العلم الجنائي (Forensic Science)
أريج أبوهنية:
شارلوك هولمز، المحقق كونان، تحقيقات CSI، أغاثا كريستي، من منا لم يشاهد فلمًا أو مسلسلًا بوليسيًا أو قرأ قصة بوليسية وانبهر بطريقة التحقيق العبقرية التي تستخدمها الشرطة والمختصون في العلم الجنائي، ابتداءً من تصوير الضحية وموقع الجريمة حتى تحليل الحمض النووي، وزمرة الدم، وبصمات الأصابع وكل التفاصيل الدقيقة الصغيرة المتروكة في مسرح الجريمة، حيث إن لباحثي العلم الجنائي عبر القرون رأي واحد وهو: (أن كل جسمان يتلامسان يتبادلان المواد والجسيمات بينهما)، ومن هذا المنطلق بدأ العلم الجنائي العمل بقوة عن طريق تحليل كل جسم تُرك في مسرح الجريمة صغيرًا كان أم كبيرًا.
فما هو العلم الجنائي؟
يتمثل العلم الجنائي في توظيف العلوم الطبيعية مثل الأحياء والكيمياء والفيزياء والعلوم الإنسانية مثل علم النفس وعلم الاجتماع، في جمع وتحليل الأدلة المتروكة داخل وخارج مسرح الجريمة وتوظيف نتائج التحليلات في تحديد أوصاف الجاني والمجني عليه والجريمة، لاستخدام هذه النتائج لاحقًا كأدلة لتجريم أو تبرئة المتهمين في المحكمة.
يتميز العلم الجنائي بكونه علم واسع جدًا و له عدة أقسام وأنواع مختلفة ويعمل فيه عدد كبير جدًا من الناس؛ حيث إن كل شخص منهم مختص في مجال معين، فتجد الأطباء مختصين في الطب الشرعي لتحديد سبب الوفاة والمهندسين في حال كان القتل باستخدام سلاح ناري لتحديد مكان إطلاق النار وعلماء النفس والاجتماع لدراسة وتحديد الحالة النفسية للمتهم والضحية، إضافةً لأنواع كثيرة أخرى من مجالات العلم الجنائي التي سنشرح عن كل مجال منها بالتفصيل.
ما هي أنواع العلوم الجنائية؟
ينقسم العلم الجنائي إلى أنواع مختلفة من العلوم الفرعية وسنذكر بعضًا منها في هذا المقال..
يقوم هذا العلم بدراسة وتحليل العظام والهياكل العظمية وبقاياها لتحديد هوية الشخص وجنسه وشكله وعرقه، إضافةً لحالته الاجتماعية والمادية، ومعرفة سبب موته أيضًا، وكل ما سبق ممكن في حال العثور على هيكل عظمي كامل، ولكن في حالة العثور على قطع عظمية صغيرة أو محطمة يتم في في البداية تحليل العظام لتحديد ما إذا كانت عظام إنسان أم حيوان، في حال كانت عظام إنسان فسيكون من المرجح تواجد المزيد من عظم هذا الشخص متناثرة في المنطقة، فيتم البحث عنها على أمل الحصول على هيكل عظمي كامل ليكون بإمكان الخبراء تحديد الصفات الجسمية والاجتماعية وسبب موت هذا الشخص.
بإمكان الخبراء تحديد شكل ووجه الشخص ولونه وعرقه من خلال تقنية تسمى تراكب الجمجمة مع الوجه (Skull Superimposition) ويتم بناء الوجه من قبل فنانين يعرفون بالفنانين الجنائيين (Forensic Artists) باستخدام الصلصال (قديمًا) أما حديثًا، فيتم استخدام برامج حاسوبية، ثم يصورون الوجه الذي تم بناؤه وينشرونه.. على أمل أن يراه شخص كان يعرف الضحية سابقًا، وفي حال إيجاد هذا الشخص يتم طلب منه صور للضحية قبل موتها ويتم مقارنة الوجه الذي تم بناؤه بصور الضحية التي تم الحصول عليها، في حال وجود شبه كبير بين الصورة والوجه، ينتقل الخبراء للمرحلة الثانية لتأكيد هوية الضحية وهو القيام بفحص للحمض النووي، حيث يتم طلب أغراض من المرجح أن تحمل الحمض النووي للضحية (مثل ملابسها القديمة، فرشاة أسنانها أو شعرها وأدوات شخصية أخرى) ومقارنتها مع الحمض النووي للعظام التي تم العثور عليها.
