العطار تنعي صلحي الوادي
نعت الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية، ووزارة الثقافة والمعهد العالي للفنون المسرحية والموسيقية ومعهد صلحي الوادي ودار الأسد للثقافة والفنون، الموسيقار الكبير المبدع صلحي الوادي الذي رحل صباح أمس عن عمر 73 عاماً وشيّع جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير.
تقول سينثيا الوادي: كان زوجا وصديقا يتعامل بإنسانية معي ومع أولاده ومع الآخرين.. أثيل حمدان: لم نخسر صلحي الوادي بل ربحنا منه الكثير.. حسام بريمو: جعل منا صناع موسيقا
كان يفتتح صباحاته بأبيات للشاعر الإنكليزي شيلر:
زرقة السماء باقية
ويحي أنا الفاني
آه يا آنستي .........
لو أني على عمق عشرة أقدام
ولم أحدق في عينيك الزرقاوين
غيابه الأول كان قاسيا بقسوة الحياة... عندما تداعى جسده القوي النابض بالحب على خشبة المسرح ... تلك اللحظة التي أدهشت وأغضبت وأحزنت ليس حضور ذاك الحفل فقط بل كل مستمع للموسيقا في هذا الوطن.
عندها تمنينا أن تكون غفوة عابرة، وعكة صحية تمر كغيرها من الوعكات... لكن الغياب طال ... واستمر سنوات وصلحي الوادي يكابد المرض، طريح الفراش حتى كاد الناس ينسونه.
اليوم رحل صلحي الوادي الرحيل الأخير عله يلتقي من سبقه من الأصدقاء والأحباب...
حياته: ولد الراحل في بغداد عام 1934 وأتم دراسته الابتدائية في دمشق ـ سورية ثم انتقل إلى كلية فيكتوريا في الاسكندرية ـ مصر ليتابع دراسته الثانوية.
خلال وجوده في مصر نما عنده حبه للموسيقا وسجل في كونسرفتوار الاسكندرية ليدرس الكمان والفيولا مع الكسندر كوريو ومادتي الهارموني والكونتريوان مع بييرو كورانوه والتأليف الموسيقي مع ألبيرتو هيمزي.
في عام 1953 قُبل في الأكاديمية الملكية للموسيقا في لندن حيث درس قيادة الأوركسترا بالإضافة إلى دراسته الأخرى لكل من الكمان والفيولا والتأليف.
بعد تخرجه بمرتبة شرف عاد إلى دمشق في عام 1960 وأسس المعهد العربي للموسيقا الذي افتتح عام 1962.
وفي عام 1990 عيّن عميداً للمعهد العالي للموسيقا الذي افتتح في العام نفسه.
أسس صلحي الوادي الفرقة الوطنية السيمفونية السورية عام 1993 وكان قائدها لحين مرضه في عام 2002.
في عام 1995 منحه الرئيس الراحل حافظ الأسد وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة لجهوده في رفع مستوى الموسيقا في سورية وخارجها.
في عام 1999 منحه كونسرفتوار كوميتاس في يريفان ـ أرمينيا دكتوراه فخرية كما منحته الأكاديمية الروسية للعلوم والفنون شهادة الدكتوراه الفخرية في عام 2000.
منحه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني وسام القديس بطرس وبولس خلال زيارته لسورية عام 2001.
مؤلفاته الكثيرة تتضمن أعمالاً أوركسترالية وموسيقا الحجرة وموسيقا أغان وأفلام وموسيقا تصويرية للمسرحيات.
قدم أول عمل أوبرالي بالتعاون مع أوبرا لندن.
كما قدم حفلات في كل من لبنان ـ مصر ـ العراق ـ الأردن ـ الكويت ـ تونس ـ ألمانيا ـ اسبانيا ـ تركيا ـ الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة.
هذا هو صلحي الوادي الفنان الذي نذر عمره لتعليم الموسيقا، والكثيرون يعرفون أنه لولا صلحي الوادي لما كان هناك معهد للموسيقا أو فرقة سيمفونية أوشيء مما نراه اليوم من تقدم وتطور على صعيد فن الموسيقا الأكاديمي.
عمل كثيرا ... ووصل الليل بالنهار لتحقيق الحلم وربما ما يثلج الصدر أنه من القلائل الذين استطاعوا أن يروا أحلامهم تتحقق في حياتهم وحصدوا بعضا من نتاج جهودهم قبل أن يناديهم القدر.
قيل الكثير عن صلحي الوادي والكثير سيقال غدا بعد أن تجف الدموع وتعي النفوس مدى الخسارة.... وممن استطعنا الحديث معهم بعد سماعهم نبأ رحيله قالوا عنه كلمات جميلة...
