الملكة فيكتوريا أقوى امرأة في تاريخ بريطانيا
قلة من النساء من ساقتهن الأقدار إلى كرسي الحكم، وقلة منهن منْ استطاعت الحفاظ عليه، ومن هذه القلة هناك أسماء معدودة تمكنت من تحقيق إنجازات يذكرها التاريخ، وأبرز هؤلاء الملكة فيكتوريا، ملكة بريطانيا العظمى، وإمبراطورة الهند، التي حكمت بريطانيا أكثر من ستة عقود، كانت فيها ذات قوة وحكمة لا تُبارى، حتى يمكن وصفها بأنها «أقوى امرأة في تاريخ أوروبا».
وُلدت ألكسندرينا فيكتوريا في الرابع والعشرين من مايو (أيار) 1819، كان اسم أمها فيكتوريا أيضًا، وكانت ابنة دوق ألماني، أما أبوها فهو الأمير إدوارد دوق كنت، وكان رابع أبناء الملك جورج الثالث، الذي حكم بريطانيا ستة عقود، وهو الملك الذي انفصلت في عهده الولايات المتحدة الأمريكية عن التاج البريطاني.
وعلى الرغم من أن جورج الثالث أنجب 15 طفلاً، فإن إدوارد الذي لم يكن أكبر أشقائه، كان على قناعة بأن التاج سيؤول إليه وإلى نسله، وكان يقول عن ابنته حين يلاعبها وهي صغيرة: «اعتنوا بها فإنها ستصير ملكة إنجلترا يومًا ما».
لم يطُل العمر بإدوارد ليتربع على عرش البلاد كما كان يتمنى، فقد أصابه التهاب رئوي أودي بحياته في شتاء عام 1820، فنشأت فيكتوريا يتيمة الأب، لكن أمها قامت على تربيتها تربية صارمة، وأخذت تعلمها فنون الملك ودروس السياسة والتاريخ، وتعلمت الألمانية والفرنسية والإيطالية واللاتينية مع آداب اللغة الإنجليزية والرسم والموسيقى.
كل الذين قابلوا فيكتوريا في صغرها أطنبوا في مدحها، وذكروا أنها كانت تتحلى بالنباهة والهدوء والرزانة والصرامة الأخلاقية، ويُحكى أن معلمتها عرضت لها شجرة العائلة المالكة ذات يوم، فلما رأتها قالت: «إذن أنا أقرب إلى المُلك مما كنت أظن. هذا طريق فيه مجدٌ كثير وفيه تعب أكثر» ثم رفعت يدها وقالت: «أما أنا فسأسير السير الحسن».
في تلك الأثناء كان جورج الرابع، عم فيكتوريا يتولى حكم البلاد من 1820 حتى 1830، وبعد وفاته خلفه عمها وليم الرابع، وكانت له ابنتان، توفيتا في حياته، وحينها لم يكن في الأسرة الحاكمة أبناء شرعيون مستحقون للعرش، فصارت فيكتوريا ولية للعهد، وما لبث وليم الرابع أن تُوفي في عام 1837، فجرى استدعاؤها إلى القصر الملكي، حيث صارت صاحبة التاج البريطاني وهي في عمر 18 عامًا.
«وإني رُبِّيتُ في البلاد الإنجليزية، ربتني أمي بما يعهد فيها من الحنو والذكاء، وهي أشد الأمهات حبًّا، وتعلمت من حداثتي أن أحترم قوانين بلادي وأحبها، وسيكون غرضي الدائم أن أحتفظ الاحتفاظ التام بالديانة التي قررتها الشرائع مذهبًا لهذه البلاد، مبيحة لكل أحد الحرية الدينية وأحمي حقوق كل رعاياي وأزيد من راحتهم ورفاهتهم بكل جهدي»*الملكة فيكتوريا في أول خطاب لها بعد توليها العرش
كان تتويج فيكتوريا حدثًا ضخمًا، وفي حين كان حفل تتويج الملوك قبل ذلك مقصورًا على طبقة النبلاء فقط، فقد فُتح الباب هذه المرة أمام عامة الشعب الذين اصطفوا على جانبي الطريق لمشاهدة موكب الملكة الشابة.
