عندما حلمت إسرائيل بتحويل الإليزيه لمعبد يهودي
قدر عدد الطائفة اليهودية في فرنسا سنة 1982 بحوالي 700.000 نسمةٍ، مما يجعلها الأولى في أوروبا الغربية والرابعة في العالم. ثبت وجود اليهود في فرنسا منذ عهد الكارولينجيين (السلالة الملكية الثانية في فرنسا 751-987م). نزح العديد منهم في القرن السادس عشر قادمين من أسبانيا والبرتغال. يكوِّن اليهود النازحون من المغرب العربي حوالي ثلثي اليهود في فرنسا، كما أن نصف يهود فرنسا يقطنون منطقة باريس. برغم الفوارق الطبقية والثقافية والعقائديَّة بين يهود فرنسا، إلا أن التعاطف مع إسرائيل يجمعهم على هدفٍ واحد، وهو دعم الكيان الصهيوني، لكن بالطبع ليس لدرجة العيش فيه!
تلعب جماعات الضغط الصهيونية دورًا كبيرًا في توجيه سياسة الإليزيه الخارجية نحو الكيان الصهيوني. في سنة 1944 أسَّس (المجلس الممثِّل للمؤسسات اليهودية في فرنسا) الذي ترأسه آلان دي روتشيلد في الثمانينيات، يعتبر المجلس من أقوى اللوبيات الصهيونية في فرنسا، وتغازله المعارضة والأغلبية على السواء. من أهم جماعات الضغط الصهيونية الفرنسية كذلك (صندوق النقد الاجتماعي اليهودي الموحد) الذي تأسَّس في 1949، وكانت مهمته جمع الأموال لصالح الكيان الصهيوني، ترأَّسه لمدةٍ طويلة (جي دي روتشيلد)، ثُمَّ انتقلت رئاسته إلى ابنه (ديفيد دي روتشيلد).
لكن الانعطافة الرئيسية في تاريخ الدعم الفرنسي لإسرائيل كانت في عهد الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، فقبله تشكَّلت في باريس نهاية العام 1946 الرابطة الفرنسية من أجل فلسطين الحُرَّة على غرار المنظمة الأمريكية المُسمَّاة (اللجنة العبريَّة للتحرُّر الوطني)، والتي كانت تُدعِّم المُنظمَّة الإرهابية (الأرجون). كانت الرابطة تصدر كل شهرين مجلة تُسمَّى (الرد)، لمهاجمة الاحتلال البريطاني لفلسطين، وأصبح الإرهاب الصهيوني بقدرة قادر المقاومة اليهودية الفلسطينية.
كان هناك ترحيبٌ طوعي بفكرة الدولة اليهودية في الأوساط الديجولية بشكلٍ خاص، باعتبارها تحِدّ من النفوذ البريطاني في فلسطين. بعد تأميم قناة السويس عام 1956 زاد التقارب الفرنسي الإسرائيلي، حيث وصل بيع الأسلحة الفرنسية لتل أبيب مستويات قياسية بعد 1959، وكانت فترة السنوات العشر (1956-1966) هي مرحلة العَلاقات الذهبية بين فرنسا والكيان الصهيوني.
إلا أن تبدلًا في الاتجاه بدأ يظهر عام 1962 بعد استقلال الجزائر وتحسين فرنسا لعَلاقاتها مع الدول العربية وتصديها للنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، حيث فرض شارل ديجول بعد عدوان 1967 حظر تصدير السلاح لإسرائيل، التي كانت تعتمد وقتها على فرنسا اعتمادًا شبه كامل في كل ما يتعلَّق بالتسليح. اتهمت الأوساط الصهيونيَّة ديجول بمعاداة الساميَّة.
لعبت الأصوات اليهوديَّة دورًا في فشل ديجول في انتخابات 1969، وخصصت أموالًا يهوديَّة طائلة لتمويل الحملة المضادة للديجوليين. لم يستطع جورج بومبيدو وجيسكار ديستان المحافظة على الخط الديجولي، فقدَّموا التنازلات تدريجيًا، حيث جرى تخفيف الحظر وبيع طائرات الميراج على شكل قطع غيار، إلى أن أُلغِي الحظر نهائيًا عام 1974، وعلى الرغم من أن بومبيدو أبعد ما يكون عن اللاساميَّة باعتباره أمضى جزءًا كبيرًا من حياته مديرًا لمصرف عند آل روتشيلد، إلا أن مجموعة من اليهود الأمريكيين اعترضته أثناء زيارته للولايات المتحدة 1970 وهددوه وأهانوه مع زوجته ودفعوهما بالأيدي.
أما ميتران فما استقر في الإليزيه حتى هدأ صراخ اليهود الفرنسيين، ولاح لهم البيرق اليهودي، المُرصَّع بنجمة داود، يرفرف على برج إيفل وقوس النصر. لا يمكن فهم الحب الجارف للكيان الصهيوني من جانب ميتران بدون فهم مستشاره اليهودي الاشتراكي الصهيوني جاك أتالي عرَّاب إسرائيل والرجل الأول في اللوبي الصهيوني في فرنسا، والذي كان سيِّد اللعبة في الإليزيه من خلف الكواليس.
تاريخ ميتران نفسه يُفسِّر تحيُّزه السافر للكيان. عمل ميتران كوزير داخلية في حكومة بيير منديس فرانس اليهودي الداعم لإسرائيل. زار الكيان الصهيوني عِدَّة مرات ما بين عامي 1949 و1980، ولكن جاءت زيارته عام 1982 كأول رئيس فرنسي بل أوروبي يزور الكيان لتشطب خمسة عشر عامًا من السياسة الديجولية تجاه العرب. كان ميتران السكرتير الأول للحزب الاشتراكي، ووله الاشتراكيين الفرنسيين بالصهيونية كان معروفًا منذ علاقات ليون بلوم الماسوني الصهيوني صاحب كتاب (الزواج) الإباحي بوايزمان. كان بلوم من مؤسسي (الوكالة اليهودية الموسعة) سنة 1929، إضافة إلى أن التصويت اليهودي في الانتخابات الرئاسية يذهب لليسار الاشتراكي.
ما كانت سياسات فرنسا ذات الماضي الاستعماري الاستيطاني لتحابي العرب على حساب إسرائيل لا في عهد ديجول ولا غيره، لكن جاء ميتران ليصبح من حيث يدري أو لا يدري مجرد مرشد ديني للجالية اليهودية، جاء ليرفع الناخبون اليهود قبعاتهم السوداء، عالية إلى السماء، مبتهلين إلى تعاليم ميتران الاشتراكية، وهم يلعنون بالهمس والتمتمة، سلفه جيسكار ديستان الذي ترجَّح بين حب اليهود تارة والانبهار بمجوهرات بوکاسا تارة أخرى.
المحطة
إضافة تعليق جديد