أيمن أبو الشعر يهدينا ذاكرته كي لا تغادر معه
الجمل ـ عماد عبيد:
الراجح في مدونات السيرة وفي نثيث الذكريات، أن نقرأ للذين اصطخبت تجربتهم، وحملت معها الرائز من غنى الفكر والمعرفة، والغائب من أسرار الأخبار، والجميل من خصوصية الأحداث، حين تأتي مرصعة بالماتع من شدو الكلام، فأدب السيرة يكاد يتجاوز فن الرواية في الجذب والتشويق، لأنه يبقينا في صدقية الواقع، ولا يتركنا أسرى لأفراس الخيال، سيما إن كانت التجربة غنية وتستحق عناء التدوين، كما تستحق تجشم القارئ للسفر مع عوالم الكاتب والأمكنة والشخصيات المرصودة في هذا البوح الوجداني الأثير.
عن موقع (الكتيبة) وهو مجلة رقمية مستقلة تديرها جمعية (تكلم لأجل حرية التعبير والإبداع)، موقع تونسي الجنسية، عالمي الهوية، جدي التناول في محتوياته، ورصين الخطاب، كما أنه ملتزم بثوابت الديمقراطية والرأي الآخر وحقوق الإنسان، كما هو معلن في ملف التعريف عنه. عن هذا الموقع صدر الكتاب الالكتروني للصديق الشاعر والإعلامي أيمن أبو الشعر تحت عنوان (كي لا تغادر معي) في 280 صفحة، وهو عبارة عن (بيوغرافيا) تتضمن محاورا أو فصولا سردية بضمير المتكلم تحكي بعضا من سيرته وتعرج إلى تجربته الحياتية الشخصية وفقا للانطباعات الذاتية للكاتب، يحدثنا عن أسماء وازنة مر بها، وأحداث نوعية تستحق الوقوف عندها، وأراء أدبية وفكرية جناها في حصاده الزماني والمكاني لأيامه المعاشة.
تبدو عتبة العنوان (كي لا تغادر معي) مخاتلة ومدهشة في وقعها ودلالاتها، فيتبادر إلينا السؤال: من هو ذا الذي يجب ألا يغادر معه؟ إلا أن الكاتب ينقذ قارئه بعد استدراجه وتوريطه بالقراءة مسافة لا بأس بها، حين ينوه إلى كتاب قيّم للكاتب الأمريكي (تود هنري) عنوانه (مت فارغا)، خلاصته أن على الإنسان ألا يرحل مخبئا ثراوته الفكرية والمعرفية وتجاربه الحياتية، بل عليه أن يدونها لتكون أثرا باقيا له، لربما ضاع منها نفثات بوح وجداني لسريرة الكاتب ترضي روحه الصابية إلى المكوث في الزمان، وتعطر المكان للآخرين العازفين عن الغياب.
تبدأ مسيرة الكتاب بمحور – أو لنسمه فصلا - يحمل اسم العنوان (كي لا تغادر معي)، نقرأ فيه سيرة الكاتب مع عرض (بيبلوغرافي) لرحلته الأدبية، نتعرف من خلالها على ولادته في حي فقير في دمشق وحصار الجهل والضنك وضغط الأعراف والتقاليد ومكابدته لصروف الأيام، وينتقل إلى توجهاته السياسية وانخراطه بالعمل الحزبي في اتحاد الشباب الديمقراطي واستمراره مع الحزب الشيوعي السوري، ودراسته وبواكير نشاطاته الأدبية والشبابية وتأسيسه لفرقة (سبارتكوس) المسرحية، وعمله بالتدريس في مدينة حلب، وسفره إلى الاتحاد السوفييتي للدراسة ومن ثم العمل هناك، مع التنويه لأهم إصداراته الأدبية.
في الفصل الذي يليه نقرأ مقالا أدبيا للكاتب بعنوان ( ملامح مدهشة من صراع الأجيال الثلاثة في الشعر العربي الحديث) يتحدث فيه عن المعارك الخلافية بين ثلاثة أجيال أدبية في مصر، بين أحمد شوقي وعباس محمود العقاد أولا، ومن ثم بين عباس محمود العقاد والشاعرين صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي باعتبارهما من رواد الشعر الحر الذي هاجمه العقاد، وفيه تفصيلات جميلة عن تلك المشاحنات وهوامشها وأثرها على الساحة الأدبية في مصر، كما يرصد لنا لحظة وفاة الشاعر صلاح عبد الصبور الذي واتته نوبة قلبية في بيت أحمد عبد المعطي حجازي إثر اتهامه من قبل أحد الحاضرين (الرسام بهجت عثمان) بالخيانة لموالاته عهد السادات، ومات على أثر تلك النوبة، ويختم المقال باللقاء بين الكاتب والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في زيارته لمصر.