أخصائيو العلم الجنائي (Criminalistics)
أخصائيو العلم الجنائي هم أول الأشخاص الذين يصلون لمسرح الجريمة، يعاينونه ويحافظون على شكله ويحمونه من التلوث أو التخريب، ويقومون بالتقاط الصور لمسرح الجريمة والضحية وجمع البصمات والأدلة الأخرى الضرورية كخصلات الشعر، والأسنان، قطع متناثرة من الملابس، وأثر الحذاء، وبقع دماء متناثرة، وسلاح الجريمة، وأوراق، وسوائل جسدية ويتأكدون أيضًا من سلامة المكان (حيث أنه أحيانًا يبقى المجرم في مسرح الجريمة حتى بعد وصول أخصائيي العلم الجنائي مما يشكل خطرًا على حياتهم)، ويقومون بتحديد أنواع خبراء العلم الجنائي الضروريين للتحقيق في الجريمة؛ مثلًا ضرورة إحضار متخصص في تحليل خطوط اليد لتحليل رسالة، أو متخصص مختبر جنائي لتحليل بعض من سوائل الجسم المتروكة في مسرح الجريمة، ويقومون بطرح الأسئلة والاستفسار من الشخص الذي قام بالتبليغ عن الجريمة، ويقومون بإرسال تقارير مسرح الجريمة إلى مركز الشرطة.
الهندسة الجنائية (Forensic Engineering)
يستخدم متخصصو الهندسة الجنائية مجالات الهندسة المختلفة مثل الهندسة الميكانيكية والكهربائية والمدنية في تحديد سبب حدوث حادث أو كارثة أو جريمة ما، فمثلُا في حالات حوادث السيارات يتم الاستعانة بمهندسي الميكانيك والكهرباء لديهم الخبرة في المجال الجنائي لتحديد سبب الحادث فيما إذا كان عرضيًا أو مفتعلًا ويتم الاستعانة بدلائل ومعلومات من الشهود على الحادث، إضافةً إلى الاعتماد على شكل وحجم ومكان وخطورة جروح الضحايا للتحقيق في سبب وكيفية حدوث الحادث. كما يتم الإستعانة بهم في حالات حوادث الطائرات أو السفن لتحديد سبب سقوط الطائرة أو غرق السفينة، ويتم كتابة التقارير عن سبب الحادث وفي حال كانت المشكلة خلل في إحدى المحركات أو القطع التقنية يتم إخبار وتقديم التقارير للشركة المصنعة أو المحكمة فيما تقتضيه الضرورة ليتم إصلاح هذا الخلل ومنع حدوث حوادث جديدة. والمهندسون المدنيون والمعماريون والميكانيكيون يتم الاستعانة بهم في حالات انهيار المباني والجسور لتحديد سبب الخلل ومنع حدوث كارثة تماثلها في المستقبل.
علم القانون (Jurisprudence)
غالباً ما يكون أعضاء علم القانون محاميين معنيين بالعمل في المجال الجنائي، فمثلاً يقومون بالتأكد من مصداقية ومقبولية الأدلة التي تُقدم في المحكمة من قبل مختصي مجالات العلم الجنائي الأخرى وخاصةً الأدلة الجديدة غير المسبوقة في تاريخ المحاكم، كما أنه يجب أن يتواجد لديهم خلفية علمية جنائية ممتازة تسمح لهم بالعمل برفقة هؤلاء المتخصصين بمساعدتهم في إثبات الأدلة لتجريم المتهم أو تبرئته.