ـ ميساك باغبودريان قائد الفرقة الوطنية السيمفونية: صلحي الوادي رجل كبير. كانت مسؤولياته كبيرة.
عندما تحملت مسؤولية قيادة الفرقة السيمفونية الوطنية بعده عرفت كم كان حجم الجهد والتعب اللذين بذلهما للوصول لهذه النتيجة.
استطاع رغم الظروف الصعبة إيجاد المعهد العربي للموسيقا. ثم المعهد العالي للموسيقا ثم الفرقة السيمفونية التي سافرت في أنحاء العالم وكتب عنها الكثير.
أحب الموسيقا وآمن بها. وأدرك أنها مهمة للمجتمع . لذلك أصرّ على وجود طلاب من كل سورية في المعاهد.
شخصياً أنا حزين لمرضه الأخير ووفاته بهذا المرض بعد فترة من الاحباط الذي عانى منه والحطام الذي عاش فيه. وآمل أن يعي المسؤولون حجم مسؤولية قراراتهم عندما يتعاملون مع شخصيات كبيرة مهمة بحجم صلحي الوادي.
ـ أثيل حمدان عميد المعهد العالي للموسيقا: نحن لم نخسر صلحي الوادي. بل ربحنا منه الكثير، الذي ربحناه أشياء ثمنية. المعهد العربي للموسيقا المعهد العالي الفرقة السيمفونية وغيرها أيضاً الكثير من المؤلفات المهمة والتطويرية في الموسيقا العربية والتي تمتلك منظوراً مختلفاً يحاكي غدنا الموسيقي.
صلحي الوادي رجل كبير كريم عطوف. أحب زملاءه وكانوا مفضلين عنده على أهله.
كان يعمل ساعات طوالا، قضى سني عمره في العمل الجاد لأنه أحب مهنته وآمن بها. وهو واحد من الذين جعلوا مهنة الموسيقا محترمة.
ـ عصام رافع قائد الفرقة الوطنية للموسيقا العربية: رحيل صلحي الوادي خسارة كبيرة لأب ومعلم وموسيقي أثرى الحركة الموسيقية في سورية وأسس لقواعد عمل جاد وحقيقي. ولا يمكن في بضع كلمات أن نفي الرجل بعضاً من حقه علينا وعلى الحركة الموسيقية في سورية.
وكم نتمنى أن نستطيع المتابعة في هذا النهج.
كان موسوعة موسيقية، عندما كنا طلبة كنا نسأله وكان يجيبنا بصدر رحيم وبجواب العارف المتمكن.
كان قائداً لامعاً للفرقة الوطنية السيمفونية. وصاحب جهد وفضل عليها.
ـ حسام الدين بريمو قائد جوقة قوس قزح للكورال: كان صلحي الوادي معلماً فهو علمنا من جهة العلم الموسيقي وكذلك ترك علامة لا تمحى في حياتنا، من جهة أخرى.
صناعة الموسيقا مهنة بالغة الصعوبة وهو صنع منّا موسيقيين وجعل منّا صناع موسيقا.
أصرّ على متابعة تعليمنا بالتفصيل الممل لكي نتعلم أن الجهد والصبر هما أهم من المقامات والايقاعات لأنها إيقاع عملنا في هذه الحياة الصعبة.
صلحي الوادي لم يكن إنساناً سهلاً. مازلت أذكره كم كانت العلاقة صعبة معه لكنني اليوم ألهج بذكره لأنني أدركت أن تلك الصعوبة هي التي جعلت مني أستاذاً الآن.
وفي محاولة للتعريف بهذا العلم بشكل أعمق بحثنا عن بعض ما كان قد قيل فيه بعد مرضه فوجدنا الكثير من كلمات العرفان لإنسان قد يخدع البعض بعنفوانه وقسوته لنكتشف في داخله إنسانا رقيقا شفافا مملوءاً بالحب والود والتفهم.
ومما وجدناه مقالة كتبها الدكتور عماد مصطفى سفيرنا في واشنطن يتحدث فيها عن اللقاء الأول الذي جمعه بصلحي الوادي وعن انطباعاته عن هذا الشخص الذي أذهله بموسيقاه ..
يقول الدكتور مصطفى: (يقيني الجازم أن الأستاذ صلحي الوادي هو أهم شخصية موسيقية عرفتها سورية في العقود الثلاثة الماضية، فقد استطاع بقوة عزيمته وصلابة إيمانه الذي لا يتزعزع برسالته في بناء حركة موسيقية متقدمة في سورية، أن يخوض صراع الجبابرة لتحقيق هذه الرسالة، وهو صراع جرى في بيئة لا تتمتع بالاستعداد الفطري والتلقائي لنشوء مدرسة موسيقية جدية تتمتع بالقبول والاحترام من كافة أوساط وطبقات المجتمع السوري ـ المثقف منها والأقل حظا في التعليم والثقافة.
