ طاقتها وقدرتها على التحقّق الذاتيّ والاعتزام المتمكّن. بناءً عليه، يجب اعتبار نيتشه منخرطًا في سلك الميتافيزيقا الموروثة التي تقيّد الكينونة في نطاق القيمة الهادية: «يتدبّر نيتشه كائنيّة الكائن (die Seiendheit des Seienden) في ماهيّتها بما هي شرطٌ، أي بما هي قدرة تمكين وتأهيل، أي بما هي أغاثون (صلاحٌ وخيرٌ). إنّه يتدبّر الكينونة، كلّيًّا، تدبّرًا أفلاطونيًّا وميتافيزيقيًّا، حتى لو فعل ذلك بكونه معاكسًا للأفلاطونيّة وبكونه مناقضًا للميتافيزيقا». حين تنقلب الكينونةُ قيمةً يُكسبها الإنسانُ المقتدر للوجود، فإنّ حقيقتها الأصليّة تذوي وتتلاشى لأنّ القيمة هي من صنع الاقتدار المتسلّط، لا من فعل التأمّل الورع.

من جرّاء هذا الاقتدار، تسقط الكينونة على يد نيتشه في غياهب النسيان مرّة أخرى. فتتفاقم مخاطر العدميّة التي تضرب بالوجود على غير هوادة. لا بدّ هنا من تمييز العدميّة التي يقول بها هايدغر من العدميّة التي ينادي بها نيتشه. فعدميّة نيتشه ناشئةٌ من سقوط جميع القيم والمثُل والمبادئ، ومن الإرهاق الذي أصاب الإنسان في الأزمنة الحديثة. فالعالم بحسب نيتشه فقد وحدته وحقيقته وغايته، وانقلب الوجود متعبةً للإنسان الذي غرق في سوداويّة صمّاء. لذلك ينبغي ابتكار الإنسان المقتدر الخليق بابتكار عالم جديد، ووحدة جديدة، وحقيقة جديدة، وغاية جديدة. وفي هذا الابتكار المقتدر يعاين هايدغر رغبةً جامحةً في الهيمنة على حقيقة الكينونة. أمّا العدميّة التي يتحدّث عنها هايدغر، فهي النسيان الشامل المطلق للكينونة، والانكفاء إلى الذات المقتدرة تتلاعب بالكائنات وتسلخها عن كينونتها الحقّة. وما الاقتداريّة القيميّة التي اعتمدها نيتشه سبيلًا إلى تجاوز عدميّة الوجود سوى ضرب أخير من ضروب العدميّة التي تُسقط حقيقة الكينونة في بؤس النسيان.

في الإنسيّة الميتافيزيقيّة الحديثة تنقلب الكينونة قيمةً يبتكرها الإنسان لها حتّى يستطيع أن يسيطر عليها. وما تاريخ الفلسفة، بحسب هايدغر، سوى مسرى التثبّت من تحوّل الكينونة إلى قيمة قابلة للاستئثار والتلاعب. لذلك كان تاريخ الفلسفة هو عينه تاريخ الميتافيزيقا المهملة لحقيقة الكينونة، منذ الإعراض عن التأمّل الإغريقيّ الأوّل في رهبة اللوغوس أمام تعاقب الانكشاف والانحجاب في الكينونة، ونشأة الأنظومة الأفلاطونيّة المثاليّة، وما أعقبها من ردود مؤيّدة ومناقضة. لا غرابة، من بعد ذلك، أن يعلن هايدغر أنّ تاريخ الفلسفة الذي هو تاريخ الميتافيزيقا عينه، هو أيضًا تاريخ الأفلاطونيّة نفسها، سواء في حركة الانتماء إليها أو في حركة الخروج عليها. في خضمّ هذا التاريخ الضخم عانت الكينونة من النسيان والعوز. إلّا أنّ العقل الفلسفيّ الغربيّ ما تهيّأ له، بحسب هايدغر، أن يتحسّس مبلغ هذا العوز الناشب في صميم الكينونة. فأعرض عن العدميّة التي صاحبت تاريخ الميتافيزيقا الغربيّة لأنّه سُحر بقدرة الذات على الوعي وتمثّل الحقائق اليقينيّة. ومن شدّة الإصرار على صدارة الوعي الذاتيّ، أضحى التملّك على اليقين هو في حدّ ذاته عين الحقيقة، وذلك بمعزل عن اقتران الوعي بحركة الكائنات الخارجيّة. فغاب عن الميتافيزيقا أنّ الإنسان، قبل أن يكون وعيًا محضًا، هو من أصله كائنٌ منسلكٌ في العالم. فالعالميّة هي سمةٌ تكوينيّة في الوعي الذاتيّ أغفلت عنها الميتافيزيقا الغربيّة إغفالًا آثمًا انقلب به العالم إلى مجرّد صورة من الصور الرياضيّة التي ينحتها الوعي في يقين التملّك الذاتيّ على الحقيقة. وبذلك أضحى العالم، في صورته الرياضيّة العلميّة هذه، مجمعًا للكائنات المعدّة للمحاسبة النظريّة والاستهلاك العمليّ. ففقدت الكائناتُ حرّيّة ارتباطها بالكينونة، منبسطِ خلاصها الأوحد من سطوة العقل الحسّاب، وانتهت إلى أغراض تتلاعب بها التقنية المعاصرة لتستخرج منها ما به منفعةٌ للإنتاج المتطوّر. وتحوّل الكون كلّه إلى مستودع من الطاقات القابلة للاستخراج والاحتساب والاستهلاك. فكانت التقنية المعاصرة هي، على وجه المفارقة، ثمرة الأفلاطونيّة المثاليّة لأنّها حوّلت الكائنات إلى مجرّد أغراض منفعيّة تتسلّط عليها مثُل القيمة التي تفرضها الذات الإنسانيّة المقتدرة.

في هذا المنعطف الخطير أحسّ هايدغر أنّ الإنسان أصبح هو الخطر الأعظم على الوجود لأنّه عاد لا يدرك أنّ الكينونة ملقاةٌ في غياهب النسيان. فإذا بالبؤس يتعاظم من جرّاء انعدام الشعور بالبؤس (die Not der Notlosigkeit). فالإنسان المعاصر عاد لا يعلم أنّه أعرض عن الكينونة. فهو أمسك عن التفكّر فيها بما هي كينونة، وأخذ يتناولها بما هي مجموعة كائنات قابلة للخضوع والائتمار بأوامره. في هذا الزمن البائس، يدعو هايدغر الإنسانيّة إلى مراجعة ذاتيّة صريحة مؤلمة تؤهّلها للخروج من محنة الضلال الأنطولوجيّ، وتنقذ الكينونة والكائنات من مخاطر الانحلال والانقراض. فإذا به يعلن أنّ مشروعه الفكريّ كلّه عاد لا يُعنى بالإنسان في المقام الأوّل، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يبادر إلى الحلّ طالما أصرّ على طغيانه التقنيّ الجارف. الخلاص يأتي من تحوّل مباغت يطرأ على الكينونة حين تغمرها قدرةٌ إلهيّةٌ هنيّةٌ تنبثق من انتظام المتربّع الأصليّ (Geviert) الحاوي للمائتين وللآلهة وللأرض وللسماء. حسبُ الإنسان المعاصر أن يستلهم موقف الخشوع الورع الذي اتّسمت به الإنسيّةُ الإغريقيّة الأولى حين ارتضت للإنسان أن يكون الشاهد المتواضع على تجلّيات الكينونة المذهلة في ثنايا الكائنات وفي مطاوي الأشياء. لا بدّ إذًا من توبة إنسانيّة رفيعة تُفضي إلى موقف الترقّب الصابر والاستعداد الخفر والتأهّب المطواع.

5. التأصيل الأنطولوجيّ الجديد لماهيّة الإنسان المقبل

من بعد أن وضعت الحرب العالميّة الثانية أوزارها، ترسّخ في ذهن هايدغر الاقتناع بأنّ أغلب الردود التي أتته على كتاب الكينونة والزمان كانت تخطئ في فهم مقاصده الأنطولوجيّة الأصليّة المعقودة برمّتها على مبحث الكينونة. معظم القارئين والمطّلعين كانوا آنذاك يعاينون في تحليل البنية الوجوديّة اجتهادًا في تشييد مذهب إنسانيّ أو إنسيّة فلسفيّة تتجاوز الانسدادات التي أفضت إليها أزمة الفكر الفلسفيّ المعاصر. غير أنّ هايدغر ما كان يأبه لمثل هذه القراءات الخاطئة حتّى استحثّته أسئلةُ الأصدقاء والطلّاب على استيضاح موقفه من المذاهب الإنسانيّة السائدة، وفي مقدّمتها الوجوديّة والجوّانيّة والشخصانيّة. فإذا به يغتنم الرسالة التي وجّهها إليه صديقُه الفرنسيّ جان بوفريه لينشئ شرحًا مستفيضًا يحسم به توجّهه الفكريّ الأنطولوجيّ. قبل ذلك الحين، كان هايدغر قد أنشأ في صيف 1935 مدخلًا إلى الميتافيزيقا أبان فيه خطأ التفكّر في الكينونة انطلاقًا من تحليل الاختبار الوجوديّ البنيويّ في الإنسان: «في داخل الكائن في مجمله، لا نستطيع أن نجد أيّ سبب يبرّر لنا أن نبرز، على وجه التحديد، هذه المنطقة من الكائن التي ندعوها الإنسان، والتي ننتمي إليها نحن أنفسنا على سبيل الصدفة».