الفصل الثالث يحمل عنوان (انطباعات حول اليسار السوداني ومبدعيه)، فيستهل الكاتب هذا المحور ببدايات علاقاته ببعض الشباب السوداني في حلب وسرعة الانسجام بينهما، ومتابعته لأخبار السودان إبان الانقلاب الذي قام به ضباط يساريون، وفشل الانقلاب واعدام النميري للقائد الأممي (عبد الخالق محجوب – الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني) الذي هز كيانه وحرضه ليكتب نشيد (المجد للصمود) ثم يعرج على لقاءاته مع أعلام الأدب السوداني كالشاعر الكبير (محمد الفيتوري) وحواراتهما معا، ثم يصف لقاءه بالشاعر التقدمي (جيلي عبد الرحمن) بين موسكو وعدن وإعجابه به.
في فصل جديد ينتقل الكاتب لتدوين (انطباعات أولى حول تجربة اليمن الديمقراطي) كما جاء في العنوان، فيفرش للقارئ رؤية بانورامية موجزة لتاريخ اليمن والصراع لأجل الاستقلال ليصل إلى التقسيم، ثم يسهب بالحديث عن اليمن الجنوبي والخلاف بين الرفاق وتنحي الرئيس (عبد الفتاح إسماعيل) وانتقاله للعيش في موسكو، ويصور لنا لقاء التعارف بينهما واستمرار التواصل وازدياد الحميمية ليفاجئنا بأن الرئيس (عبد الفتاح إسماعيل) يقرض الشعر أيضا وله مجموعة شعرية تحمل اسم (نجمة تقود البحر)، وفي موسكو أيضا يصف لقائه بالرئيس (علي ناصر محمد) الذي دعاه لزيارة اليمن، وتمت الزيارة واحتفي بالكاتب بأمسية شعرية له في (خور مكسر) ودعوته من قبل الرئيس (علي ناصر محمد) على حفل غداء، إلى أن يصل إلى عودة الرئيس (عبد الفتاح إسماعيل) إلى اليمن وحدوث المجزرة الرهيبة التي أودت بحياة الرئيس إسماعيل، ثم اللقاء فيما بعد بالرئيس الجديد (علي سالم البيض)، وفي هذا الفصل الكثير من التفاصيل المهمة التي يرويها (أبو الشعر) في انطباعاته عن لقاءاته بشخصيات سياسية وأدبية يمنية وعن زياراته لليمن.
إلى فصل جديد شيق ومؤثر بعنوان (انطباعات أولى عن بعض رموز الابداع الفلسطيني) يتحفنا الكاتب بلقاءاته مع أهم رموز الأدب الفلسطيني في تلك الحقبة، يبدأ مع الشاعر الجميل (معين بسيسو) حيث التقاه في مهرجان الشعر العربي في دمشق عام 1971 -كما يتذكر- ودعوته إلى بيته بحضور الناقد المهم (محي الدين صبحي) ثم معاودة اللقاء في موسكو في بداية الثمانينات، ويذكره الكاتب بالكثير من الإعجاب، بأريحيته وصدقه وموضوعيته وأناقته، وينتقل إلى الحديث عن الشاعر الفلسطيني المقاوم (سميح القاسم) واللقاء الحافل بينهما في موسكو، يذكر عنه كم كان مرحا وحيويا وصاحب النكتة المفاجئة، اقتربا وتآلفا كأنهما صديقان منذ الطفولة، وتعرفه أيضا إلى الشاعر (سالم جبران) عن طريق الدكتور (نبيه رشيدات – عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري) فيصفه (شاعر ومناضل يساري حتى في كل خلاياه)، وكان اللقاء مختلفا مع الروائي الفلسطيني الكبير (أميل حبيبي) في موسكو أيضا، فبالرغم من الإعجاب بثقافته الواسعة وشواهده الحاضرة، إلا أن الرؤية السياسية لكليهما كانت متباينة، حيث يرى (حبيبي) في البرسترويكا إنقاذا للاتحاد السوفيتي -وكانت في بدايتها- بينما استشرف الكاتب أنها الفاجعة الحقيقية، وينهي هذا الفصل بعرض مطول عن لقائه بالشاعر الفلسطيني العظيم (محمود درويش) الذي كان أو من زار الكاتب إلى بيته بعد حادثة الاعتداء عليه وخروجه من المشفى، ذاك اللقاء المفاجئ هطل كغيمة فرح على الكاتب، أعقبه بعد يومين لقاء في سهرة على شرف الشاعر الكبير في بيت (أيمن أبو الشعر) بحضور عدد من الكتاب الفلسطينيين يذكر منهم (فيصل حوراني – محمد الشاعر – يحيى يخلف) ورفاق ورفيقات الكاتب، وكانت سهرة صاخبة بالحوارات والأجواء الأدبية والفنية، وتكررت اللقاءات في دمشق وحمص وموسكو، ويذكر الكاتب الكثير من التفاصيل المهمة والحوارات التي جرت في تلك اللقاءات.