طب الأسنان الجنائي (Forensic Odontology)
تلعب الأسنان دورًا مهمًا جدًا في التعرف على هوية الضحية، فأحيانا يكون جسد الضحية مهشمًا ومتضررًا بشكل كبير، مما يمنع الحصول على أي أدلة قد تدل على هوية الضحية مثل بصمات الأصابع أو شكل الجسد أو بصمة الحمض النووي. وتكون الأسنان هي الشيء الوحيد المتبقي من الضحية، حيث تتميز الأسنان بأنها صلبة وقوية جدًا، فهي تستطيع أن تنجو في الكوارث الشديدة التي قد تعرضت لها الضحية مثل حادث سقوط طائرة أو حرق أو هدم مبنى أو حتى انفجار، ففي هذه الحالة يأخذ المختصون الأسنان المتبقية ويصورونها بتقنية الـ(X- Rays) – (صورة أشعة سينية) وتتم مقارنتها مع صور أشعة أخرى يُعتقد أنها للضحية قبل موتها، (فمعظم من زار طبيب الأسنان قد احتاج لصورة أشعة لأسنانه)، لكن طبعا يجب أن يكون المختصون والمحققون قد حصلوا مسبقا على طرف خيط صغير عن هوية الضحية لتضييق نطاق البحث قدر الإمكان.
ومن الاستخدامات الأخرى لطب الأسنان الجنائي، هو التحقيق في إصابات وجروح الوجه خاصة في حالات إصابات الأطفال، فمن خلال شكل الإصابة يمكن التحديد فيما إذا كانت الإصابة ناجمة عن حادث سقوط أو إذا كان تعرض لإعتداء، وفي بعض الجرائم الأخرى يقوم الجاني بعض الضحية وترك علامات أسنان واضحة على جسد الضحية التي قد تبقى آثارها لفترة طويلة خاصة إذا كانت العضة بعد الوفاة، في هذه الحالة يصنع طبيب الأسنان الشرعي قالب أجص على شكل العضة لمقارنته مع أسنان المشتبه فيهم، حيث يؤمن العلم بأن لكل شخص طبعة أسنان خاصة فيه تترك أثرًا مميزًا غير متشابه لأي شخص آخر عند العض.
دائماً ما يكون الطبيب الشرعي طبيبا قد تخرج في كلية الطب ثم تخصص لمدة أربع أو خمس سنوات في مجال علم الأمراض (Pathology) ثم درس لمدة سنة في مجال الطب الشرعي وحصل على شهادة معترف بها، حيث المهمة الرئيسة للطبيب الشرعي هو تحديد سبب الوفاة من خلال تشريح الجثة في المشرحة، ويقوم الطبيب الشرعي بذلك على عدة مراحل، في المرحلة الأولى يصل الطبيب الشرعي مكان الحادث (ليس بالضرورة نفسه الذي سيقوم بتشريح الجثة في المشرحة، حيث عادة يعمل أكثر من طبيب شرعي في القضية، لتحديد سبب الوفاة) ويقوم بتحديد وقت الوفاة بناء على درجة تصلب الجثة (يعتمد مدى تصلب الجثة على الوقت الذي مر على وفاة الضحية حيث تبدأ الجثة بالتصلب بعد ساعتين من الوفاة في عضلات الوجه ثم ينتقل التصلب للأطراف بعد عدة ساعات حتى تتصلب الجثة بأكملها بعد مرور 6 إلى 8 ساعات ويستمر التصلب حتى 30 ساعة من وفاة الضحية ثم يختفي كليا بعد مرور 36 ساعة من الوفاة، وسبب التصلب هو تغييرات تحصل في جزيئات الطاقة (ATP) المرتبطة في العضلات)، يعطي الطبيب الشرعي الحاضر في مسرح الجريمة تعليمات لكيفية نقل الجثة للمشرحة لتتم عملية التشريح.
عندما تصل الجثة للمشرحة يبدأ الأطباء الشرعيين في تشريح الجثة حسب بروتوكولات معينة، فأثناء عملية التشريح يقوم الأطباء بالبحث عن إصابات على جسد الضحية مثل الجروح، والضربات والكسور والقطع ويتم فحص الدم ومحتويات المعدة للبحث عن أي سموم قد تسببت في موت الضحية وتوثيق كل هذا في تقارير، وغالبًا ما يتعاون الأطباء الشرعيين مع مختصي علم السموم الذي يكونون مسؤولين عن تحليل سوائل جسم الضحية كالدم والبول واللعاب والشعر وأنسجة الجسم المختلفة، للبحث عن أي نوع من أنواع السموم أو الأمراض، ومع مختصي الأنثروبولوجيا الجنائية في حال وجود تهشم شديد في جسد الضحية أو في حال كانت العظام هي من وجدت في مسرح الجريمة، إضافة لمختصي علم الحشرات الجنائيين (Forensic Entomology) الذي يقوموم بدراسة تأثير الديدان والكائنات الحية الدقيقة على حالة الجثة لتحديد سبب الوفاة ووقتها بدقة أكبر.
