رمضان يحتفل مع السوريين بزوال طبقتهم الوسطى
الجمل– طرطوس– حسان عمر القالش: السـر في حبـّة البطاطا ! من أحوالها يمكنكم أن تعرفوا أحوالكم.. من سعرها ونوعيتاها وكمياتها وتوافرها بالأسواق.. من علاقتها بزميلاتها من خضار وفاكهة, وأسيادها من لحومات وزفر ودسم.
هرولت أم كنان, السيدة الستينيـّة, الى دكان جارها بائع الدجاج لتشتري فروجًا وتسرع في طبخه قبل أن يستيقظ أولادها. تفاجأت به يرفض بيعها ! ليس لأنه لا يوجد عنده, فالدكان متروس بالدجاجات صاحبات اللحم الشعبي. هو فقط لا يريد البيع "لأي أحد". لم تنفعها المجادلة والمداولة بالكلام, ذهبت الى بائع آخر في الحارة المجاورة, دخلت دكانه والريش يتطاير من زحمة صاحباته, لم ينتظر طلبها, أكمل حديثه الهاتفي ورفع راحة يده ملوحًا لها أن "اذهبي". تكرر المشهد نفسه مع بائعي بقية الحارات والنتيجة: لا يريدون البيع ! أحدهم قال بأنه لن يبيع وتكلفة الكيلو عليه بـ 83 والدولة تريده أن يبيع بـ 82 , وآخر طردها قائلا: اذهبي واشتكي عليّ. سألتها ابنتها "كيف سيدبـّر الناس أمورهم في رمضان اذاً ؟" فردّت بعصبية مقهورة " كالغنم.. بيستاهلو". أما أبو سالي بقـّال الحي فقال بأن بائعي الفروج صاروا يشترونه صغيرا ووزنه خفيف ويتركوه في الدكان ليكبر الى ماشاء الله أن يوصل الأسعار.
ينطلق هؤلاء البائعين الصغار في احتاكاراتهم لما يبيعون وازدرائهم البشر / المواطنين, من عدوى سلوكيات و"أخلاق السوق" التي أخذوها عن طريق تراتبية وهرمية ومافيوية التجارة والسوق في بلادنا والتي قاربت أن تتطوب منهجا اقتصاديا, ولأنهم يعرفون بخبرتهم أن "ما حدا بيطلع بايدو شيء" كما يقول العامة, وأنه مهما علت عقيرة المعترضين / المواطنين, ومهما طبعت جرائد الدولة من الكلام العطري المدردر في كل الجهات, فالوضع سيبقى هو هو, أي "فالج لا تعالج" وهل أبلغ من هذا المثل الشعبي تعبيرا موجزا كافيا وافيا عن أوضاع(نـا) !
هذا الفالج يتوسع ويتعمق هنا في طرطوس مع اعلانات الروزنامات ونفير التلفزيونات بقرب وصول الملك..رمضان, الذي يهل على السوريين هذه السنة خاتما موسم الصيف المُكهرب الأسعار والجيوب, وباحثا عن الحلوق التي ستعطش كثيرا. ومـتربعاً على طاولة النقاش الحكومي الصوريّ حول رفع الدعم, شريكا أساسيا وصاحب كلمة فصل, مصطحبا معه – ويا لتواقيت الأزمان – موسم عودة الطلاب النازحين من مدارسهم الى الفراغ واللا شيء, الى مدارسهم من جديد, وخُـذ طلبات مدرسية, وهات قرطاسية وهندام, وأعط خرجيـّة ومصروف جيب. ويتلاقى مع رمضان على بوابة الضغط المادي فصل الشتاء.. أي المازوت والتدفئة والحيرة, هل نعيد تركيب صوبية المازوت, أم نعود الى زمن آبائنا ونتدفـّأ على الحطب؟ ففي الشتاء الماضي كان لافتا ومؤثرا رؤية بائعي أجهزة التدفئة الشعبية يعرضون كميات كبيرة من مدافئ الحطب, فكيف الحال وزيادة أسعار المحروقات آتية سواء أعجبنا أم لا ؟
هاهو موسم الاصطياف والبحر في المقابل قد شارف على الانتهاء, وبدأت الناس "تضبضب" وتعد العدة للعودة والسباحة الاحترافية في الهم والغم والروتين اليومي الصحراوي, لكن ليس الكل على هذا الحال..