(محطات تأملية حول تجربتي الشعرية والحياتية السياسية) عنوان لفصل جديد في هذا الكتاب، يتوقف فيه الكاتب عند شخصيات أدبية كبيرة وفاعلة التقاها في حياته، يبدأ من الشاعر الكبير (بدوي الجبل) وزيارته إلى بيته في حي أبي رمانة، ثم تعرفه إلى الشاعر الكبير (محمد مهدي الجواهري) إبان مهرجان دمشق الشعري 1971 وزيارته له إلى الفندق الذي نزل به في دمشق، ويعرج إلى اللقاء بينه وبين الشاعر العراقي (عبد الوهاب البياتي) ويصف لنا تلك الجفوة والتنافر بين البياتي والجواهري، ليختم هذا الفصل بسرد مسهب عن الشاعر الكبير (نزار قباني) كيف تم التعارف؟، واللقاءات اللاحقة المتعددة والحوار التلفزيوني الذي أجراه معه، ويظهر إعجابه الشديد به، ويدافع عن الاتهامات التي طالت نزار بأنه شاعر برجوازي أو شاعر المرأة السلعة، ... ولعل التفاصيل المشوقة في سرد هذه اللقاءات والانطباعات عنها يصعب تطويقها وعرضها لغناها وفرادتها.
(الصوفية علمتني الإيقاع) بهذا العنوان يعود الكاتب إلى ذاته ويحدثنا عن جوانب حياتية مؤثرة في تشكيله وبناء شخصيته، فيأخذنا إلى مدراج الطفولة في حارة (زقاق الأولياء) على سفح جبل قاسيون، ويصارحنا بطفولته المعذبة بين الفقر وبيئة الجهل المحيطة وتفشي الخرافات وحكايا الجن، تفاصيل مذهلة قد يفسد الخوض فيها هنا متعة قراءتها، لكن الحادثة الأبرز يوم طلب منه عمه الذهاب إلى المسجد والاستغفار عن ذنب ارتكبه، وهناك التقى بفرقة من الدراويش تؤدي طقوسا احتفالية صوفية، فجرب أن يقلد الراقص ذو الثوب الطويل الفضفاض، وأثناء الدوران شعر (أنني أسبح في الفضاء، وتجاوزت الغيوم، وارتسمت في الأفق مشاهد أسطورية ساحرة....إلخ) ثم سقط وأغمي عليه، ومنذ ذلك الوقت أضحى الإيقاع والموسيقى في الحياة والشعر هاجسه الدائم. لتمتد الذكريات إلى سفره إلى لبنان للعمل منقطعا عن الدراسة لتأمين مصروفه، وحبه الأول هناك، وتداعيات تلك الفترة وأثرها عليه خاصة من الناحية العاطفية.
في فصل (الحاجة أم الاختراع) يتابع الكاتب سرد المهم من سيرته الشخصية متحدثا عن استئنافه للدراسة ونشاطاته الأدبية والفنية والحزبية، لاسيما المسرح، وعمله مع عدد من الوجوه المسرحية المهمة أمثال (فرحان بلبل – سمير الحكيم – عادل شكري – وغيرهم) ويصف بدقة حالة الاعتداء عليه التي كان القصد منها اغتياله لولا تدخل القدر، وينقلنا إلى (هافانا) العاصمة الكوبية، في رحلته للمشاركة في مهرجان الشباب العالمي وانطباعاته عن تلك الرحلة المثيرة.
(في جامعة الصداقة) نقرأ فصلا شيقا عن مرحلة ناضجة من حياة الكاتب، فالسفر كان بقصد الدراسة، لكن ذلك لم يثنه عن مواصلة نشاطاته الأدبية وسرعة انسجامه وبناءه لصداقات جامعة مع جنسيات شتى، حيث أضحت تلك الفترة علامة فارقة في تكوينه المعرفي والثقافي والأدبي خاصة، ففيها تعرف على شخصيات سياسية مهمة كقادة اليمن وأدباء عالميين كالروائي الكبير (جنكيز إيتماتوف) وشاعر داغستان الكبير (رسول حمزاتوف) وهذا الفصل زاخر بالتفاصيل المشوقة عن تلك المرحلة.
الفصول الأربعة الأخيرة على التوالي (حقائق تاريخية لا يجوز نسيانها – تسارع خطوات التدمير – مسار التدمير – بوتين منقذا) يخصصها الكاتب للحديث عن الاتحاد السوفييتي، فيبدأ بذكر الإيجابيات التي تحققت عندما كان الاتحاد السوفييتي في زهوته، سواء حول التوازن العالمي إبان سياسة القطبين، أو انعكاسها على حياة الفرد في التعليم والسكن والطبابة والفن والأدب، لكنه لا يغفل السلبيات بدءا من الفردية في الحكم والبيروقراطية المتحكمة بسيرورة النهج الحكومي، مرورا بالفساد وانتهاء بالخيانة، فيرصد لنا مراحل تفكك الاتحاد السوفيتي منذ وصول (ميخائيل غورباتشوف) إلى السلطة، وتجهيزه (لبوريس يلتسين) وانقلاب هذا الأخير عليه بطريقة مسرحية، ومجيء (فلاديمير بوتين) الذي غير المسار وبدأت روسيا تستعيد دورها العالمي، مشيرا إلى العلاقة مع أوكرانيا وكيف بدأ الغرب يصنع من أوكرانيا عدوا مجاورا لروسيا، مؤلبا نظامها ضد الانطلاقة الجديدة لروسيا، وداعما للتوجهات النازية والمتطرفة للأوكرانيين، وقد استشرف الكاتب حدوث الحرب الروسية الأوكرانية قبل وقوعها، لأن الأزمة وصلت ذروتها، ووضعت روسيا تحت خيار أوحد إما الحرب أو الحرب، لأن الحل الآخر يعني حصار روسيا وخنقها على البطيء، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكاتب لم ينف عن روسيا دورها الجديد كبلد رأسمالي يعيش ويمارس سياسة رأسمالية عالمية.
حين أرسل لي الصديق الأديب أيمن أبو الشعر رسالة مع رابط التحميل للموقع الناشر للكتاب، وبعد تحميله وقراءته بشغف، لفتني سلاسة الأسلوب واتسامه بالتشويق حيث تكرج فيه الأحداث بمتعة وانسياب، رأيت أن أكتب عنه بطريقة العرض والتعريف دون التدخل في الآراء الواردة بمتنه، ولا نقدها أو مناقشتها، كما لم اسع إلى الغور في التفاصيل والجزئيات الكثيرة والمهمة وعرضها، لضيق المساحة، وكي لا أسرق متعة القراءة من القارئ، فهذا العرض لا يغني عن قراءة الكتاب، ولأترك للقارئ أن يستخلص رأيه الخاص وانطباعاته بحيادية وشفافية، فالسمة الأساسية لهذا الكتاب تأتي من صراحة الكاتب واعترافه بأن ما يكتبه من أراء وتقييمات هي انطباعات ذاتية شخصية لا تطلق أحكاما جاهزة ولا تقيد الآخرين بها، لكنه يثق بمنطقية طرحه ومعاينته للوقائع على الأرض تلك التي عايشها ورصدتها حواسه، أيضا يؤكد الكاتب أن هذه المذكرات يستجمع معظمها من الذاكرة، فهي تعود لأكثر من خمسين سنة خلت، وإن حصل خطأ في بعض التواريخ أو الأسماء أو الأمكنة فهو ناتج عن خيانة الاستذكار لكن المحتوى هو الأهم، والكتاب مدعم بالصور والأشعار والأقوال المرافقة للأحداث والموثقة لها.
بقي أن أقول إن كتابات السيرة والمذكرات (البيوغرافيا) هي أكثر الكتابات الرائجة في الوسط الثقافي، خاصة للشخصيات والأسماء من أصحاب التجارب والسير الحافلة، وتأتي قيمتها من غناها أولا، وصدقيتها ثانيا، وما تحمله من جديد وشائق وربما الأسرار اللذيذة.
إضافة تعليق جديد