في ذلك العام كان عدد سكان لندن قد تضاعف عدة مرات، ليبلغ عدد زائري المدينة في ذلك اليوم نحو 400 ألف شخص، قدم أغلبهم عبر السكك الحديدية حديثة الإنشاء، واستمرت الاحتفالات في العاصمة لأربعة أيام، وبلغ حجم إنفاق الحكومة على الموكب وحده نحو 70 ألف جنيه إسترليني
فيكتوريا تصنع تاريخ بريطانيا العظمى
انتقلت فيكتوريا إلى قصر الحكم، وانتقلت أمها معها، لكن الملكة الشابة سُرعان ما قررت التحرر من سلطة أمها، فجعلتها تقيم في جانب آخر من القصر، حتى لا يُقال إن الأم هي من تدير دفة البلاد، في المقابل، شهدت السنوات الأولى من حُكم فكتوريا تصاعد نفوذ مربيتها ومعلمتها لويز لهزن، التي قربتها فيكتوريا، لثقتها بها وحبها لها، وجعلتها بمثابة سكرتير غير رسمي لها.
كما كان اللورد ميلبورن، وهو سياسي من حزب الأحرار (كانت الحياة السياسية البريطانية في ذلك الوقت سجالاً بين حزب الأحرار والمحافظين) رئيسًا للوزراء في عهد وليم الرابع، وثبتته فيكتوريا في منصبه، فكان بمثابة ناصحها الأمين والمستشار الأول لها ومصرف دولتها.
وفي العاشر من فبراير (شباط) 1840، زُفت الملكة فيكتوريا إلى الأمير ابن خالها الأمير ألبرت، الذي كان الابن الثاني من أبناء الأمير إرنست دوق سسكس كوبرج، ولم يُشكل هذا الزواج نُقطة تحول في حياة الملكة فيكتوريا الاجتماعية فحسب، بل في مسيرة الأمير السياسية أيضًا.
إذ لم يمض وقت طويل حتى صارت الملكة تعتمد على رأيه في كثر من أمور السياسة والحكم، حتى أن اعتمادها على اللورد ميلبورن قد قل بشكل كبير، وتعاقب من بعده على رئاسة الوزراء عدة أشخاص، كانت فيكتوريا تحسن سياستهم وتوجيههم.
ورغم أن إنجلترا كانت في ذلك الحين ملكية دستورية -تُسيّر الحُكومة المشكّلة فيها من طرف البرلمان المنتخب شؤون البلاد الداخلية والخارجية وفقًا للدستور-، فإن كلاً من الملكة فيكتوريا وزوجها الأمير ألبرت كانا على قناعة بأن الملك يجب أن يلعب دورًا فعالاً في السياسة البريطانية.
في ذلك الوقت كانت الساحة السياسية البريطانية تعاني من أوضاع متقلبة باستمرار، إذ لم يكن باستطاعة أي حزب الهيمنة على البرلمان، بل تكونت باستمرار سلسلة من التحالفات المؤقتة بين المجموعات المتشرذمة، ما كان يجعل من التدخل السياسي الفاعل من طرف صاحبة التاج أمرًا ضروريًا في كثير من الأحيان، الأمر الذي أتاح للملكة لعب دور سياسي جوهري في البلاد.
علم ألبرت زوجته كذلك أهمية أن تتسامى فوق الخلافات الحزبية، فبعد أن كانت الملكة في بداية حكمها تميل صراحة إلى تيار «حزب الأحرار» الذي كان يميل له والدها -ما كاد يوقعها في مشكلات سياسية أكثر من مرة-، أصبحت تحاول الحفاظ على توازن دقيق بين الأحزاب، كما هو متوقع من «ملك دستوري».
فكان للأمير ألبرت أعظم الأثر في مسيرة فيكتوريا، وحين توفي بالحمى التيفودية عام 1861، انكفأت فيكتوريا على نفسها، ودخلت في عزلة طويلة استمرت حوالي 10 سنوات، وتخلفت عن حضور الكثير من المهام والواجبات الرسمية، وارتدت الملابس السوداء حدادًا على زوجها، وكانت تقضي أوقاتًا طويلة وحيدة منعزلة في قلعة «وندسور»، وزاد ذلك من شعبية أصحاب التوجهات الجمهورية الذين أطلقوا عليها «أرملة وندسور»، لكن الملكة عادت للظهور مجددًا منذ عام 1972.