يُطلب من الأطباء الشرعيين كتابة سبب الوفاة في تقارير يتم تقديمها لاحقًا للمحكمة للمساعدة في سير التحقيق، حيث يكتب الأطباء السبب كحادث أو قتل أو انتحار مع تفاصيل أكثر وفي حال تعذر عليهم العثور على سبب الوفاة أو تواجد أكثر من سبب للوفاة فإنهم يذكرونه في التقرير أيضا وبالطبع يتفادى الطبيب الشرعي تقديم صور مخيفة في المحكمة، حيث عادةً ما تكون صور المشرحة غير صالحة للعرض أمام هيئة المحلفين.
يُعتبر علم الحشرات الجنائي من الجوانب المهمة جدا في تحديد وقت الوفاة، فعند ترك جثة في الخارج فإن أول الكائنات التي تزور الجثة هي الحشرات، التي تستخدم الجثث للتغذية عليها أو وضع بيضها فيها، فبعض الحشرات تهاجم الجسد مباشرة بعد الوفاة وبعضها الآخر تنتظر حتى تتحلل الجثة قليلاً ثم تستوطنها، فنوع الحشرات وكميتها في الجثة يساعد الخبراء على معرفة وقت الوفاة، ولكن تحديد وقت الوفاة وحده باستخدام علم الحشرات ليس كافيا؛ فتحلل الجثة يتأثر بعدة عوامل أخرى في البيئة مثل؛ درجة الحرارة ودرجة الرطوبة وأشعة الشمس ونوعية التربة الموجودة عليها الجثة، ونوعية الملابس التي ترتديها الجثة وغيرها.
علم النفس الشرعي أو علم النفس الجنائي (Forensic Psychiatric)
بدأ الاهتمام في علم النفس الشرعي في منتصف القرن العشرين لتحديد الحالة العقلية للمتهم وتحديد فيما إذا كان المتهم في حالة عقلية واعية تمكنه من حضور المحاكمة وفهم ما يجري فيها وفهم الاتهامات الملقاة عليه، وأيضاً لتحديد فيما إذا كان باستطاعته الدفاع عن نفسه في المحكمة أم لا وفي حال ثبت أن المتهم يعاني من تخلف عقلي أو مشاكل عقلية تجعله عاجزًا عن فهم ما يجري في المحكمة أو الاتهامات الملقاة على كاهله أو تجعله عاجزًا عن تفرقة الصواب من الخطأ (في هذه الحالة لا يمكن إدانة المجرم بالجرم بسبب كونه عاجزا عن فهم ما اقترفت يداه ويتم تحويله لمشفى أمراض عقلية للعلاج وليس للسجن) فيتم تحويله لمصحة عقلية تابعة للسجن يقضي فيها فترة علاج من دون أجل مسمى.
من الجوانب الأخرى المثيرة في علم النفس الشرعي هو مجال القتلة المتسلسلين، عادة ما يقتل القتلة المتسلسلين ضحاياهم بالطريقة نفسها أو باتباع نمط واضح وثابت؛ فمثلاً أن يكون كل ضحاياه من الرجال أو كلهم من النساء، أو يكون ضحاياه عادة ما يرتادون مكانا معينا، أو يرتدون لباسا معينا، فمن خلال دراسة وفهم الحالة العقلية والسلوكية للمجرم ستتمكن الشرطة من تتبع آثار المجرم في سبيل منع حدوث جريمة أخرى وتضييق نطاق البحث للقبض عليه.
يلعب مختصو علم النفس الشرعي دورا مهما في تحديد الأوصاف السلوكية والنفسية للأشخاص الذين يمكن أن يكونوا مجرمين أو لديهم نوايا إجرامية واضحة، وتستخدم الأجهزة الأمنية هذه الأوصاف لرصد وتتبع أي شخص لديه نفس الأوصاف، خاصة الأجهزة الأمنية المتواجدة في المطارات ومحطات القطارات والمراكز التجارية في سبيل منع جريمة محتملة، مثل سرقة متجر أو خطف طائرة، إضافة لدورهم الكبير في استجواب المتهمين والشهود والضحايا وتحديد الأوصاف السلوكية والنفسية لكل شخص فيهم، مثل تحديد الحالة العقلية للمتهم، وموثوقية شهادة الشهود فيما إذا كانت شهادتهم قد تأثرت أو تغيرت بفعل ضغط نفسي أو تشوش في الذاكرة.