ولا شك أن صلحي الوادي هو من طراز الأشخاص الناجحين الذين استطاعوا أن يحولوا رؤاهم عبر الزمن إلى حقائق واقعة ومؤسسات قائمة وقصص نجاح على المستويين الإقليمي والعالمي.
ومع كل مظاهر التكريم التي حظي بها صلحي الوادي من القيادة السياسية في سورية، ولا سيما رعاية الرئيس الراحل حافظ الأسد، وجميع شهادات التقدير التي أغدقت عليه من كبريات المؤسسات الموسيقية العالمية، والإعجاب الذي ناله من نخبة من ألمع الموسيقيين العالميين، فإن شيئا لا يثلج صدره ويسعده قدر سعادته بذلك الجمهور السوري المتحمس لحفلات الفرقة السيمفونية الوطنية، يتابع عروضها، ويفخر بها، ويحرص على ألا تفوته حفلة واحدة من حفلاتها).
وفي لقاء نشرته جريدة الثورة كان هناك شهادة مهمة جدا من زوجته ورفيقة دربه السيدة سينثيا الوادي التي قالت عنه:
كان يحب الموسيقا منذ صغره وخصوصاً موسيقا عبد الوهاب حتى إنه كان يبكي عند سماعها.. وفي السابعة من عمره حضر حفلة لعبد الوهاب في سورية وبعد انتهائها دخل الى عبد الوهاب وقبل يده من كثرة حبه له.. بعد حصوله على الابتدائية انتقل الى مدرسة داخلية في الاسكندرية ففتحت له هذه المدرسة حياة ثقافية أوسع وخصوصاً في مجال الموسيقا حيث بدأ يهتم بالموسيقا الكلاسيكية، كان صلحي يصرف كل ما لديه من نقود لشراء الاسطوانات الكلاسيكية ويختلي بساحة المدرسة لسماعها .. كان يلفتني شكله الغريب ففي محطة الميترو التقيته للمرة الأولى يحمل كمانه تحت إبطه وعلى رأسه طاقية مع شوارب صغيرة وبفضولي راقبته لأعرف أين سيذهب وكم استغربت عندما رأيته يدخل الأكاديمية الملكية للموسيقا بمعطفه الطويل وأكتافه العريضة و مازلت أذكر تلك الطاولة التي جمعتنا مع زملاء مشتركين بكافتيريا الأكاديمية في لندن فقد كان يتحدث عن مؤلفين غير معروفين حينها فهو أعرف من الانكليز بالموسيقا والموسيقيين ...وتوطدت العلاقة وها نحن منذ اثنتين وخمسين سنة مع بعضنا لم يفارقنا الحب يوماً..
هدفه الأول في الحياة تأسيس الأوركسترا السورية فمنذ أتينا دمشق لم يغب عن فكرة تأسيسها. بعد نشأتها ألف موسيقا جميلة وممتعة ومدروسة ولها قاعدة بالهارموني والتوزيع الأوركسترالي امتزج فيها التراث الموسيقي العربي مع الموسيقا الغربية . وأما عن قائد الأوركسترا صلحي الوادي فقد كان له كاريزما خاصة تفرض على أعضاء الفرقة احترامه بالاضافة الى أنه دكتاتوري في العمل حتى يضبط أعضاء الفرقة صغيري السن.. فحين أسس المعهد العربي للموسيقا استعار أساتذة من الخارج لتعليم الطلبة الذين شغلوا مناصب رؤساء أقسام الى أن تخرجوا ودخلوا المعهد العالي للموسيقا اعتمدهم بالفرقة السيمفونية وكان يصر على ضرورة كثرة التدريب.. لهذا وصل أعضاء الفرقة السوريون الى العالمية. أما عن صلحي الاداري فقد بدأ بادارة المعهد العربي للموسيقا ثم المعهدين العاليين الموسيقي والمسرحي ومدرسة الباليه وانتقد كثيراً بالصحف.