هكذا حافظت فيكتوريا على بقاء التاج البريطاني
مع تضاؤل تدخلها في الحياة السياسية بعد وفاة ألبرت، كانت قيمة الملكة الرمزية تنمو في عقول الشعب، مع أن توجهات فيكتوريا لم تكن «ديمقراطية» تمامًا، بل كانت تعارض حق المرأة في التصويت، لكن سياستها الهادئة والدؤوبة في آن معًا، كان لها فضل كبير في استقرار النظام الملكي في بريطانيا واستمراره حتى يومنا هذا.
فبعد عقود من الاضطراب والقطيعة بين التاج والشعب، جاءت فترة حكم فيكتوريا لتستعيد الاحترام الواسع للملكة بين الطبقة السياسية والعامة على السواء، لتتمكن في النهاية من العبور بالتاج إلى بر الأمان، في فترة تاريخية كانت الاتجاهات الجمهورية قد عصفت بالملكيات في أوروبا.
وأنجبت فيكتوريا من ألبرت تسعة أبناء، مات منهم ثلاثة في حياتها، ما كان مصدرًا لمحنة نفسية أخرى لازمتها حتى وفاتها، وربتهم على الجدية وتحمل المشاق، فكان الصبيان يعملون مع العمال في بستان قصر وندسور، ويأخذون أُجرة مثلهم.
أما البنات فكن يتدربن على الأعمال المنزلية بما فيها الطبخ، ويوزعن ما يطبخنه على الفقراء، ومن حين لآخر كانت الملكة تمضي بأولادها إلى الكنيسة للاستماع إلى مواعظ رجال الدين، وكأنها تريد أن تربيهم بالطريقة ذاتها التي تربيت بها.
واستمرت فيكتوريا أكثر من 63 عامًا في حكم بريطانيا حتى توفت عام 1901، لتصير بذلك صاحبة ثاني أطول فترة حكم في تاريخ ملوك بريطانيا بعد أن تجاوزتها الملكة الحالية إليزابيث الثانية، حتى أن المؤرخين قد أرخوا لفترة حكمها باسمها، فسمي ذلك العصر بـ«العصر الفيكتوري».
وفي عهدها، بلغت الإمبراطورية البريطانية أقصى اتساع لها شرقًا وجنوبًا، وضمت أراضي الهند حتى حملت لقب «إمبراطورة الهند»، وارتفع عدد السكان الذين يحكمهم التاج البريطاني من 167 مليونًا إلى أكثر من 400 مليونًا من أديان وأعراق شتى، وتحولت بريطانيا بفعل سياستها إلى امبراطورية «لا تغيب عنها الشمس».
وكانت الملكة فيكتوريا تشارك شعبها في السراء والضراء، فحين حصلت مجاعة عام 1847 بسبب نقص الغلال، عملت على جمع المساعدات للمحتاجين، وتبرعت بجزء كبير من مالها الخاص، وأمرت ألا يُستخدم الدقيق الفاخر في قصرها، فاقتدى بها الكثيرون من الأثرياء مؤازرة للمنكوبين
وقبل سنوات قليلة، تمكنت الكاتبة شاراباني باسو، واعتمادًا على مذكرات ويوميات حصلت عليها بخط الملكة فيكتوريا نفسها، من إثبات علاقة وطيدة جمعت الملكة العجوز في آخر أيامها بشاب مسلم يُدعى عبد الكريم، قدم من الهند ليكون خادمًا لدى المائدة الملكية، ولكن فيكتوريا أعجبت به، وبعلمه وثقافته وارتقائه الروحي، فتعلمت على يديه اللغة الأردية التي كان يستخدمها المسلمون في الهند، وظل عبد الكريم بمثابة المعلم الروحي للملكة في آخر أيامها حتى أنها كانت تنعته بـ«الابن البار»، وتنهي خطاباتها إليه بإمضاء «أمك العزيزة» و«أمك المُحبة».
ساسة بوست
إضافة تعليق جديد