يعتقد هايدغر اعتقادًا راسخًا أنّ فكره منصبٌّ بكلّيّته على استجلاء مسألة الكينونة. أمّا مسألة الإنسان، فلا تعنيه وتستدعيه إلّا على قدر اقترانها بمسألة الكينونة. تنطوي الرسالة هذه على أجوبة صريحة يُفصح فيه هايدغر عن نظرته الناقدة إلى جميع ضروب الإنسيّات (المذاهب الإنسانيّة) المعاصرة التي اكتفت بترصّد العناصر المكوّنة للاختبار الإنسانيّ، وأغفلت عن حقيقة ارتباط الكائن الإنسانيّ بالكينونة الأرحب التي تشمله وتشمل جميع الكائنات. الفكرُ كلّه ينبغي أن يأتمر بالكينونة ليصبح في المقام الأوّل فكر الكينونة، لا فكر الإنسان: «الفكر، بخلاف ذلك، يرضى باستدعاء الكينونة له حتّى يستطيع أن يقول حقيقة الكينونة (...). التفكير هو التزامٌ تضطلع به الكينونة من أجل الكينونة». منذ البداية يعلن هايدغر أنّ الكينونة هي التي تبادر إلى استثارة الفكر. واستثارة الفكر لا ترمي إلّا إلى استجلاء معاني الكينونة بحسب ما ترتأيه الكينونةُ عينُها. فالفكر هو الواسطة بين الكينونة والإنسان، تنحصر وظيفتُه في تدبّر العلاقة التي تُنشئها الكينونةُ بالإنسان. فلا يجوز له، والحال هذه، أن يخرج من دائرة استدعاء الكينونة له. لا قدرة للفكر على إخضاع الكينونة لمنطقه ومقولاته وأحكامه. فالفكر، في نظر هايدغر، إمّا أن يكون فكر الكينونة، منبثقًا منها ومفروزًا لخدمتها، وإمّا أن لا يكون على الإطلاق.

في مستهلّ الرسالة، يتصدّى هايدغر للسؤال الأوّل الذي صاغه جان بوفريه على الوجه التالي: كيف لنا أن نعيد لكلمة «إنسيّة» المعنى الأنسب لها؟ فيحاول أن يُظهر مواضع التعثّر في ضروب الإنسيّة التي اختبرها الفكر الإنسانيّ منذ عصر الرومان حيث اقترنت إنسانيّة الإنسان بالقابليّة التهذيبيّة (paidheia) التي ينطوي عليها كيانُه. فاقتران إنسانيّة الإنسان بقابليّته للصقل والاكتساب والمعرفة يُفضي إلى إعلاء القدرات العقليّة التي يستخدمها الإنسانُ من أجل الفوز بمثل هذا الرقيّ الكيانيّ المعنويّ: «إنّ الإنسيّة الأولى، أعني بها إنسيّة روما، وأشكال الإنسيّة التي تعاقبت منذ ذلك الحين حتى الزمن الحاضر، تفترض كلّها «الماهيّة» الأشدّ شموليّة وكأنّه أمرٌ مسلَّمٌ به. ذلك أنّ الإنسان يُعدّ حيوانًا عاقلًا. ليس هذا التحديد ترجمةً لاتينيّة للعبارة اليونانيّة (zoon logon ekhon) وحسب، بل هو تأويلٌ ميتافيزيقيٌّ. هذا التحديد الجوهريّ للإنسان ليس خاطئًا. ولكنّه مشروطٌ بالميتافيزيقا». تظهر المشكلة إذًا في انتماء هذا التحديد الأنتروبولوجيّ إلى أنظومة التصوّرات الميتافيزيقيّة التي تهمل حقيقة الكينونة، وتحصر اعتناءها بالكائن الأعلى، وتهيمن على الكائنات هيمنةً عقلانيّة مطلقة، مبطلةً الاختلاف الجوهريّ الناشب بين الكينونة والكائنات.

والحال أنّ ماهيّة الإنسان هي في موضع آخر غير موضع الملَكة العقليّة. الإنسان هو كائن الانبراء، أو الخروج من الذات والانبساط في حضرة الكينونة. فالوجود الحقيقيّ هو، بحسب هايدغر، إقامة الذات في رحابة استدعاءات الكينونة. والعبارة الصحيحة التي تُفصح عن مثل هذه الإقامة إنّما هي (Ek-sistenz)، أي بحسب الأصل اللاتينيّ الإقامة (sistere) في خارج (ex) الذات: «لا تُقال الإقامة في خارج الذات إلّا في ماهيّة الإنسان، أي في الطريقة التي بها الإنسان «يكون». ذلك أنّ الإنسان، على قدر اختبارنا، هو وحده المنسلك في قدَر الإقامة في خارج الذات (...). ومن ثمّ، فإنّ ما نسبناه إلى الإنسان من حيوانيّة، في إثر مقارنته بالحيوان، إنّما يتأسّس هو بعينه على ماهيّة الإقامة في خارج الذات». يتّضح من هذا كلّه أنّ عاقليّة الإنسان لا تستقيم إلّا على قدر ما تتأصّل في قابليّته للسكنى في رحابة الكينونة. العاقليّة متأصّلةٌ في قدرة الإنسان على الإقامة في خارج الذات، أي في حقيقة الكينونة وفي استدعاءاتها المتواترة.


ينتقد هايدغر كلّ ضروب الإنسيّة التي تبني ماهيّة الإنسان على قدرات عقليّة محضة، من غير أن تراعي طبيعة العلاقة القدَريّة التي تربط الماهيّة الإنسانيّة بانبساط الكينونة في تضاعيف الوجود. فالكينونة هي الأصل الذي يحتوي على كلّ شيء، ويستدعي كلّ شيء، وينكشف وينحجب في كلّ شيء. وخلافًا لما ذهبت إليه الإنسيّة الحديثة، في مناقضتها للمثاليّة الأفلاطونيّة القائلة بتقدّم الماهيّة على الوجود، من أنّ الوجود يتقدّم على الماهيّة، فإنّ هايدغر لا يني يعتبر أنّ كلتا القضيّتين (تقدّم الماهيّة على الوجود وتقدّم الوجود على الماهيّة) مشروطتان بخضوعهما لمنطق الأنظومة الميتافيزيقيّة التي تتناول الماهيّة والوجود كمقولات ثابتة صمديّة منعزلة عن حركة الاقتران الحيّ بانكشافات الكينونة وانحجاباتها. كلتا القضيّتين تهملان حقيقة الكينونة وتقذفان بالإنسان في أزمة الالتباس الأنطولوجيّ. الأصحّ هو القول بأنّ ماهيّة الإنسان تكمن في قابليّته للإقامة في خارج الذات، أي في انبساط الكينونة الرحب. فالوجود، بما هو إقامةٌ في خارج الذات، يكفّ عن معارضة الماهيّة، على غرار ما يجري في إنسيّة سارتر ومذهبه الوجوديّ. فلا تعارض، من ثمّ، بين الماهيّة والوجود لأنّ الماهيّة ليست جوهرًا مثاليًّا منفصلًا عن التاريخ، ولأنّ الوجود، بما هو إقامةٌ في خارج الذات، ليس مطابقًا للواقع العينيّ.

ليس للإنسان إذًا من وجود إلّا على قدر ما تستحثّه ماهيّتُه على الإقامة في خارج الذات، أي في منفسح المنارة (Lichtung) التي تنثرها الكينونة من حولها: «يبسط الإنسان ماهيّته بسطًا يجعله هو الموضع، أي هو منارة الكينونة. كينونة هذا الموضع بعينها تمتلك، هي وحدها، السمة الأساسيّة للإقامة في خارج الذات، أي للإقامة الوجْديّة في حقيقة الكينونة. إنّ الماهيّة الوجْديّة للإنسان تكمن في الإقامة في خارج الذات، وهي الإقامة التي ما انفكّت تختلف عن الوجود، وقد نُظر إليه نظرًا ميتافيزيقيًّا». يميّز هايدغر الإقامة في خارج الذات (Ek-sistenz) من مجرّد الوجود العينيّ (existentia) الذي تناولته الميتافيزيقا في مناقضته للماهيّة المثاليّة. الإقامة في خارج الذات ليست مضمونًا من المعاني يحتشد في مفهوم مرصوص متماسك، بل هي استثارةٌ وجْديّة للذات من أجل الارتماء في أحضان حقيقة الكينونة. أمّا الوجود العينيّ، فيدلّ في معناه الميتافيزيقيّ على التحقّق الراهنيّ للذات في معترك الوقائع المنجزة. وهو في ذلك يناقض ميتافيزيقيًّا مقولة الاحتمال أو الإمكان أو الجواز. فالمتحقّق هو نقيض المحتمل أو الممكن.

بناءً على هذا، لا يجوز تعيين هويّة الإنسان بالاستناد إلى مقولة الوجود الميتافيزيقيّة، على نحو ما ذهبت إليه المدارسُ الإنسانيّة في الفلسفة الغربيّة المعاصرة. فإنسانيّة الإنسان عادت لا تُعرَّف بعد اليوم لا بالاستناد إلى كيان الماهيّة، ولا بالاستناد إلى كيان الوجود، بل بالاستناد إلى الخصائص الوجْديّة التي تنطوي عليها إقامةُ الإنسان في خارج الذات. فالإنسان الذي وصفه هايدغر بإنسان الهمّ أو العناية إنّما يقتبل الكينونة في مُنفتحات إقبالها إليه. فإذا به ينقلب هو الموضع الذي فيه تنكشف الكينونة وتنحجب على وقع مراسيم القدَر الذي يملي عليها إمّا الإقبال وإمّا الإدبار. وما الموضع هذا سوى المنارة التي فيها تتكشّف حقيقة الكينونة حين يتعهّدها الإنسان بالعناية الرقيقة. ليس في الإنسان جوهرٌ متقدّم (الماهيّة) ينبغي تحقيقه وإنجازه في واقع عينيّ (الوجود). هذه المقاربة الميتافيزيقيّة تبني الإنسيّات الحديثة على تصوّراتٍ للكينونة تخالف سمات الحرّيّة التي تتّصف بها الكينونة في عمق صميمها، وتتّصف بها علاقة الكينونة بالإنسان في أقصى متطلّباتها.