مختصو علم النفس الشرعي هم خبراء نفسيون تخرجوا في كلية علم النفس وتخصصوا في مجال علم النفس السريري، وحصلوا على خبرات خبير النفس الشرعي من خلال التدريب والعمل في مجال علم الإجرام والمحاكم والإجراءات القانونية ليتم اعتبارهم خبراء علم نفس شرعي.
علم تحليل الوثائق (Questioned – Documents Analysis)
يحتوي هذا العلم على الكثير من المجالات، لكن إحدى أهم مجالاته هو تحليل خط اليد (Hand Writing Analysis) حيث يقوم الخبراء هنا بتحليل الخط المكتوب في رسالة و١مقارنتها بخط اليد للأشخاص المشتبهين فيهم لتحديد هوية كاتب الرسالة، إضافة إلى أنهم يحققون في الوثائق المشتبه في أنها مزورة أو مقلدة أو تم نسخها، مثل نسخ التواقيع والطوابع، و يحققون في الوثائق القديمة والأثرية لتحديد عمرها عن طريق حالة الورق ونوعه ونوع الحبر وطريقة الكتابة وخط الكتابة، ولتحديد فيما إذا كانت هذه الرسائل الأثرية مزورة أو مقلدة، ومن إحدى المهام الأخرى لعلم تحليل الوثائق هو التأكد من الطريقة التي كُتبت فيها هذه الوثيقة أو الرسالة، هل كُتبت باليد أم باستخدام آلة معنية، وكل ما ذكر سابقا يساعد الشرطة في تضييق نطاق بحثها عن المجرم قدر الإمكان.
ويدرس مختصو علم الوثائق في إمكانية التلاعب بوثائق معينة مثل حذف سطور وكلمات أو إضافتها، وأيضاً إذا تم التلاعب في الوثائق التاريخية وتغيير المكتوب فيها أو إضافة كلمات جديدة إليها من خلال تحديد نوع الحبر والتغييرات التي تحصل على الحبر عبر الزمن، هذا ويمكنهم من تحديد العمر الصحيح الذي كتبت فيه الوثيقة أول مرة ومتى تم التلاعب فيها، ويتمكن الكثير منهم من إصلاح الوثائق المتلفة أو الممزقة أو المحترقة لمعرفة المكتوب فيها باستخدام مواد كيميائية معينة تساعد على رؤية الحبر على الورقة المتلفة.
علم السموم (Toxicology)
يُستخدم علم السموم في التعرف على نوعية السموم والأدوية المتواجدة في جسد الضحية التي من الممكن أنها تسببت في الوفاة، ولكن العمل الشائع لمختصي علم السموم هو قياس نسبة الكحول أو المخدرات في أجسام السائقين الذين قد يُشتبه بهم أنهم تحت تأثير الكحول، حيث يوجد نسبة معينة مسموحة للكحول في جسد الشخص كي لا يُعتبر تحت تأثير الكحول أي في حالة سُكر (في حال تجاوزت نسبة الكحول في جسد الشخص عن النسبة المسموحة فإن هذا يجعله في حالة سكر مما يؤثر سلباً على حالة وعيه ويضعه في خطر القيام بحادث سير) وفي حال كانت نسبة الكحول في دمه قد تجاوزت النسبة المسموحة فإنه سيتعرض للمسؤولية القانونية.
يتم استخدام علم السموم أيضا في حالات الوفيات التي تسببت بها جرعات زائدة من المخدرات فيتم في هذه الحالة قياس نسبة المخدر في دم الضحية للتحقق من أن سبب الوفاة هو الجرعة الزائدة أو بسب مسبب آخر، في كثير من الأحيان يأخذ المدمن أكثر من نوع واحد من المخدرات التي قد تسبب وفاته، أو في التحقيق في الوفيات التي تسببت بها تفاعلات داوئية مع بعضها أو تفاعلات دوائية مع الكحول، وتكون مهمة مختص علم السموم اكتشاف وتحديد هذا التفاعل الدوائي، وغالباً ما يعمل مختص علم السموم مع الطبيب الشرعي في عملية التحقيق في سبب الوفاة.
