حروب الجيل الرابع.. المُسيّرات الإيرانية نموذجًا
أعقاب نهاية الحرب الباردة، عرف العالم وخصوصاً الشرق الأوسط تحولات بنيوية-مفهومية في أشكال الحروب، حيث انتشرت في الشرق الأوسط الحروب غير التقليدية والتي أصبحت فيما بعد تشكل هاجساً أمنياً وتحدياً صارخاً للدول الإمبريالية – القوية، في حين غدت الأساليب غير التقليدية ملجأ للدول التي تفتقر إلى الإمكانات العسكرية التقليدية – المتقدمة وعلى رأسها إيران التي خرجت منهكة من حربها مع العراق (1980 ـ 1988).
إن الحرب العسكرية التي فُرضت على إيران وما تلاها من حصار اقتصادي (عربي وغربي) دفعا بإيران – الثورة إلى تبني استراتيجية تستغني فيها عن الغرب في معظم الصُعد وخصوصاً العسكرية، لترسي مع آخرين نظريات عسكرية جديدة تساهم في تعزيز أمنها وأمن حلفائها الإقليميين في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. وهذا ما بدا لاحقاً في الانجازات العسكرية الدفاعية على المستويات البرية والبحرية والجوية.
وقد استطاعت إيران على مدى أربعة عقود أن تحوّل كل هذه الكدمات إلى فرصة لشحذ الهمم وتحويل المجتمع تدريجياً من مستهلك للمعرفة إلى منتج للمعرفة في شتى المجالات. وقد نشر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى دراسة مثيرة للجنرال الأميركي كينيث ماكنزي، القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية، أثار فيها مسألة خطورة المُسيّرات الإيرانية والصواريخ البالستية: “زادت إيران بشكل كبير مخزونها من الطائرات المُسيّرة، وصواريخ كروز، والصواريخ البالستية إلى درجة أنها تفوّقت على الدول المجاورة في هذا المجال – أي قدرتها على شن هجوم يطغى على دفاعات هذه الدول. وقد يترتب على ذلك حصيلة تُعادل حرباً جوية بمزيج من الأسلحة، حيث يمكن إطلاق الطائرات المُسيّرة لتدمير أنظمة رادار العدو قبل إلحاقه بهجمات بالصواريخ البالستية”.
وأشار الجنرال الأميركي إلى أنّ الطائرات المُسيّرة الإيرانية من دون طيار “تشكل الآن الخطر الأكثر إلحاحاً على أمن الشرق الأوسط بسبب تكلفتها المنخفضة وانتشارها على نطاق واسع”.
إن طفرة تكنولوجيا المُسيّرات (Unmanned Aerial Vehicle) التي استطاعت إيران أن تصل إليها، وضعت كلاًّ من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل على المحك. إن موضوع المُسيّرات شكّل عنصر قلق كبير لدى الغرب وخصوصاً عندما ظهرت آثاره بنحو واضح في لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين.
لذا، أقرّت الولايات المتحدة الأميركية على لسان قادتها العسكريين أنه لم يعد هناك تفوق جوي كما كان في السابق، فالمُسيّرات شكّلت انعطافة تاريخية في طبيعة الحرب الجوية. قد يكون الغرب متقدماً على إيران في هذا المجال بأشواط، وقد يلجأ كُثر إلى المقارنة في سياق التفوق الغربي الواضح، بيد أن هذه المقارنة غير موضوعية، فالتراكم المعرفي في إيران لم يتعدّ الأربعين عاماً، ووصل إلى هكذا نتائج. بينما هناك دول استعمارية كبرى قامت على النهب المتراكم لثروات الشعوب واستغلالها في كافة الميادين العسكرية والعلمية والإقتصادية ولها تاريخ يمتد منذ ما قبل الحروب العالمية التي شهدها القرن الماضي. ما نود قوله هنا، هو أن قفزات التطور المتسارعة التي تُحققّها المؤسسات الصناعية العسكرية الإيرانية قياساً بانجازات المعسكر المقابل لها هي جوهر الموضوع، وما يُقلق الغرب ليس السلاح بحد ذاته إنّما الرؤية البعيدة المدى للقادة الإيرانيين فيما لو استمروا في نفس المسار التصاعدي بعد عقد أو عقدين من الزمن.
“إن كنت تعرف قدراتك وقدرات خصمك، فما عليك أن تخشى من نتائج مائة معركة. وإن كنت تعرف قدرات نفسك، وتجهل قدرات خصمك، فلسوف تعاني من هزيمة ما بعد كل نصر مُكتسب. أما إن كنت تجهل قدرات نفسك، وتجهل قدرات خصمك.. فالهزيمة المؤكدة هي حليفك في كل معركة“. (من كتاب فن الحرب – صن تزو). يُلاحظ أنّ إيران ترتكز في قوتها الردعية على الصواريخ البالستية والمُسيّرات على اختلافها، وهذا يعود إلى طبيعة موقعها على الخريطة الجيوسياسية وطبيعة تحالفاتها، حيث لا يوجد أعداء تقليديون عند حدودها، بمعزل عن بعض الحوادث الحدودية التي تحصل بين الحين والآخر. أدرك القادة العسكريون الإيرانيّون منذ حرب الخليج الأولى أن الاستثمار في مسألة المُسيّرات سيرخي بظلاله على طبيعة الحرب الجوية في العقود المقبلة. منحت تكنولوجيا المُسيّرات لإيران القدرة على تعزيز مكانتها عسكرياً، والتعويض عن ضعفها في مسألة الطائرات المقاتلة، لذلك ارتأت أن تبني قدراتها العسكرية على قاعدة اللا-تماثل. لذا، تعتمد ايران في بناء أنظمتها العسكرية المتقدمة من جهة على الكفاءات المحلية والإستعانة بالخبرات من الدول الصديقة، وعلى اعتماد أسلوب الهندسة العكسية (Reverse Engineering) من جهة أخرى، وهي عملية يتم فيها تفكيك الآلات والبرامج والآلات والطائرات وذلك بغية استخراج معلومات التصميم، وبفضل هذه العملية، يمكن إعادة تصنيع المنتج نفسه.
مَنْ يسبق مَنْ؟ وعلى ذكر الهندسة العكسية، ففي العام 2011 أسقطت إيران الطائرة الاميركية التجسسية (RQ-170 Sentinel) بوسائل الحرب الإلكترونية، وبعد فترة أعلنت ايران تمكنها من إعادة تصنيع الطائرة الأميركية، وعرضت صوراً لذلك.
وفي عام 2019، أسقطت قوات الحرس الثوري طائرة أميركية تجسسية (MQ4) اخترقت مجالها الجوي. وفي هذا السياق، قال قائد القوة الجو-فضائية التابعة للحرس الثوري الإيراني العميد أمير علي حاجي زادة: “هذه الطائرة المُسيّرة تُعدّ اكبر طائرة للتجسس بدون طيار، وتمتاز بخصائص فريدة، ونظرا لقدرتها على التحليق على ارتفاع عال جدا، فإنها قادرة على التحليق من دون قيود ومن دون أن تؤثر على مسارات الطيران، فمثلاً يمكنها أن تقلع من اميركا وتهبط في الخليج الفارسي”، وشدّد على قدرة ايران على إبطال مفعول هذه الطائرة على بعد الآف الكيلومترات. إنّ ما تخشاه الولايات المتحدة وإسرائيل في موضوع المُسيّرات هو انتشارها واعتمادها على نطاق واسع من قبل حلفاء إيران في المنطقة، وخصوصاً بعدما استهدف الحوثيون في العام 2019 منشآت “أرامكو” بمُسيّرات انتحارية حقّقت إصابات دقيقة جداً بالرغم من وجود منظومات “باتريوت” المتطورة، وقد أدّى ذلك إلى خفض انتاج النفط الخام إلى النصف. الشيء المقلق أيضاً بالنسبة للأميركيين هو الأسلوب والتقنية المعتمدة، إذ كيف لهذه المُسيّرات القدرة على المناورة بعيداً عن الرادارات والوصول إلى أهدافها، لذا وجّهت أصابع الإتهام إلى إيران كون المُسيّرات اليمنية تشبه إلى حد ما المُسيّرات الإيرانية في التقنية.
إنّ المُسيّرات الإيرانية المنخفضة الثمن أحرجت الدول المصنعة لمنظومات الدفاع الجوي الحديثة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، إذ يصل سعر المُسيرّة الواحدة إلى حوالي العشرين ألف دولار، حسب المُتداول في عدد من المواقع العسكرية الغربية.
في حين أن منظومات الدفاع الجوي (باتريوت) تساوي الملايين من الدولارات، لذا يُعدّ هذا الأمر انجازاً لإيران وحلفائها نظراً للكلفة المنخفضة والأداء العالي، وتعدّ ايران من الدول الخمس الأوائل في مجال تصنيع المُسيّرات على الصعيد العالمي. وتُسلّط مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الغربية الضوء على برنامج المُسيّرات العسكرية الإيرانية وخطورتها على أعدائها في الحروب والمواجهات القادمة، وغالبا ما يستتبع هذا الأمر استراتيجية مضادة لمواجهة هذا “الخطر المتصاعد” على حدّ قولهم.
لذلك فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على افراد وكيانات ادعت أنها مرتبطة بتزويد إيران بمكونات تقنية تساعد على تصنيع المُسيّرات، وأعلنت “أنها ستواصل فرض عقوباتها ضد جهود المشتريات العسكرية الإيرانية التي تساهم في انعدام الأمن الأقليمي وعدم الاستقرار الإقليمي”.
إن مسألة المُسيّرات والأساليب القتالية غير المتماثلة أصبحت سلاحاً بيد الدول التي تفتقر إلى إمكانات في مواجهة الدول القوية. فهذه تايوان تعرض مُسيّرات حديثة تؤكد فيها أنّ هذا الأسلوب غير المتكافئ سيعطي مرونة للجيش التايواني في مواجهة الجيش الصيني. ففي 14 آذار/مارس 2023، أعلن الجيش التايواني عن شراكة مع شركات تهدف إلى إنتاج 3000 طائرة مُسيّرة في العام المقبل. والجدير بالذكر أنّ مسألة الأساليب غير المتماثلة التي تقوم عليها الاستراتيجية الدفاعية الإيرانية لا تنسحب فقط على المُسيّرات، إنّما تطال أيضا مسألة البحر، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ثمة زاورق سريعة غير مأهولة أنتجتها وحدة الصناعات البحرية في وزارة الدفاع الإيرانية، وتتميز بقدرتها على التخفي عن الرادارات ويُمكن استخدامها بوصفها “زوارق انتحارية” ضد أهداف بحرية. لقد أدركت ايران أنّ مواجهة أقوى جيوش العالم تكمن في ارساء قاعدة اللاتماثل على كل المستويات.
فهذا الأسلوب غير المتناظر المعتمد في القتال يقودنا إلى نظرية مفادها أن الدول وحركات التحرّر التي تفتقر إلى الإمكانات المادية والعسكرية المتقدمة سوف تنتصربفضل مشروعية القضية، وبالاستماتة للدفاع عن الوجود، في حين أن الدول الاستعمارية الكبرى تدافع فقط عن فائض قوتها وليس عن وجودها، لذلك عندما تتلقى هذه الدول المعتدية أولى الضربات، سرعان ما ترتدع وتنكفىء، وهذا الذي حدث في حروب الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وغيرهما من الدول الإستعمارية. إن القادة العسكريين الأميركيين والإسرائيليين أقرّوا بفشل بلادهم في عدة حروب بسبب عدم دراستهم لقدرات الآخرين، وهذا يُعدّ من الأخطاء الكارثية في الاستراتيجيات العسكرية، فالحروب الأميركية ضد فيتنام وأفغانستان والعراق، والحروب الإسرائيلية ضد لبنان وفلسطين هي خير دليل على ذلك. إن نموذج حضور المُسيّرات الإيرانية التي يملكها المقاومون في غزة وحزب الله في لبنان وسوريا والحشد الشعبي في العراق والحوثيون في اليمن في مرحلة ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 (طوفان الأقصى) هو خير دليل على قدرة هذا السلاح على إرباك العدو في الميدان، سواء أكان الإسرائيلي أم الأميركي. ومع الوقت، ربما نكون أمام موازين قوى تميل لمصلحة الأقدر على استخدام هذا السلاح في المنطقة، فعامل الزمن هنا ليس شيئاً ثانوياً، انّما أساسيٌّ، وبالتالي ستكون لهذه التراكمات العسكرية قوة التأثير في إحداث تحولات جذرية في مستقبل المنطقة.
180 بوست
إضافة تعليق جديد