ففي الوقت الذي كان صديق احدى العائلات الطرطوسية يزورها عائدا من صيفيـّته في منتجع الرمال الذهبية – وهي كذلك أسعارا ومعيشة – ويخبرها بأن ابنـه قد سجـّل طفله الصغير في صف الروضة في مدرسة دمشقيـّة خاصة تحمل اسم منطقة لبنانية راقية, وقد دفع قسطها الأول مائة ألف ليرة سورية. كانت سمـر احدى الجارات, تقول بأن البطاطا كانت في السابق "لحم وكباب الفقير, أما الآن فهي أكلة ملوك", اذ قفز سعر كيلو غرامها من 15 الى 45 ليرة تقريبا... ليس من خيال في هذه الصورة, أو تجـنّ لا سمح الله المالك المعطي, فالحديث عن هذه الفجوات والوديان السحيقة مابين طبقتين اجتماعيتين اثنتين لم يعد افتراء كما قد يتهمنا البعض, كيف ومنظّـر اقتصادنا الجديد السيد الدردري قد أقـرّ بأن "الطبقة الوسطى السورية زالت.." موثقا اعترافه هذا في جريدة الدولة الرسمية الأولى [البعث 14/8/2007], ومخليا مسؤوليته من الأمر / الظاهرة !
ولأن "التسعيرة اليقين" في دمشق, اتصلنا بأحد معارفنا من بائعي الجملة الجوالين, قال لنا بأن "بعض التجار يخزن كميات من المواد ولايريد بيعها بأسعار اليوم رغم ارتفاعها فالأسعار سوف تزداد قريبا وتثبت" على حالها الزائد. فكل مواد العيش الأولية والثانوية والاعدادية معها تباع وفق بورصـة تتحسس الأوضاع وتشتمـّها أفضل من تلك العالمية أو التي سيتنعم بها اخوتنا في الوطن أبناء الطبقة العليا. ولأن زيت الزيتون النقي واللذيذ أكثره من طرطوس وريفها, هاهو موسم قطافه يقترب مع رمضان هو الآخر ويأتي بمعيـّته, ومع العلم مسبقا بأن موسم هذا العام خفيف أي بالدارج " مافي زيتون السنة", فقد أضيف هـمّ على هـمّ. اذ عندما يخـفّ موسم الزيتون تزيد سعر صفيحته أوتوماتيكيا, وحتى الآن لم تعمل آلاتنا الحاسبة في عقولنا على تخمين السعر الذي ستصل اليه ! ربما لأننا بدأنا من مـدة نعتاد أكل الطعام مسقسقـاً بالزيت الصناعي – زيت القلي – فعندما سأل أصدقاء أبو العبد أنفسهم عن أخبار موسم الزيتون ردّ أحدهم " شـو ؟ هذا موسم زيت القلي مو زيت الزيتون".
ولما تحلـّق مجموعة من الرجال حول ركوة قهوة, طغت عليهم مناخات الضغط المادي والاقتصادي "لاشعوريا", فدون أن يكون في كلامهم أي محرض وأي استفزاز معيشي, أخذوا يتذكرون أيام الشقاوة والولدنة, وأخذوا يتبارون في استعادة أسماء طبخات وأكلات قروية قديمة أيام فقر الأحوال. عبد الغني تفوق على عبد المعطي عندما تذكـّر أكلة كانت تسمى " مزنـّرة" هي عبارة عن رغيف خبز تلفــّه حول عود بصل أخضر من أواخر الموسم مع نقطة زيت ورشـّة ملح.. صحيح أنها ليست أكلة بمعنى طبخة لها طريقتها في التحضير, لكن نساء ذاك الزمن على مايبدو خصصوا لها اسما كي يلتفـّوا ويحتالوا نفسيا على أطفالهم فيشعروهم بأنهم لا يأكلون من حواضر البيت الروتينية بل يتناولون طبقا متخصصا.
واختصر أهل زمان هذه الأوضاع بمثل شعبي يقول :"العـز للـرز والبرغـل شنق حالو" ,فليس من المصادفة هنا في طرطوس أن تجد بعض البيوت مازالت تطبخ المحاشي من كوسا وباذنجان وورق العنب معتمدين ومتعمـّدين حشوها بالبرغل بدل الأرز, وهي عادة قديمة كانت كتسوية اقتصادية منزلية. وقد يكون دافعهم هذا هو استساغتهم الطعم هنا حتى ولو كان يذكر بأيام الأجداد الصعبة, هذا قبل أن يسمعوا بانفتاح السوق واتباع سياسة الفريق الاقتصادي. فاذا ماأكثروا منها اضطرارا, فهم على الأقل مستعدون نفسيا وحتى مذاقيـّاً لها...
عندما توجهنا في "الجمل" الى هؤلاء الناس جميعا وسألناهم على صفحتنا الرئيسية : هل توافق على إعادة توزيع الدعم ومضاعفة أسعار الطاقة؟ كان الأجدر بنا ربما أن نتوجه بالسؤال الى رمضان نفسه علـّه يتمكن من الاجابة قبل أن يغادرنا, خشية أن يعود ولا يجدنا, أو لا يعرفنا.
الجمل
التعليقات
لماذا يزداد
إضافة تعليق جديد