يعمل مختصو علم السموم أيضاً في اكتشاف نسبة المواد المخدرة في أجسام الموظفين العاملين في شركات معينة تمنع موظفيها من التعاطي، ويستخدم المختصون الشعر والدم والبول لقياس نسبة المواد المخدرة، تستطيع فحوصات الدم أن تُظهر نسبة المواد المخدرة في الجسم في حال لم يمر زمن طويل على أخذ المتعاطي للمخدر وتقل النسبة كثيراً حتى تختفي بعد مرور مدة معينة من الزمن، بينما يمكن تزوير فحوصات البول عن طريق أخذ أدوية مدرات البول التي تقوم بغسل البول من المواد المخدرة وتخفيفها حتى يتعذر قياس المادة المخدرة في البول، ولكن الشعر هو أكثرها أماناً وموثوقية وهي لا تُظهر فقط نسبة المواد المخدرة في الجسم الآن وإنما أيضاً تعطي جدولاً زمنياً دقيقاً قد يمتد لشهور عن كمية ووقت التعاطي للمواد المخدرة ونوع المخدر الذي تم تعاطيه، حيث تقوم الشعرة بتخزين المواد المخدرة التي تم أخذها سابقاً.
علم المقذوفات الجنائي (Ballistics)
يدرس علم المقذوفات حركة الأجسام المقذوفة أفقياً أو عمودياً والتأثيرات المحيطة بهذه الأجسام التي تؤثر في حركتها من ناحية المدى التي تقطعه ومكان سقطوها ودرجة وقوة اختراقها للأجسام، مثل الصواريخ والرصاصات والقنابل، بينما يختص علم المقذوفات الجنائي في الرصاص بشكل خاص، فلقد أوجدت الولايات المتحدة عام 2000 م تعريفاً مفيداً وواضحاً لعلم المقذوفات الجنائي ينص على أن علم المقذوفات الجنائي عبارة عن المقارنة بين الرصاصة المطلقة والخرطوشة التي خرجت منها الرصاصة لتحديد نوع السلاح المستخدم، إضافةً لتأثير كل نوع من أنواع الأسلحة النارية على الخراطيش والرصاصات التي تُقذف منها وأيضاً تأثير الخرطوشة نفسها على الرصاصة، فيتم دراسة الخدوش والتبعجات التي تكونت في الرصاصة جراء التأثر من الخرطوش، واستخدم علم المقذوفات الجنائي لأول مرة في نهايات القرن التاسع عشر.
علم الحاسوب الجنائي (Computer Forensics)
يُعد باحثو علم الحاسوب الجنائي مختصين في جمع وتوثيق وتحليل المعلومات الرقمية لاستخدامها في القضايا القانونية، حيث يتم الاستعانة بعلم الحاسوب الجنائي في القضايا والجرائم الإلكترونية مثل النشر المتعمد او العرضي لمعلومات مهمة وسرية تملكها شركة، أو سرقة وثائق ومعلومات سرية خاصة بشركات معنية، أو اختراق أنظمتها لتخريبها، أو استخدام شبكة الإنترنت بشكل غير قانوني وغير مصرح به من قبل موظفي الشركات، أو في حالات جرائم التجسس والابتزاز والاحتيال الإلكتروني، ويُستخدم علم الحاسوب الجنائي أيضاً في قضايا الجرائم غير الإلكترونية في سبيل جمع المعلومات وتحليلها واكتشاف مصادرها، في حال كان التواصل بين المجرم والضحايا أو بين المجرم والشرطة قد تم عبر شبكة الإنترنت أو شبكات إلكترونية أخرى.
تزداد الحاجة للجوء لمختصي علم الحاسوب الجنائي مع ازدياد استخدام الأجهزة الإلكترونية والحواسيب من قبل المجتمع، فيتم اللجوء في حالات القضايا غير الإلكترونية كالبحث عن الأشخاص المفقودين أو المساعدة في تحديد هوية الأشخاص المجهولين، أو البحث عن مجرم يتواصل باستخدام الإنترنت.
علم اللغة الجنائي (Forensic Linguistics)
يُستخدم علم اللغة الجنائي في مراكز الشرطة والمحاكم عن طريق دراسة وتحليل الأسئلة والاستجوابات التي تلقيها الشرطة والمحاكم في القضايا إلى المتهمين والشهود والضحايا، واستجوابات الدفاع والادعاء، ويُستخدم أيضاً لتحليل رسائل الفدية في جرائم الاختطاف، ورسائل الانتحار، ورسائل التهديد التي تُرسل إلى الشرطة أو الضحية نفسها، والرسائل المجهولة، وبيانات الاستجواب والمقابلات، ونزاعات العمل، والسرقات الأدبية، ورسائل الابتزاز.
ما هو دور المحقق شارلوك هولمز في تاريخ العلم الجنائي على مدى السنوات؟
ما تميز به المحقق شارلوك هولمز في قصص (آرثر كونان دويل) عن غيره من المحققين المذكورين في الروايات البوليسية الأخرى أن شارلوك هولمز رجل ذو منطق وعلم، ويستخدم العلم والتفكير المنطقي والتحليل والتخطيط في حل القضايا وإيجاد المجرم عن طريق تحليل الأدلة المتروكة في مسرح الجريمة وربطها مع بعضها البعض باستخدام العلم والمنطق، عُدّ كاتب روايات شارلوك هولمز السير آرثر كونان دويل (Arthur Conan Doyle) بأنه كان سابقا لعصره في استخدام العلم الجنائي لحل الجرائم، حيث كان يستخدم شارلوك هولمز العلم الجنائي بأنواعه المختلفة مثل الطب الشرعي وعلم السموم وعلم تحليل الوثائق وعلم النفس الشرعي والأنثربولوجيا الجنائية وغيرها لإيجاد المجرم، وكانت هذه الطرق سابقة لأوانها حيث لم تتبناها وتستخدمها مراكز الشرطة في بريطانيا في عملها إلا بعد مرور 36 عامًا على كتابة أول قصة لشارلوك هولمز وهي قصة دراسة في اللون القرمزي (A Study in Scarlet)، سنذكر الآن بعض أنواع العلوم الجنائية التي استخدمها المحقق شارلوك هولمز في حل القضايا التي كانت تواجهه.
بصمات الأصابع وطبعات الأحذية وتحليل خط اليد
كان شارلوك هولمز أول من لاحظ أهمية بصمات الأصابع وذلك في قضية علامة الأربعة (The Sign of the Four) عام 1890م. ومراكز الشرطة البريطانية (Scotland Yard) لم تبدأ بالاعتماد على بصمات الأصابع في تحقيقاتها إلا بعد مرور 36 عامًا أي عام 1926م.
أما بالنسبة لتحليل خط اليد، بدأ ذلك في قصة قضية هوية (The Case of Identity) عام 1891م. حيث قام شارلوك هولمز بتحليل الخط في الرسالة التي أرسلت إليه واستطاع تأكيد أن الرسالة لم تُكتب بخط اليد وإنما باستخدام آلة أخرى وأن كل السطور في الرسالة أيضا لم تكتب بخط اليد، كان شارلوك هولمز يحدد جنس مُرسل الرسالة إذا كان ذكرًا أو أنثى من خلال تحليل الخط وأيضاً تحديد فيما إذا كانت الرسالة كُتبت بخط اليد أو باستخدام آلة معينة، وكان يستطيع تأكيد وجود صلة قرابة بين كاتبي الرسالتين المختلفتين من خلال تحليل الخط فيهما أيضا، عن طريق تحديد نوع الورق وجودته والطبعة عليه ولونه إضافةً لنوع الحبر ولونه وجودته، كان يستطيع تحديد الشركة المصنعة للورق وبالتالي المنطقة التي أرسلت منها الرسالة وبالتالي مكان سكن صاحب الرسالة، إضافةً للحالة المادية والاجتماعية لمرسل الرسالة وهذا يتم تحديده من خلال نوع الورق وجودته ولم يعتمد أحد على علم تحليل الوثائق أو خط اليد حتى عام 1932م. عندما اعتمدته وكالة (FBI) في الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق فتح قسم خاص لهذا العلم.