وكان هذا الانتقاد يثير ضحكه.. لقد وثقت به د. نجاح العطار لهذا أعطته هذه المناصب لأنها على ثقة أنه سينجح وسيرفع من مستوى المؤسسة التي يتسلمها. بينما صلحي الانسان كان تعامله معي لكوني زوجته مملوءاً بالانسانية،كما أولاده ومع الآخرين لا يقل انسانية عن تعامله مع أهل بيته،فلا يمر يوم في هذه الأيام إلا ونسمع بقصة من طلابه أو أصدقائه عن مواقف ونفحات تعبر عن انسانيته وتفاعله مع مآسي الآخرين. كان يقرأ دائماً ويهتم بالشعر العالمي ويطلع على كل شيء انكليزي، ياباني، فرنسي، ألماني.. كان يشتري كتب الشعر وكنت اشتري كتب الطبخ لأنه لا يأكل النوع الواحد أكثر من مرة واحده في الشهر.. لقد حاول بقدر ما يستطيع أن يقدم للموسيقا في سورية الكثير ولكنه ظل غير راض عما وصل إليه فكان يريد الأكثر والأفضل لما يحمله من أفكار مميزة لكن المرض أوقفه عن تقديمها.... الحياة معه متعبة لكنها ممتعة..).
أما الباحث الموسيقي صميم الشريف فقال عنه: من الصعب الحديث عن صلحي الوادي وفكره الموسيقي،لأن الحديث عنه يتطلب مني العودة الى ذاكرتي الهاجعة مذ عرفته وهو في الثانية عشرة من عمره. وصلحي باختصار انسان احترم نفسه وفنه ومثله العليا التي نبع منها احترامه للفن والناس وأخلص لفنه الموسيقي اخلاصاً قلما نجد نظيراً له في وطننا العربي فهو عدا كونه مثقفاً موسوعياً أغرم بكل ما يجدد به الفكر الانساني، العازف مؤلف ومعلم ومرب وقائد أوركسترا استطاع أن يربي أجيالاً على الاستماع الى الموسيقا الجادة ولا سيما الغناء الأوبرالي.. وقد نصحته قبل أن يقدم على هذه الخطوة بألا يفعل، فضحك وقال: إنك تخطئ الظن بالناس وسترى كيف يقبلون على الغناء كاقبالهم على الموسيقا على الرغم من غربة اللغة. وكانت أوبرا (دايدو واينياس ) ثم ( كارمينا بوراتا) ومن ثم مقتطفات من أوبرا (كارمن) التي بددت جميعها وجيف قلبي خوفاً من فشله.. كان يضع النجاح دائماً نصب عينيه وفي سبيل هذا النجاح كان يرهق حياته ويحرق أعصابه ويضحك جذلاً كلما تقدم خطوة... عانى كأي موسيقي يبحث عن الكمال في مؤلفاته من مشكلة الزمن. كانت مسألة الزمن تشغل تفكيره وتلزمه بإبداع لغة موسيقية لم يتناولها غيره، ومن هنا كان صراعه الفكري فيما يكون وفيما يجب أن يكون.
إن فكر صلحي الوادي الموسيقي ليس فكراً عادياً لأن ما تتضمنه مؤلفاته ولاسيما مؤلفات السنوات الأخيرة التي سبقت مرضه، كان نتيجة دراسته لجميع المؤلفات الموسيقية وتراكماتها من عهد ما قبل الكلاسيكية ومروراً بالكلاسيكية والرومانسية وانتهاء بالحديثة واتجاهاتها المختلفة ليعطي من وراء كل ذلك اتجاهه الذي حاول فيه جاهداً أن يتغلب على مسألة المعاصرة والزمان.
بينما المايسترو رعد خلف فقد أوضح بسطور قليلة علاقته مع المايسترو الوادي قائلا: منذ أول مجيئي إلى دمشق عام 1986 تعرفت على صلحي وبدأنا نعمل معاً في مجال الموسيقا الكلاسيكية وهو اختصاصنا المشترك خاصة أننا ننتمي إلى اختصاص آخر مشترك هو التأليف الموسيقي، ثم عملنا بشكل متواصل على عملية إحداث الفرقة السمفونية 1993 وكنت عازف الكمان الأول في هذه الأوركسترا ومنذ ذلك الحين وحتى مرضه كنا قد ارتبطنا بشكل عائلي واجتماعي وفني بشكل كبير ما جعل عملينا يأخذان مجرى مهما على الصعيد الشخصي وعلى صعيد المؤسسة الاكاديمية ( المعهد العالي للموسيقا ) وبإمكاني القول: إن صلحي الوادي يستحق لقب فنان عالمي لما يمتلك من ميزات عالية فنية وإدارية استطاع من خلالها أن يشكل هذه المساحة الكبيرة من الموسيقا التي نحن عليها اليوم..