لذلك أرسل هايدغر قولته الشهيرة في كتاب الكينونة والزمان: «جوهر الإنسان ليس هو الروح من حيث هي مركّب النفس والجسد، بل الوجود». استنادًا إلى ما أوضحه هايدغر في رسالته في الإنسيّة، ينبغي حمل الوجود على معنى الخروج من الذات والإقامة في خارج الذات. فالجوهر الإنسانيّ هو مُنعقَدُ العلاقات التي تربطه بالكينونة وبالعالم وبالكائنات، ومنها الكائنات الإنسانيّة نظرائه. ثمّة عناصرُ تكوينيّة أخرى في الإنسان افترضتها المذاهبُ الإنسانيّة الحديثة، منها الإنسان العاقل (العاقليّة)، والإنسان الشخص (الشخصيّة)، والإنسان الجسد (الجسديّة)، والإنسان الروح (الروحيّة). غير أنّ هذه العناصر لا يبطلها تحديدُ ماهيّة الإنسان كخروج من الذات وإقامة في منفسحات الكينونة. جلُّ الأمر أنّ هذا التحديد الأنطولوجيّ يصون كرامة الإنسان العليا، ويتجاوز في عمقه ومقتضياته كلّ التعريفات الأخرى الميتافيزيقيّة الانتماء. وحدها علاقة الإنسان بالكينونة تجعله في مقام الرفعة الأنطولوجيّة التي تليق بماهيّته المنفتحة على انكشافات الكينونة الرحبة. أمّا الجسديّة والروحيّة والعاقليّة والشخصيّة، فلا قوام لها بمعزل عن انتسابها إلى الكينونة وائتمارها بها وانتعاشها فيها. إنّها كيفيّاتٌ وجْديّة تضع الإنسان الدازاين في وصالٍ بالكينونة شديد التطلّب، عنيتُ به وصال الانبساط البنّاء والتملّك الأقصى لأشدّ الإمكانات الثاوية في صميم الكيان الإنسانيّ.

لا غرابة، من ثمّ، أن يُعرض هايدغر عن كلّ المذاهب الإنسانيّة السابقة، فيبتدع لفكره الأنطولوجيّ تصوّرًا للإنسان يتجاوز به المفترضات الميتافيزيقيّة التي تنطوي عليها المذاهبُ الإنسانيّة الأخرى. فالإنسيّة التي يدعو إليها هايدغر تولي مقام الصدارة للكينونة في كلّ شيء، وتروم الاستهداء بإشاراتها الخفرة المبثوثة في ثنايا الوجود، وتفرد للإنسان موضعًا جليلًا على قدر ما تعهد إليه في رسالة الرعاية: «الإنسان هو بالأحرى مقذوفٌ بواسطة الكينونة عينها في حقيقة الكينونة حتّى إنّه، وقد أقام في خارج ذاته على هذا النحو، يصون حقيقة الكينونة لكيما، في نور الكينونة، يظهر الكائنُ على حقيقته ككائن. غير أنّ الإنسان ليس هو من يقرّر هل يظهر الكائنُ وكيف يظهر، وليس هو من يقرّر هل يدخل الإلهُ والآلهةُ والتاريخُ والطبيعةُ في منارة الكينونة، وكيف يدخلون، وهل هؤلاء كلّهم هم في الحضور أو في الغياب، وكيف هم في الحضور أو في الغياب. مجيء الكائن يُبنى على قدَر الكينونة. أمّا بالنسبة إلى الإنسان، فالسؤال المستمرّ هو هل يجد ما هو ملائمٌ لماهيّته، ممّا يوافق قدَر الكينونة هذا. ذلك أنّ الإنسان، انسجامًا مع هذا القدَر، ينبغي له، بما هو الكائنُ المقيم في خارج ذاته، أن يصون حقيقة الكينونة. فالإنسان هو راعي الكينونة. على هذا وحده اقتصر التفكير الناشط في كتاب الكينونة والزمان حين اختُبر وجودُ الإقامة في خارج الذات كعناية». يبدو من الواضح أنّ الكينونة هي سيّدةُ القرار في كلّ ما يطرأ على الوجود الإنسانيّ. فهي التي تنكشف وتنحجب، وهي التي تبادر وتفعل فعلها في التاريخ. أمّا الإنسان، فليس عليه إلّا أن يراقب حركة الكينونة، ويترصّد اعتلاناتها وانفكاءاتها، ويواكب إقبالاتها وإدباراتها. فالرعاية هي غير السيادة. السيادة للكينونة، والرعاية للإنسان. هذا هو السبيل الأضمن للفوز بانكشاف سليم للكينونة في معترك الاختبار الوجْديّ الإنسانيّ. وكلّ سبيل آخر إنّما يُفضي إلى تقييد الكينونة وحبسها، وانتزاع حرّيّتها الذاتيّة، وإفراغها من حيويّتها.


لا بدّ، والحال هذه، من تأصيل أنطولوجيّ غير ميتافيزيقيّ لماهيّة الإنسان، به يتهيّأ للإنسان أن يُغني كيانه برحابة المنفسح الذي تستحضره الكينونة حين ترتسم معالمها على محيّا الكائنات. فالإنسان ليس قائمًا في ذاتيّة بُرجيّة منغلقة. كيانُه يستقيم على قدر ما ينخرط في سلك التجلّيات المتعاقبة التي تبسطها الكينونة من أمامه: «ليس الدازاين سوى التعرّض لقدرة الكينونة الفائقة». معنى هذا القول أنّ الإنسان، بما هو كائنٌ قائم في خارج ذاته في موضع انكشاف الكينونة، يكتنز في كيانه كلّ اختبارات الانفتاح على تنوّع الإدلاءات التي تُفرج عنها الكينونةُ في مختلف ميادين الوجود. والحال أنّ الكينونة هي الكلّ في الكلّ، تمنح الكائنات المدى الحيويّ الذي يهيّئ لها الاعتلان والتحقّق، وتضمن لها الحيّز الخفر الذي يرسم فيها القابليّات العظيمة التي ما فتئت تتجاوز حدود هذين الاعتلان والتحقّق: «أمّا الكينونة، فما هي؟ الكينونة هي ما هي عليه في ذاتها. هذا ما يجب على الفكر المقبل أن يتعلّم اختبارَه وقولَه. فالكينونة ليست هي الله، وليست هي أصلًا للعالم. الكينونة هي إذًا أشدّ بُعدًا من كلّ كائن، وهي مع ذلك أقرب إلى الإنسان من كلّ كائن، سواءٌ أكان هذا الكائن صخرةً أم حيوانًا أم عملًا فنّيًّا أم آلةً، سواءٌ أكان هذا الكائن ملاكًا أم إلهًا. فالكينونة هي الأقربُ. غير أنّ هذه القربى تظلّ للإنسان هي الأبعد على الإطلاق». لا شكّ في أن مثل هذا البُعد يحمله هايدغر على معنى بُعد الكينونة الحرّة من الإنسان، وعلى معنى بُعد الإنسان المكره من الكينونة. للكينونة، بحسب هايدغر، أحكامُها وأسبابُها، حين تبتعد عن الإنسان. وبُعدها يشبه مراسيم القدَر التي تَضطرّ الكينونةَ إلى الانكفاء والبُعد. أمّا بُعد الإنسان، فيأتيه من تسلّط ذاتيّته على الكائنات، حين يتوهّم أنّه في مداناة قصوى لحقيقة الكينونة، فيما هو عالقٌ بالكائنات دون الكينونة.

انسجامًا مع هذا التناول الجذريّ لماهيّة الإنسان في اقترانه بحقيقة الكينونة، يذهب هايدغر إلى اعتبار الكينونة هي بعينها العلاقة الناشطة بين الإنسان وحركة الإقامة في خارج الذات، أي في وصال الإنسان بحقيقة الكائنات. فالكينونة هي التي تستثير في الإنسان الإقامة الوجْديّة في خارج الذات، وهي التي تجعل هذه الإقامة موضعًا سنيًّا لاعتلان حقيقتها. أمّا الإنسان، فيظنّ أنّه، في إقامته الوجْديّة هذه، قد اقترب من حقيقة الكينونة اقترابًا صائبًا، في حين أنّه ما انفكّ عالقًا بالكائنات وبطريقة إقباله إلى الكائنات. ذلك أنّ الكينونة هي، في منتهى المطاف، علاقة القربى بين الكينونة والكائنات، تلك العلاقة التي يخيّل للإنسان أنّه أمسك بها كلّما اجتهد في إدراك حقيقة الكائنات. لذلك كانت الكينونة هي السرّ الأقصى في الوجود: «إنّ الأمر الوحيد الذي يودّ بلوغَه الفكرُ الذي يجتهد أن يُفصح عن ذاته في كتاب الكينونة والزمان، إنّما هو أمرٌ بسيطٌ. فالكينونة، بما هي محض كينونة، ما برحت سرًّا، ما برحت تلك القربى المجرّدة التي تنطوي عليها القدرةُ التي لا تُكره على شيء». أفضل الإدراك هو إذًا السكنى في بساطة الأمور حيث تظهر الكينونة كالشبكة الخفيّة التي تربط كلّ شيء بكلّ شيء. هي، بحسب هذه البساطة، الموئل الأعمق الذي منه تأتي الكائنات بعضها إلى بعض حين يدركها الإنسان في خروجه من ذاته إليها. هذا كلّه عاد لا يقوى العقلُ الميتافيزيقيّ على تصوّره وضبطه في قوالب المقولات المألوفة. لذلك لا بدّ من لغة أخرى تُفصح عن هذه البساطة المرتسمة في قوام الشبكة الرابطة.


لا غرابة، من ثمّ، أن يبتدع هايدغر كلّ هذه الاصطلاحات الجريئة لكي يعبّر بها عن تلمّساته المتأنّية لسرّ الكينونة. حتّى اللغة عينها تكفّ عن وظيفتها كأداة للتعبير، فتضحي هي مسكن الكينونة: «لكنّ الإنسان ليس كائنًا حيًّا وحسب، يمتلك اللغة، علاوةً على امتلاكه طاقاتٍ أخرى. اللغة هي بالأحرى مسكن الكينونة الذي فيه يقيم الإنسان، وقد حلّ في هذا المسكن، في خارج ذاته، وذلك على قدر ما ينتمي هو إلى حقيقة الكينونة، وقد تعهّدها بالرعاية». فحوى القول أنّ اللغة تتجاوز هويّتها الميتافيزيقيّة كأداة تعبير يتصرّف بها الإنسان وفاقًا لمصالح اختباراته المعرفيّة الخاصّة. اللغة، بما هي مستودع الأمان الذي تركن إليه الكينونة في ترحالها، إنّما تستدعي الإنسان ليُصغي هو إلى الكلام المنبثق من إشارات الكينونة الناطقة فيها. وقد تنطوي إشارات الكينونة على قدرات تعبيريّة تتجاوز ما تحمله الكلماتُ من مألوف المعاني المتواترة. فاللغة الملائمة هي التي تتيح للكينونة أن تنطق في كلماتها من غير أن تُغلق على هذا النطق في تعريفات ضيّقة الحدود.


في اجتهاد أخير لاستجلاء ماهيّة الإنسان، يتأمّل هايدغر في فعل الوهب المجّانيّ الذي تنطوي عليه الكينونة حين تُقبل إلى الكائنات. فالكينونة تجود من ذاتها على الوجود. وقد يصحّ القول بأنّ الكينونة هي في صميمها جودٌ لا ينقطع. أمّا العبارة الألمانيّة التي يستخدمها هايدغر (es gibt)، فتدلّ على أنّ الكينونة ليست جوهرًا صلبًا قابلًا للتبليغ التلقائيّ. إنّها حيويّة الجود العفويّ تقوم، بما هي كينونةٌ حرّةٌ، في مقام التأتّي (Ereignis) الهنيّ حين يلاقيها الإنسان في سكناه الوديعة وفي مداناته الخفرة لها. في التأتّي الهنيّ تستضيف الكينونةُ الإنسانَ الدازاين في جوارها، فيقترن كلاهما في حركة الجود المتبادل. وعلى قدر ما يرعى الإنسان حقيقة الكينونة، في تعاقب انكشافها وانحجابها، يهيّئ، بمشيئة الكينونة عينها، موضعًا جليلًا لسكنى الكينونة في اللغة. فإذا بالتأتّي يعبّر عن انضمام الكينونة والإنسان الدازاين كليهما في حيويّة الانبساط الجوّاد التي تستطيب الإقامة في مؤدّيات اللغة الخلّاقة.

في هذا كلّه ترتسم الحدود القصوى التي بلغ إليها هايدغر في معاينته لماهيّة الإنسان، وقد غمرتها حيويّةُ الكينونة واستقطبتها استقطابًا. ومن هذا كلّه تنبثق كلُّ الخلاصات التي يعيد بها هايدغر النظر في موروثات الأنظومة الميتافيزيقيّة في تطلّبها لمعاني الوجود قاطبةً. فهو، من جرّاء انقلابه الأنطولوجيّ الخطير، أخذ يراجع مسائل التاريخ (تجاوز سطحيّة المجرى الحدَثيّ الظاهريّ في التاريخ والاسترشاد بمراسيم الكينونة في إحياء التاريخ القدَريّ الحقيقيّ)، والفعل الإنسانيّ (الإعراض عن التسيّد الإراديّ والركون إلى صنائع الكينونة الهنيّة الصائنة لطبائع الكائنات)، والأخلاق (الكفّ عن الحاكميّات الماورائيّة الرادعة والآمريّات الخارجيّة الوازعة والسكنى المهذِّبة في محضر الأشياء)، والتقنية (الإمساك عن معانفة الطبيعة والاكتفاء باستثمار الموارد الطوعيّة التي تفرج عنها الطبيعة في انسيابها العفويّ)، والعلوم (اجتناب الإكراهات الحسابيّة الرياضيّة ومحاذرة الاصطناعات الكيانيّة المستنسخة الموازية للكائنات البشريّة والكائنات الطبيعيّة)، والسياسة (الإقلاع عن إخضاع المدينة لأحكام الاستبداد الغرائزيّ المنفعيّ والانتظام في أحكام المعيّة المصغية إلى مقتضيات العدل المنبثقة من قوام الأشياء)، والتديّن (الزهد في استحضار الألوهة القهريّ والاستجابة لنداءات الإله الأخير المنكفئ في عوزه إلى الكينونة السليمة في انتظام المتربّع الأصليّ الذي يحوي الآلهة والناس والسماء والأرض). وطفق يتفحّص في هذه المسائل الجوهريّة بواطنها ودواخلها ومضامينها ومدلولاتها بالاستناد إلى الانقلاب الأنطولوجيّ الخطير الذي استثاره حين وضع الكينونة في مقام الصدارة، وقرن بها كينونة الكائن الإنسانيّ في إقامته المطّردة في خارج ذاته. فالإنسيّة الأنطولوجيّة لا تملك في ذاتها إلّا العوز الشديد إلى نداءات الكينونة واستدعاءاتها. هو عوز الراعي الذي يصاحب القُطعان أنّى ترحّلت، وفي يقينه أنّه يسترشدها في خطواتها إلى مرعى المعاني الخصيب. قيمة الإنسان الراعي تأتيه من مناداة الكينونة له، لا من إمساكه هو بحركة الكينونة في التاريخ. فالإنسان مقذوفٌ في الوجود من أجل صون حقيقة الكينونة. وكلّما صان في الكينونة حقيقتها، تسنّى له أن يصون حقيقته هو أيضًا. ومن ثمّ، ليس الإنسان سوى طاقة الصون الأصليّة التي تستنهضها الكينونة في سكناها الوديعة في منزلها الأحبّ، منزل اللغة التي لا تني تستضيف في هيكلها ضروبًا مذهلة من التجلّيات المغنية.


6. اقتران الإنسان بالكينونة ومعاثر العودة إلى البساطة الأصليّة الأولى

يحار المرء في تقويم ما بلغت إليه تأمّلات هايدغر في حقيقة الكينونة وفي ماهيّة الإنسان. الانطباع الأوّل أنّ هايدغر كان يريد أن يذكّر الناس بالحقائق البديهيّة الأصليّة التي تفترضها كيفيّاتُ انسلاك الإنسان في مجاري الوجود التاريخيّ. جلُّ كلامه، قبل المنعطف وبعده، ينحصر في ضرورة إعتاق الإنسان من الألبسة المصطنعة التي فرضتها عليه الاجتهاداتُ الفلسفيّة منذ أن خبت أنوار اللمعان الإغريقيّ الأوّل، وضلّ الفكرُ في متاهات الذاتيّة العاقلة الحسّابة. ديدنُه المؤرق أن يذكّر الناس بضرورة الائتمار بما تُفرج عنه الكينونة من إشارات الإقبال الخفرة. فالكينونة هي كلّ شيء لأنّها ثاويةٌ منغلّةٌ في جميع الكائنات. وهي لا شيء على الإطلاق لأنّ ما من كائن، مهما سما قدرُه، يستطيع أن يُظهرها في ملء قوامها. هي الأغنى والأفقر، وهي الأرحب والأضيق، وهي الأقدر والأضعف. هي الأشدّ قدرةً على الانكشاف، وهي الأشدّ قدرةً على الانحجاب.


ولكن أين موقع الإنسان، في نهاية المطاف، من هذه الكينونة المربكة؟ لا بدّ هنا من التذكير بأنّ هايدغر، قبل المنعطف وبعده، ما انفكّ يربط مسألة الإنسان بمسألة الكينونة. وقد تنوّع الربطُ بتنوّع المواضع التي تناولها هايدغر، وتنوّع المخاضات التي انتابت فكره. فها هوذا يتعرّض للارتجاجات المدوّية التي أثارها نيتشه في إعلانه الصاخب عن موت الله وانتشار العدميّة المطلقة. فيقف موقف المتأمّل المتبصّر في معاني ارتباط المسألة الميتافيزيقيّة ببنية الإنسان الأنطولوجيّة. ولا يلبث أن يسأل عن سبب اقتران الاختلاف الأنطولوجيّ بين الكينونة والكائنات ببنية التفكّر الاستفساريّ اللصيقة بكينونة الكائن الإنسانيّ: «إذا كان انفطار طبيعة الإنسان على الميتافيزيقا، وكانت نواة هذا الانفطار كلاهما يقومان في هذا التمييز بين الكينونة والكائن، بحيث تنجم الميتافيزيقا عن هذا الانفطار، فإنّنا، برجوعنا إلى هذا التمييز، إنّما نفوز بأصل الميتافيزيقا، وبالفعل عينه نفوز بمفهومٍ للميتافيزيقا أكثر أصالةً. إنّ ما سبق أن توجّهنا إليه بالسؤال، على نحو غير دقيق، ألا وهو علاقة الإنسان بالكائن، ليس هو، في عمقه، سوى التمييز بين الكينونة والكائن، وهو التمييز اللصيق بانفطار الطبيعة الإنسانيّة. فالإنسان، إذًا، بما أنّه يميّز على هذا المنوال، يستطيع بسبب ذلك فقط أن يسلك في نور الكينونة ويتصرّف بإزاء الكائن، أي أن يقيم في العلاقة بالكائن، ممّا يعني أن يتحدّد هو ميتافيزيقيًّا وبواسطة الميتافيزيقا. ولكن أفيكون هذا التمييز بين الكينونة والكائن هو انفطار الطبيعة، وعلى الإطلاق، هو نواة انفطار الطبيعة في الإنسان؟ فما هو إذًا الإنسان؟ فيمَ تقوم الطبيعة «الإنسانيّة»؟ ماذا تعني هنا الطبيعة، وماذا يعني الإنسان؟ ممَّ ينبغي الانطلاق في تحديد الطبيعة الإنسانيّة وكيف ينبغي تحديدها؟ يجب إذًا أن يكون هذا التعيينُ لماهيّة طبيعة الإنسان في طور الإنجاز ويجب أن يُنجز، إذا ما أردنا أن نبيّن في هذه الماهيّة أنّها مفطورةٌ على الميتافيزيقا، وإذا ما أردنا حتّى أن نبرهن أنّ التمييز بين الكينونة والكائنات هو نواة هذا الانفطار. ومع ذلك، هل نستطيع على الإطلاق أن نحدّد ماهيّة الإنسان (ماهيّة طبيعته) من دون أن نراعي التمييز بين الكينونة والكائن؟ هل ينجم هذا التمييز فقط من جرّاء طبيعة الإنسان أم أنّ طبيعة الإنسان وماهيّته تتحدّدان، في الأصل وعلى وجه العموم، على أساس هذا التمييز وانطلاقًا منه؟ عندئذ لا يكون التمييز فعلًا ينجزه الإنسانُ من بين أفعال أخرى، وهو ما عدا ذلك قد سبق أنّه كائنٌ، لا بل إنّ الإنسان لا يستطيع أن يكون إنسانًا إلّا على قدر ما يترامى في هذا التمييز ويعتصم به. فالإنسان، بما هو متأصّل ميتافيزيقيًّا وفي الميتافيزيقا، هو عالقٌ تحت حكم الكينونة والكائن، يتنازعان على حمله إليهما بما هو كائنٌ منفتحٌ منسلكٌ في ما هو منفتحٌ. تبعًا لهذا القدر المحتوم يتلبّث الإنسانُ الميتافيزيقيُّ في «التمييز». من ثمّ، ينبغي لماهيّة الإنسان أن تُبنى على «تمييز». أفليس ذلك فكرةً عجيبة ؟ إنّها، بلا ريب، فكرةٌ عجيبةٌ لأنّ هذا التمييز هو نفسه غير محدَّد في ماهيّته، بُني في الهواء كصورة هوائيّة». في هذا النصّ الأساسيّ يتبيّن في جلاء عظيم أنّ مسألة الإنسان ما انفكّت تربك هايدغر، وأنّ إخضاع ماهيّة الإنسان للكينونة ولما تقتضيه من تمييز بينها وبين الكائنات ما برح في صلب الحقائق الكبرى التي يعتصم بها هايدغر. فالإنسان هو إنسانٌ لأنّه أوّلًا مقيمٌ في منفسحات اعتلان الكينونة، ولأنّه ثانيًا يميّز تمييزًا حصيفًا بين الكينونة والكائنات. من جرّاء الإقامة في هذه المنفسحات ومؤالفة الاختلاف الأنطولوجيّ بين الكينونة والكائنات، يضحي الإنسانُ كائنًا ميتافيزيقيًّا. إلّا أنّ هذه السمة الميتافيزيقيّة التي يفترضتها هايدغر في ماهيّة الإنسان لا تعني قابليّة الإنسان للاعتراف بعالم غيبيّ ماورائيّ إلهيّ يتجاوز رحابة الكينونة عينها. فالكينونة هي الرحابة المطلقة، وفيها تنضوي كلُّ الكائنات وكلُّ الاختبارات، حتّى اختبارات المقدّس، واختبارات الإلهيّ، على نحو ما أوضح ذلك هايدغر في رسالة الإنسيّة. جلّ الأمر أنّ الميتافيزيقا هي السبيل الذي يُتيح التمييز بين الكينونة والكائن، وأنّ الإنسان لا يبلغ إلى عمق إنسانيّته إلّا على قدر ما يعتمد مثل هذا التمييز. 

من الفوائد الطيّبة التي حملتها هذه المراجعة الفكريّة الأصوليّة (العودة إلى الأصول الإغريقيّة) تحريرُ الإنسان من الهويّات المصطنعة التي فرضتها عليه الأنظوماتُ الميتافيزيقيّة المضلِّلة المتعاقبة. الإنسيّة الأنطولوجيّة الراعية للكينونة بحسب استلهامات الفكر الإغريقيّ الأوّل لا تفترض في الإنسان القادر على هذا التمييز سوى التجرّد الكامل، والفقر المطلق، والإخلاء الذاتيّ. فالإنسان ليس هو ذلك المؤتلف المربك الذي تنضمّ فيه ثلاثةٌ من المكوِّنات المتقابلة، عنيتُ بها الجسد والنفس والروح، بل هو محض مشروع مقذوف في العالم. والإنسان ليس كائنًا عابرًا في وادي الآلام يترقّب انعتاقه وارتقاءه إلى مصفّ الخلود الأبديّ، بل هو كائنٌ مفطورٌ على الموت المحتّم الذي يُغلق فيه بالتتويج جميعَ إمكانات إقباله إلى ذاته وإلى الكينونة. والإنسان ليس هو كائنًا قائمًا في ذاته يمتلك كلّ عناصر الهويّة الذاتيّة المنيعة، بل هو كائنٌ يستمدّ كيانه من انسلاكه الحتميّ في العالم، واشتباكه الضروريّ بنظرائه الكائنات الإنسانيّة الأخرى، وتفاعله المطّرد بإمكانات الفهم التي تأتيه من سياق الإقامة في خارج ذاته. والإنسان ليس هو قدرةً عقليّة على التمثّل الذهنيّ النظريّ التصوّريّ المفهوميّ، بل هو قابليّةٌ عفويّةٌ تتحسّس، في غير تمثّل عقليّ، حقائق الكائنات التي تكشفها له تجلّياتُ الكينونة وانحجاباتُها على حدّ السواء. والإنسان ليس هو طاقةً على التعقّل الحسّاب والتدبّر الضابط والتفقّه المهيمن، بل هو إمكانٌ محضٌ للخروج المطّرد من الذات والإقامة في المنفتحات التي تشرّعها الكينونةُ أمامه. والإنسان ليس هو في مقام المخلوق العبد (اليهوديّة)، ولا في مقام المخلوق الابن (المسيحيّة)، ولا في مقام المخلوق الخليفة (الإسلام)، ولا في مقام الهباء المنتزع من الجسم الإلهيّ الكونيّ (الروحانيّات الآسيويّة). والإنسان ليس هو في وضعيّة الصورة المنحلّة عن المثال الأعلى (أفلاطون)، ولا في وضعيّة الحيوان العاقل (أرسطو)، ولا في وضعيّة الذات المتيقّنة المقتدرة (ديكارت)، ولا في وضعيّة الذات الناظمة للكون والمريدة لأفعالها (كانط)، ولا في وضعيّة التحقّق الذاتيّ الأكمل في الوعي المطلق (هيغل)، ولا في وضعيّة التفوّق الخلّاق (نيتشه)، ولا في وضعيّة الأنا المتعالية المنشئة للكون ولأغراضه (هوسّرل).

هذا كلّه، لعمري، جميلٌ وواعدٌ. بيد أنّ مثل هذا التحرير الأنطولوجيّ الجذريّ أفضى بالإنسان إلى استسلام مربك لمشيئة الكينونة. فالأنطولوجيا الهايدغريّة أوشكت أن تنحت للكينونة قوامًا مستقلًّا، ومشيئةً حرّة، ومزاجًا فريدًا، وقدَرًا لعوبًا مُلزِمًا. أضحت الكينونة، تحت ريشة هايدغر، هي الحاكم المطلق في الكون وفي العالم وفي التاريخ وفي وجود الناس. هي تقرّر أن ينقلب الفكرُ الإغريقيّ الأصليّ ضربًا من الميتافيزيقا النسَّاءة المضلِّلة المهملة لحقيقة الكينونة، وذلك على يد أفلاطون وأرسطو وكلّ اجتهادات الفلاسفة في العصور الوسطى والعصور الحديثة. وحدها ترسم أنّ اللغة الشعريّة هي أقرب إليها من اللغة النظريّة العقليّة المفهوميّة المقولاتيّة المجرّدة. لها أن تستدعي الإنسانَ إلى الحضور والانبساط أمام حقيقتها، ولها أن تمنع نفسَها عنه حتّى يشقى في معانفته لنفسه ولنظرائه وللكائنات المحدقة به. يثق هايدغر بالكينونة ثقةً تبلغ به إلى حدود الخضوع الهنيّ والترقّب الجذلان. وما جولاته في تراثات الفكر الشعريّ والصوفيّ، في الغرب وفي الشرق، سوى الدليل على أنّ الفلسفة الغربيّة كلّها هي، في نظره، في ضلال النسيان، لا تقوى على مداناة سرّ الكينونة لأنّها ابتُليت  بمصائب الذاتيّات العقليّة القاهرة. والأدهى أنّ نسيان الكينونة هو أيضًا من فعل الكينونة عينها. أمّا الإنسان النسّاء، فهو شريكٌ متواطئ.


كيف السبيلُ إذًا إلى النظر النقديّ الموضوعيّ في مثل هذه المراجعة الأصوليّة الجذريّة؟ المشكلة الكبرى أنّ هايدغر، في نظر مؤيّديه، يصعب انتقادُه لأنّه يعتقد اعتقادًا راسخًا أنّه يفكّر في ما يتجاوز كلّ تفكير، أي في النطاق الذي يتعدّى كلّ فهم. فالانتقادات، في رأيه وفي رأيهم، تعجز عن إصابته لأنّه في منطقة من البساطة المطلقة يستحيل فيها الانتقاد المستند أصلًا إلى بناءات الميتافيزيقا. في منطقة البساطة هذه كلُّ شيء يصبح ممكنًا، الأمر ونقيضه، نسيان الكينونة وتذكّرها، انحجاب الكينونة وانكشافها. شأنه في ذلك شأن هيغل الذي استبق المعارضة واستدخل في جدليّتة الدمَّاجة كلَّ قابليّات المعاكسة والمعاندة والمحايلة والنقد والنقض والهدم.


ولكنّ الواجب الفكريّ يستحثّ الجميع على المساءلة المستنيرة. والمساءلة إنّما تبدأ بالبدايات الأولى، أي بالانقلابات المفهوميّة التي ساقها هايدغر في شأن الكينونة. يعتقد هايدغر أنّ الكينونة هي سرّ، لا يني ينكشف وينحجب وفاقًا لمزاجه الحرّ، وهو قعرٌ لا أساس له. ليست هي مفهومًا، وليست هي وحدة، وليست هي كلمة، وليست هي جوهرًا، ولا كائنًا من الكائنات. أطلق عليها، في مرحلة متأخّرة، اسم الكِوان (Seyn)، وقد غيّر رسم المصطلح الألمانيّ. في الوقت عينه، الكينونة قائمةٌ في أصل كلّ شيء، وهي في نظره مناط السؤال الفلسفيّ الأوحد. كثيرون يعاينون مبلغ الإرباك الذي يستثيره فكرُ الكينونة الجديد الذي ينادي به هايدغر. والحال أنّ أرسطو سبق فأشار إشارةً بيّنة إلى أنّ مبحث الكينونة (الأنطولوجيا) يستحيل الخوضُ فيه لأنّ الكينونة لا تستطيع أن تكون هي بعينها ذاتًا من جرّاء تكثّرها في الكائنات، ولا تستطيع أن تكون هي بعينها محمولًا أو صفةً من جرّاء كونها هي بعينها الكينونة. ذلك أنّ مبحث الكينونة يبدو وكأنّه لا اسم له ولا هويّة من جرّاء عسر مركبه: «إنّ ارتباك الخطاب الإنسانيّ في الكينونة يضحي التعبير الأوفر أمانة عن جواز الكينونة». إذا كان الأمر على هذا النحو، فهل يجوز بناء المراجعة الأصوليّة لتاريخ الفلسفة الغربيّة كلّها على إرباك أصليّ لا فكاك منه؟ ذلك أنّ الكينونة ليست حضورًا دائمًا في ذاتها، بل انسيابٌ حرٌّ في تضاعيف الزمان، تطرأ عليها عاديات الزمان وملابساته وتعاقباته المتوتّرة. فليس في المستطاع ضبطها وقولبتها وتطويعها والإفصاح عنها في قولة واحدة، أو تعريف واحد، أو مفهوم واحد. تبلغ الجرأةُ بهايدغر حدود مساءلة أصول التفكّر عينها حيث يعلن عن رفضه للطريقة التي تناول فيها الفكرُ الإنسانيّ مسائل الطبيعة والفكر واللغة: «لماذا كان يجب على اللوغوس وكذلك على العقل، في زمن سبق أن كان مُبكرًا، أن يُسمَّيا، في مُنفتح الطبيعة، كموضعَين لتأصيل الكينونة، وأن تُبنى، استنادًا إلى ذلك، كلُّ معرفة؟». ليس من تفسير لهذا الاعتراض سوى الطلب من الناس الكفّ عن اعتماد ما ألفه الفكرُ البشريّ منذ ما يقارب خمسة وعشرين قرنًا من البحث الفلسفيّ. دعمًا لمثل هذا الاعتراض، يقترح هايدغر أن ينعت الكينونة بالعدم أو أن يساوي بين الكينونة والعدم حتّى ينقذ الكينونة من كلّ ما تلبّس بها من صياغات ورداءات لا تليق بغناها الفائق الوصف. في البحث الذي يحمل عنوان ما الميتافيزيقا؟، يغوص هايدغر في معاني العدم والإعدام والانعدام، وينظر نظرًا ناقدًا في المعادلة التي أنشأها هيغل بين الكينونة والعدم. وفي اعتقاده أنّ التساوي بين الكينونة والعدم في الميتافيزيقا الهيغليّة لا يرتبط باللامحدوديّة التي تحملها الكينونة ويحملها العدم على حدّ السواء، بل يرتبط بقدرة العدم على إظهار طاقة التجاوز في الكينونة، وإظهار أثر الكينونة في إبراز إمكانات العدم[. تنشأ القربى الناشطة بين الكينونة والعدم من قدرة العدم على كشف غيريّة الكينونة في أقصى ما تحمله من استفزاز للعقل الإنسانيّ.

بيد أنّ العدم لا يُتّكل عليه في بناء الخطاب الإنسانيّ المتماسك الصائب القابل للإبلاغ. فالسرّ الذي يهيمن في كتابات هايدغر على مفهوم الكينونة، حين تتدثّر الكينونةُ بمفهوم العدم، إنّما يجعل الكلام الفلسفيّ كلّه في موضع الالتباس الأقصى. وعليه، يتنازع الفكر الهايدغريّ ضربان من الامتحان، ولاسيّما في كتاباته الأخيرة. فالباحثون في فكر هايدغر، ومنهم بول ريكور، يعتقدون أنّ مقولة الإرأيغنيس ومقولة الوهب غير المسبوق (es gibt) يتأرجحان في كتابات هايدغر الأخيرة بين الاصطفاف في سلك الكلام المعقول الذي يروم البلوغ إلى إفصاح أشدّ أمانةً للكينونة، والانحياز إلى الانغلاقيّة الخطابيّة والإبهاميّة المفهوميّة والتنميقيّة اللغويّة الحوشيّة. ويبدو أنّ هايدغر خضع، في إثر هذا التنازع، للامتحان الأخير، وفي ظنّه أنّه يحرّر أقواله من قواعد الإنشاء وأصول بناء القضايا الفكريّة. فأغوته تحوّلاتُ الخطاب إلى متون مبعثرة، مترجرجة، تؤثر الإخفاء والإضمار والتستّر والتوريات المربكة. وهو، في ذلك كلّه، يحذو حذو الشعراء الصوفيّين الزاهدين في الإبلاغ، على إكثار من الإنشاء الفضفاض الحمّال لأوجه متنافرة من المعاني المتسربلة بحجابات السرّ المصون. والحال أنّ الكينونة، على ما يعتمل فيها من حيويّة وتمدّد ورحابة، لا تستأهل مثل هذه الارتيادات الإنشائيّة الباذخة. إنّها عسيرةٌ على الإدراك لأنّها تشمل كلَّ شيء في الكون وفي الوجود، وفي الزمان وفي المكان، وفي الأعلى وفي الأسفل، وفي المدى المنظور وفي الأفق المحجوب. ولكن هل يجوز الإغراق في سرّيّتها ومضاعفة إرباك العقل الإنسانيّ، لا بل إدانته وحجب الثقة عنه وتعطيل آليّاته وأحكامه وأفعاله بالتذرّع ببداهة محدوديّته؟ والحال أنّ محدوديّة العقل منبثقةٌ من محدوديّة الوجود الإنسانيّ الذي ينظر إليه هايدغر نظرة ريبة وحذر ونفور. وما اللجوء إلى الإرأيغنيس (التأتّي) لوصف اقتران الكائنات بالكينونة واقتران الكائن الإنسانيّ بالكينونة إلّا للتدليل على عجز المفاهيم الميتافيزيقيّة القديمة عن التعبير عن مثل هذه البساطة المطلقة. فالإرأيغنيس مفهومٌ ابتدعه هايدغر من دون الاستناد إلى مقولات الميتافيزيقا حيث لا محلّ له فيها على الإطلاق. إنّه حدث إقبال الكينونة إلى الكائنات وإلى الإنسان من غير تبرير عقليّ أو تسويغ نظريّ. هو حدث الوهب المجّانيّ الأصليّ، وحدث الانسجام العفويّ بين الكينونة والكائنات، وحدث التملّك التلقائيّ للكينونة في الكائنات. في الإرأيغنيس أيضًا قدرةٌ على المشاهدة والشهادة تؤهّل الفكر المستذكر الخفر المتواضع لمعاينة تفتّحات الكينونة في منفسحات الوجود الرحبة. بيد أنّ مقام الشهوديّة الذي يستتليه الإرأيغنيس يعارض معارضةً صريحةً تمثّلات العقل النظريّ الحسّاب.


حقيقة الأمر أنّ هايدغر أراد أن يؤيّد عقلانيّةً لا تتوسّل بالتمثّلات الذهنيّة أو بالتصوّرات. فأين تقع هي هذه العقلانيّة المنشودة؟ أوليس في العقل الإنسانيّ نفسه الذي اختبره الفكرُ الإنسانيّ منذ تلمّساته الأولى وتفتّحاته الواعدة؟ هو يريد عقلًا إنسانيًّا يستجيب لنداءات الكينونة الخفرة ولاستدعاءاتها المباغتة. وهو يريد فكرًا إنسانيًّا يغوص في عمق أعماق الأشياء من غير أن يستجلبها مكبّلةً بمقولاته الذهنيّة المحضة. وهو يريد تناولًا إنسانيًّا يحرص على تعزيز مقامات الانحجاب الناشبة في صميم الكائنات. في حلقات البحث التي كان يعقدها عالم النفس التحليليّ السويسريّ مِدارد بوس (Medard Boss) على تعاقب الأعوام الممتدّة بين 1959 و1969 في تسولّيكون (زوريخ، سويسرا)، أفصح هايدغر عن اقتناعه حين أعلن أنّ «الفِنومِنولوجيا هي علمٌ أكثر علميّةً من علم الطبيعة، ولاسيّما حين نحمل العلم على معنى المعرفة الأصليّة، على معنى الكلمة السنسكريّة (wit)، أي النظر». هذا كلّه، لعمري، جميلٌ وخليقٌ باستهلال زمن جديد من النظر الشهوديّ الإنسانيّ الواعد. غير أنّ النظر الذي يتحدّث عنه هايدغر ويُرجعه إلى ثقافات الأزمنة القديمة، عند الشعوب الإغريقيّة أو الهنديّة أو الصينيّة أو اليابانيّة، لا يستقيم إلّا إذا بنى معايناته وتحليلاته واستنتاجاته وخلاصاته على العقل عينه الذي ينبغي له أن يراعي كيفيّات الإقبال المتنوّعة التي تعتمدها الكينونة في الكائنات. الأمانة العقليّة في استقبال هذه الكيفيّات لا تُبطل الاعتماد على العقل: «إنّ نقد العقلانيّة الميتافيزيقيّة يجب أن يجري انطلاقًا من عقلانيّة مابعد ميتافيزيقيّة، وهي أيضًا عقلانيّة لأنّها، على وجه الدقّة، مابعد ميتافيزيقيّة (...). إنّ هايدغر، في وجه من الوجوه، يحاجج في كتاباته، حتّى ولئن كان ذلك لمناهضة ضروب التضخّم في المحاجّة المنطقيّة. إنّ هذا الاعتماد المضمر على موارد الحجّة يستند هذه المرّة على ما يمكن أن ندعوه «العقلانيّة الحجاجيّة» الأوّليّة (...). ما من دحض للمذهب العقلانيّ يستطيع أن يرمي، بخفّة الاستهتار، المسألةَ التي تتحرّى عن الحوافز (عن الأسباب) وعن مرتكزات هذا النقد الحجاجيّة. أونستطيع أن ننقد العقل من دون العقل (من دون تعليلٍ للأسباب)؟ فالناس ليسوا على هذا القدر من انعدام التعقّل» فحوى القول أنّ انتقاد العقلانيّات الحديثة لا يستقيم بالإعراض المطلق عن استخدام العقل. أمّا النظر في كيفيّات هذا الاستخدام، فينبغي التفطّن لها في سياق الاعتماد الحتميّ على العقل نفسه، على نحو ما أتت به معظم مدارس النقد المعاصرة، ولاسيّما مدرسة فرانكفورت الألمانيّة على تعاقب أجيالها الثلاثة. أمّا النقد التفكيكيّ الصارم للعقلانيّات الحديثة، فلا يُفضي في أغلب الأحيان إلّا إلى الغموض والإرباك.


المثالُ على ذلك واضحٌ في الكتابات التي يتناول فيها هايدغر مسألة اللغة، وخصوصًا في موضع تعليقه على القصائد الشعريّة، ومنها في هذا السياق قصيدة غيورغ تراكل: «إنّ مثل هذه اللغة (الشعريّة) تصبح هكذا لغةً تُردّد قولتَها، تصبح شعرًا. مَقولُها المبوح به يصون النظمَ الشعريّ كقولٍ هو، في جوهره، غيرُ مَبوح به». ميلُه الغالب يأنس إلى قصائد الشعراء الكبار الذين ينعتقون من سلاسل الإنشاء المنطقيّ، فيسترسلون في تطلّب الالتماع الحدسيّ الحرّ. هو يجاريهم لأنّه يعاين في قصائدهم فتحًا للمعاني لا طاقة للعقلانيّة الحديثة على تمثّله واستساغته. غير أنّ هذا الفتح يكبّله هايدغر بقيود الإبهام، فيحجب القول في تعارض المبوح به وغير المبوح به، في حين أنّ الفكر الإنسانيّ يروم الوضوح حتّى في القضايا الوجوديّة العسيرة، ويطلب الفهم الصائب حتّى في حقول التعبير الرمزيّ الهائجة.


أراد هايدغر للإنسان أن يسكن في الأرض شاعريًّا، أي منفتحًا على نداءات الكينونة وقابلًا لانفعالات الأشياء فيه. والشاعريّة، في أصلها اليونانيّ القديم (poiesis)، تدلّ أيضًا على الإبداع المسالم للطبيعة. ولكن كيف يتهيّأ له هذا كلُّه ما لم ينعم بوضوح الرؤية، وسلامة الإدراك، واستقامة المنهج، ورويّة التبصّر، وجلاء النظر؟ هي مقتضيات النظر العقليّ التي يُجمع عليها أهلُ الفكر في جميع الحضارات. أمّا إذا شاء المرء أن ينعتق منها، فله أن يبرّر ذلك، فيستعيض عن الفكر بالذكر والإنشاد: «الإنشاد والفكر هما الجذعان القريبان من النظم الشعريّ، يخرجان من الكِوان (Seyn) ويمتدّان بلوغًا في حقيقته». من الواضح إذًا أنّ هايدغر يؤثر اللغة الشعريّة على اللغة الفلسفيّة لأنّه يعاين في الشعر قدرةً مذهلة على اختراق حجاب السرّ المصون المضروب على كينونة الكائنات. لا ضرر في ذلك على الإطلاق. ولكن ينبغي الاعتراف بأنّ إعلان هايدغر انتهاء زمن الفلسفة واستهلال زمن التفكّر إنّما يدلّ على رغبته الصادقة في انتهاج سبيل جديد من البحث في الكينونة وفي الكائنات وفي الوجود وفي الإنسان. وهو سبيلٌ لا يجاريه فيه جميع الذين ما فتئوا يتصوّرون للإنسان مقامًا أساسيًّا في الاضطلاع بمسؤوليّة الكون. حتّى هايدغر نفسه يسترهب خلع الإنسان عن مسؤوليّاته وإخضاعه لإملاءات الكينونة المزاجيّة. فتراه تتنازعه تجاربُ شتّى تعود به إلى إنسيّة مستبصرة متّزنة حكيمة تستفتخ أغلاق المعاني من دون أن تمجّد الإبهام والالتباس، وتستطلع آفاق الإصلاح الوجوديّ من غير أن تغمر الوجود الإنسانيّ في ضبابيّات المائتيّة المزهقة.


في كتابات هايدغر الأخيرة تظهر حاجةُ الكينونة القصوى إلى الإنسان. فإذا بالإنسان يعود إلى مقامه الذي خلعه هايدغر منه في إثر الانعطافة. فلماذا تؤثِر الكينونة الإنسانَ على غيره من الكائنات؟ أفليس في ذلك اعترافٌ بأنّ الإنسان هو، في منتهى المطاف، المختبِر والمختبَر، والسائل والسؤال والمسألة، والأصل والحقل والمرجع؟ مشكلة هايدغر أنّه لا يعترف إلّا بالكينونة أصلًا في كلّ ابتدار تاريخيّ، ولكنّه يعجز عن فصلها عن الإنسان فكلاهما مقترنان اقتران العروة الوثقى. أعظم ابتكاراته الاصطلاحيّة نحتُ الإرأيغنيس الذي عاين فيه حدثَ التأتّي الأمثل والاستدخال الاستملاكيّ الأبرز والاستبصار الجوّانيّ الأعرف. والإرأيغنيس هذا أسند إليه هايدغر مهمّة المهمّات، عنيتُ بها الجمعَ اللامنفعيّ واللاعقلانيّ بين الكينونة والإنسان. فالإرأيغنيس يعني «التحوّل الجوهريّ للإنسان من حيوان عاقل إلى دازاين». فالدازاين، بحسب كتابات هايدغر الأخيرة، عاد لا يعني الموضع الذي تتجلّى فيه الكينونة، بل بالأحرى الموضع وحسب، أي القدرة على البقاء والاستمرار والصمود والخروج من الذات والانبراء في العالم، بالرغم من القدرة الجيّاشة التي تمور بها الكينونة، وبها تضطرب أهواؤها، فتندفع إقبالًا وإدبارًا في قبالة الإنسان الساكن المستكين، المتلبّث المتريّث.

ابتدع هايدغر مفهوم الإرأيغنيس، وعاين فيه انتظامًا للكينونة في الكائنات، وعنوانًا لانسجام الكينونة والكائن الإنسانيّ في مسرى الانقذاف في الوجود. وذهب بعيدًا في ذلك، فأخذ يقارن بينه وبين التاو. ولكن السؤال الأخطر يظلّ يؤرق القارئ الراغب في الفهم. كيف ننشئ مفهومًا لا يخضع لتدبّر الفهم الإنسانيّ العام؟ هذا الإرأيغنيس الذي خصّص له هايدغر كتابين اثنين هو سرّ الأسرار لأنّه هو الذي يعضد سرّ الكينونة وسرّ الزمان وسرّ الإنسان. فيه تتعالق الأسرار الثلاثة هذه بعضها ببعض. ومن جرّاء هذا التواشج، يظنّ هايدغر أنّه بلغ إلى منتهى البحث في الإنسان، وأنّه أصاب منه مقدار الاستبصار الأقصى. بيد أنّ هذه الإنسيّة المبنيّة على هذا الثالوث السرّيّ تظلّ عصيّةً على الإدراك. فرادتها أنّها تخرج من نطاق الميتافيزيقا الكلاسيكيّة التي استهلّها أفلاطون وأرسطو، كلّ في سياقه الخاصّ. أمّا انعطابها، فناجمٌ عن تناقضها الذي تعانيه معاناةً شديدة حين تُبطل كلّ أنواع الاستخدام العقليّ، ولا تلبث أن تستعين، من غير أن تصرّح بذلك، بطاقات عقليّة في الحفر اللغويّ، والنحت الاصطلاحيّ، والصياغة الشعريّة، والوشي البلاغيّ، والكشف الوجديّ، والنظم البنائيّ الاختلافيّ النافر من كلّ دلالة معنويّة مألوفة.


واقع الحال أنّ هذه الإنسيّة التي ابتكرها هايدغر لم تأتِ من عدم، بل انبثقت من مخاصمة هايدغر لجميع ضروب العقلانيّة الحديثة. محاذرة هايدغر من المذاهب الإنسانيّة المعاصرة ناجمةٌ من ميله الرومنسيّ إلى عراقة التقليد، وتعظيمه المفرط لابتكارات القدماء من أهل الأغريق وسواهم من أصحاب البصيرة في الحضارات الإنسانيّة القديمة، من الذين تحسّسوا سرّ الكينونة الناشب في قوام الكائنات. الميتافيزيقا الرومنسيّة التي نادى بها هايدغر هي التي أفضت به إلى معاداة الإنسيّات المعاصرة وإلى مخاصمة الديمقراطيّة. غير أنّ هايدغر لم يختبر من الإنسيّات إلّا تلك التي عاين فيها هيمنةً عقلانيّة على الكينونة وعلى الكائنات. أمّا الإنسيّات الأخرى التي تُعلي من شأن اللغة الشعريّة، ومن شأن الرموز الخليقة بإدراكٍ مختلف لغنى الكينونة، فإنّه أغفل عنها أو تغافل، صونًا لتماسك قراءته النقديّة لكامل تاريخ الميتافيزيقا الغربيّة، منذ تخلّيها عن تحسّسات الإغريق الأوائل. فالإنسيّة البلاغيّة التي أهملها هايدغر قادرةٌ هي على انتهاج سبيل التحسّس الأنسب لسرّ الكينونة. ولكنّ هايدغر شملها بنقده الجذريّ للإنسيّات كلّها. لا غرابة، من ثمّ، أن ينهض غيرُ مفكّر وينتقد هايدغر ويعيب عليه إبطالَه لكلّ موارد العقل البشريّ وحجره للإنسان في صومعة الاستكانة المتأمّلة. فإذا بهم يرشقونه بمعاداة الإنسان، على نحو ما صنع لوك فرّي وألان رونو اللذان يحملان في فرنسا على وجه الخصوص لواء الدفاع عن الإنسان الفرد، الواعي، المستقلّ، المسؤول. وهي كلّها صفاتٌ يُنكرها هايدغر أو يسعى إلى إعادة تأويلها بالاستناد إلى مقام الصدارة الذي يوليه للكينونة. فإذا ما عطّل الفكرُ في الإنسان هذه الملكات والقدرات والصفات والمؤهّلات، فأيّ منقلب ينقلب الإنسانُ في سعيه إلى الاضطلاع بمسؤوليّات الوجود؟ أفيستطيع الإنسان، من بعد ذلك، أن يُسأل عن أفعاله ويحاسب عن أعماله؟ رأس الكلام أنّ تعطيل العقل لا مبرّر له على الإطلاق، لأنّ الأداة الوحيدة الصالحة للتفكّر في معنى الكينونة إنّما هي العقل وما ينطوي عليه من قدرات وكيفيّات. لا يكفي الإنسان أن يحيا شاعريًّا وأن ينعم بفتوحات صوفيّة إشراقيّة تنهمر عليه من علُ، وهو في حالة التعطّل العقليّ والاستقالة الذهنيّة وتخدّر الوعي وانكفائه. ولا يُعقل أن تُسند إلى الكينونة جميع صفات المسؤوليّة والابتدار والتقرير والتمييز والحكم، فيما الإنسان متروكٌ على قارعة التاريخ، يسرّه أن تناديه الكينونة حتّى يستجيب لها.

إذا كان الاستشراف والاستبصار والحكم والشروع في الإنجاز والشعور بمسؤوليّة التحقّق والابتكار كلّها أفعالًا ليست من خصائص المسلك الإنسانيّ، بل هي، في بسيط العبارة، استجابةٌ لأوامر الكينونة، فكيف يُعقل أن يستجيب الإنسان لأوامرَ ماهيّة سرّيّة لا تَظهر إلّا في انحجابها في الكائنات ولا يجتمع فيها أيُّ شرط من شروط الوجود التاريخيّ المعقول؟ هل يجوز للإنسان أن يعهد في حياته إلى قوّة سرّيّة كامنة في الأشياء لا قبَل له على استكشافها واستحضارها واستنطاقها؟ يبدو لي أنّ هايدغر استرهب، في بضعة من تأمّلاته، هذه الاستفسارات الخطيرة، فانتابته موجاتٌ من التردّد في تناوله لماهيّة الإنسان. البرهان على ذلك أستقيه، على سبيل المثال، من الالتباس الذي شاب تفسيرَه للإنسان النيتشويّ المتفوّق المقتدر. فهو تارةً (1936-1941) ينظر إلى إنسان نيتشه وكأنّه يرمز إلى سلطان التقنية المعاصرة التي تروم أن تهيمن على الكائنات. وطورًا يغدو الإنسان النيتشويّ، ولاسيّما في كتاب ماذا نعني بالفكر؟، هو بنفسه الصورة التي تهيّئ مجيء المفكّر المنفتح على استدعاءات الكينونة. الإنسان عينه يحمل في طيّاته سمات التناقض والتنازع بين السيادة والرعاية. معنى ذلك أنّ هايدغر كان يمكنه أن يصون للكينونة مقامَها الفريد من غير أن يعطّل في الإنسان طاقاته العقليّة ومقامَه المستقلّ ووعيه المسؤول. ليس من الصعب الفوز بفهم أصيل للكينونة وللكائنات وللإنسان من دون المسّ بصدارة الإنسان في الاعتناء الصريح بالوجود كلّه. فالإنسيّة التي تروم أن تصون الطبيعة لا تزهق الإنسان دفاعًا عن الأشياء والكائنات والموجودات. هذه كلّها إنّما تحظى بمقامها الفريد بفضل الاعتناء الودود الذي يمحضها إيّاه الإنسانُ المدرك لمحدوديّته ولمحدوديّة الكون الأرحب. فما من عائق يمنع على هايدغر الإتيان بتفكّر أصيل في الكينونة يحفظ للإنسان حقوقه الأساسيّة. فالضلال الإنسانيّ الملازم للمحدوديّة التاريخيّة لا يبرّر الارتماء في أحضان القدر الذي تنصّبه الكينونةُ حاكمًا مطلقًا على الوجود.


يتهيّأ لي أنّ هايدغر، حين رام العودة إلى الأصول الإغريقيّة، حمل إليها تأثّره السلبيّ بمقولات الحداثة التي كان يرفضها رفضًا قاطعًا. فإذا به يزرع تراث الأصالة الإغريقيّة في تربةٍ حديثة تضرب بها مخاطرُ النزوع إلى ما بعد الحداثة، وكأنّي به يناصر مُكرهًا مقولات ما بعد الحداثة على قدر ما ينتصر للفتوحات الفكريّة الأصيلة التي أتى بها أهلُ الإغريق الأوائل والتي تنطوي على متشابهات مربكة مع قضايا التبعثر التي أنشأها فكرُ ما بعد الحداثة. بين العودة الأصوليّة والانقذاف الجريء في مخاطر الحداثة غير المكتملة، آثر هايدغر الرجوع إلى الوراء، وفي ظنّه أنّ الأصول تنطوي على مواعيد المستقبل. إلّا أنّ عودته إلى الأصول تشبه، في وجوه شتّى، ما ينادي به فكرُ ما بعد الحداثة من إبطال للذات الفرديّة المتماسكة، وتعطيل للمنطق الاستيضاحيّ البنّاء، وإيثار للعدميّة الخلّاقة والتشتّت المغني والبعثرة الملهمة، واستسلام للإملاءات الالتماعيّة الاختلافيّة، وانقياد للأقدار المكتومة الناشطة في البنى الخفيّة المهيمنة على مسالك الناس. ثمّة شبهٌ مربك بين تحفيزات العودة الهايدغريّة إلى الأصول وتحريضات وعود ما بعد الحداثة. والحال أنّ الحداثة التي نصّبت الإنسان في صدارة الكون، وفرزته لخدمة الوجود والاضطلاع بواجبات التعقّل الحكيم التي ينفرد بها عن غيره من الكائنات، ما برحت في موضع الانعطاب التاريخيّ، تتجاذبها أصوليّاتُ العودة الحالمة إلى زمن الأصالة الإغريقيّة الصافية، وأصوليّات العنف الدينيّ والأيديولوجيّ الشنيعة، وأوهام التفتّت الخلاصيّ والتفكّك السعيد والسيلان الامتزاجيّ التي تحتفي بها اجتهاداتُ مفكّري ما بعد الحداثة في توهّج عنفوانهم البركانيّ.


ولست أرى تنافرًا حادًّا بين الإنسان السيّد والإنسان الراعي. فالسيادة الحقّة هي رعايةٌ للوجود وللموجودات. أمّا الكينونة، فالبحث عن معناها لا يستقيم بتعطيل كلّ ضروب التفكّر الإنسانيّ في حقول علوم الإنسان وعلوم الطبيعة. حين تنفرد الفلسفة بالبحث عن معنى الكينونة، فإنّ هذا الانفراد لا يعني الإعراض عن هذه الحقول، بل الانغماس النقديّ في جميع المباحث التي تتّصل بحدود الكائنات القصوى. والكينونة هي، في عرفي، تعبيرٌ فذٌّ عن هذه الحدود.


اجتهد هايدغر فأصاب في تعزيز مقام الراعي في إنسيّته الأنطولوجيّة. ولكنّه في اجتهاده أيضًا ضلّ ضلالًا مربكًا حين عطّل في الإنسيّة مقام الوعي المسؤول، والحرّيّة الذاتيّة، والعاقليّة المبادِرة البنّاءة. ومع أنّ الوجود الإنسانيّ يكتنفه سرُّ الكون الأرحب، فإنّي لا أستطيب الإقامة في ضبابيّات السرّ وقدَريّات الكينونة. وكما أنّ عاقليّة الكائن الإنسانيّ الأساسيّة ليست المبرّر الكافي لإهانة الكائنات الأخرى والأشياء والوجود والكون والكينونة، كذلك الاستقالة العقليّة ليست الحلّ الناجع في تدبّر محدوديّة الإنسان في رحابة الكون المذهلة وسرّ الكينونة المنطوي فيها.

 



الاستغراب 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...