برع شارلوك هولمز أيضا في تحديد وتحليل وحفظ طبعات الأحذية والأقدام، حيث كان يستطيع تحديد طبعة القدم وتفاصيلها على أسطح مختلفة مثل الطين والسجاد والتراب والثلج والدم والرماد، واستخدم الطريقة الفرنسية في حفظ طبعات القدم عن طريق استخدام اللاصق (Plaster)، وتحليل طبعات الأحذية يُمكن المحققين من معرفة طول الشخص وحجمه ونوع الحذاء الذي تم ارتداءه والمكان الذي أتى منه الشخص المرتدي للحذاء، لو افترضنا أن الحذاء كان ملوثًا بالطين بينما المنطقة التي وجدت فيها الطبعة جافة، فمن الممكن أن الشخص قد أتى من نهر أو مكان قريب يتواجد فيه طين، ونوع الحذاء يحدد جنس الشخص إذا كان ذكرا أو أنثى والحالة الاجتماعية له إذا كان من النوع الفاخر أو الرخيص, وأيضا وظيفة الشخص، فإذا كان الحذاء رسميا قد يكون موظف مكتبٍ وإذا كان بسطارا فسيكون شخصًا يعمل في مزرعة أو موقع بناء وما إلى ذلك.
الرسائل المشفرة (علم التشفير – Cryptology) والكلاب
احتوت قصص شارلوك هولمز على الكثير من الرسائل المشفرة وكان أولها في قصة مغامرة غلوريا سكوت (The Adventure of The Gloria Scott) عام 1893م. وتم استخدام نفس طريقة التشفير المستخدمة في قضية غلوريا سكوت في الحرب الأهلية الأمريكية، واستخدم التشفير في قصص أخرى مثل قصة وادي الرعب (The Valley of Fear)، ومغامرة الرجل الراقص (The Adventure of the Dancing Man).
تفكيك رسالة مشفرة
استخدم آرثر كونان دويل الكلاب في قصصه و كان سابقا لأوانه في استخدام الكلاب في حل القضايا، الكلاب في قضاياه كان لها دوران: تحديد هوية المجرم عن طريق تحليل سلوك الكلاب واستخدام الكلاب في تتبع رائحة المجرم خاصة إذا كان يتوقع أن يكون لهذا المجرم رائحة خاصة قد التصقت به، بالنسبة للقضايا التي احتوت على تتبع وتحليل سلوك الكلب أسماؤها كالتالي ذكراً لا حصراً؛ مثل مغامرة الوهج الفضي (The Adventure of the Silver Blaze) ومغامرة الكلب لم يفعل شيئا في الليل (The Dog did nothing in the night-time)، وفي مغامرة علامة الأربعة استخدم شارلوك هولمز الكلب لتتبع آثار المشتبه به الهارب الذي التصقت به رائحة القطران، وفي مغامرة الثلاث أرباع الضائعة (The Adventure of the Missing Three – Quarter) استخدم شارلوك هولمز الكلاب في تتبع رائحة اليانسون حيث ستقودهم هذه الرائحة للمشتبه به.
استخدم شارلوك هولمز أيضا الكيمياء التحليلية لتحليل الدم وسوائل الجسم والأدلة الأخرى المتروكة في مسرح الجريمة إضافة لعلم السموم حين يشتبه بوجود سم قد أدى لموت الضحية، حيث ذكر آرثر كونان دويل في قصة دراسة في اللون القرمزي أن شارلوك هولمز كان كيميائيُا يعمل في مختبرات الكيمياء في إحدى الجامعات وكان يستخدم هذه المختبرات في تحليل ما وجده في مسارح الجرائم التي كان يحقق بها، وأيضا علم المقذوفات الجنائية في حال قُتلت الضحية باستخدام الرصاص.
الخاتمة…
لطالما استهوتني قصص شارلوك هولمز وقضاياه وطريقته في حل الجرائم منذ نعومة أظفاري ومع كل سنة أتقدم فيها في العمر يزداد إعجابي وانبهاري بطرقه وأساليبه في التحقيق، حيث كلما تقدمت الأيام زادت معرفتي في العلوم الطبيعية المتنوعة والحياة وعلم الجريمة والتحقيقات مما يجعلني قادرا على فهم واستيعاب كل ما يقوله ويفعله شارلوك هولمز وفهم الأساس العلمي الذي يتخذه في تحقيقاته، وكان هذا يزيد من اهتمامي أكثر فأكثر في علم الجريمة والعلوم الجنائية، الأمر الذي دفعني لمشاركة هذه المعرفة والمتعة معكم في هذا المقال.
المحطة
إضافة تعليق جديد