أما د. حنان قصاب حسن فلقد تحدثت في أحد اللقاءات عنه قائلة: عرفت صلحي الوادي استاذا و مديرا عندما كنت في المعهد العربي للموسيقا الذي كان يديره، كان صارما مرعبا حين يريد،ومضحكا ممتعا في كثير من الأحيان، كان يعرف كيف يلقي النكتة في وقتها وكيف يرفع حاجبيه مؤنبا عند الضرورة وكيف يمسك واحدنا من كتفه وكأنه سيقذف به خارج العالم إن كان الذنب لا يغتفر، كنا نخافه ونهابه ونحبه في الوقت ذاته وأظن أن جهده الكبير كان ينصب علينا نحن جيل الأطفال من الموسيقيين وقتها وكأنه يريد أن يربي من خلالنا ذائقة جديدة وأعراف سماع مختلفة. أذكر مثلا أنه كان حاضرا دائما في كل الحفلات الموسيقية، يقف وراء الصفوف الخلفية يرقبنا نحن تلاميذ المعهد، ينبهنا إن تكلمنا ولو وشوشة ويخرجنا من القاعة إن تجاوزنا الحد، يعلمنا متى نصفق ومتى لا نفعل ومتى نطيل التصفيق حتى يعود العازف في قطعة أخيرة لم ترد في برنامج الحفلة. لكل هذا استطيع أن أقول: إن سورية تدين له بالشيء الكثير في كل ما يتعلق بتقاليد الاستماع إلى الموسيقا الغربية التي رسخها بشكل يختلف تماما عن تقاليد الآهات والتفاعل الحي في الموسيقا العربية ولم يكن ذلك بالشيء اليسير ، بعدها عرفته زميلا في المعهد المسرحي ورغم المزاح والنكات ما كانت تفارقني هيبة الحديث معه).
كنان العظمة مؤسس فرقة حوار الموسيقية: أنا لم أدرس على يدي الأستاذ صلحي الوادي كصولفيج أو كلارينت، هو درّسني في المعهد العالي تاريخ الموسيقا العالمية، لكن مع ذلك شكل صلحي الوادي أكبر محفز في حياتي منذ السنوات الأولى للمعهد العربي، اذ كنا كأطفال نلهو بالموسيقا، دون أن نملك رؤية مستقبلية لذلك، الأستاذ صلحي الوادي هو الذي كان يتابعنا ويخطط لمشاريعنا، وكان يعرف كل طالب ويتابع تطوره مع آلته، وكنا نحس به قريباً منا جميعاً، وكان يؤكد أن الموسيقا تحتاج الى شغل ولا تكفي التسلية. كان يحدثنا عن تجربته الشخصية حيث حاول التأسيس من لا شيء بعد عودته من الخارج، بالمقابل كان يشجعنا على الاستفادة مما هو متاح لنا في هذا المجال الآن.
علاقتنا به تحولت من علاقة شخص ومشرف الى علاقة شخص ومسؤول عن مشروع، ثم الى علاقة صداقة قوية وغير مألوفة بين طالب وأستاذ، كان يأخذنا الى البيت والمكتب، كان يقترح علينا قضايا للدراسة ومشاريع للموسيقا، وكلنا في هذا البلد يجب أن نتذكر ما قدمه الأستاذ صلحي الوادي للموسيقا في سورية.
جوان قرجولي مدير «معهد صلحي الوادي»، قال عنه: أول معرفتي به في المعهد العربي للموسيقا عام 1984 ضمن امتحان لقبولي كطالب، تخرجت في المعهد العربي وأصبحت طالباً في المعهد العالي للموسيقا ، اتسم في حينها كمدرس بالشدة في إدارة الدروس والمعهد وهذه السمة من أكثر السمات التي جعلت منا موسيقيين ناجحين ومع مرور السنوات تأكدنا بأنه شخص يعمل ضمن منهج ويخطط لأعوام عديدة قادمة، قام ونحن طلاب بإرسالنا في بعثات كثيرة للخارج سواء إلى دول عربية أو أجنبية وغالباً كان يرافقنا و يشرف شخصياً على تدريبات برامجنا ونشاطاتنا.
في إحدى حفلات فرقة موسيقا الحجرة في دار السعادة للمسنين بدمشق فاجأ الحضور بأن قدم باسم الأوركسترا وردة من كل عازف، لمطرب سوري مقيم في الدار اسمه بهجت الأستاذ الملقب (فتى دمشق) والذي يحتوي أرشيفه على ألف وخمسمئة أغنية مسجلة في الإذاعة السورية وأهداه الوادي مذياعاً نادراً قديم الصنع يمتلكه منذ الستينيات وكان من أكثر مقتنياته العزيزة على قلبه.
سمر بغجاتي- نضال قوشحة
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد