الكوليرا الزاحفة إلى العراق بعد انهيار بنيته الصحية
ضرب وباء الكوليرا العراق أخيراً، وتفشى في مناطق كثيرة منه انطلاقاً من منطقة كردستان الشمالية التي ضربتها جرثومة «فيبريو كوليرا» Vibrio Cholera، المسببة لهذا المرض، في منتصف الصيف الماضي. وتفاوتت الأرقام، كالعادة، في شأن الإصابات وعددها. فقد بدت «منظمة الصحة العالمية» متشائمة حيال هذه الموجة من الوباء، خصوصاً أنه وصل الى العاصمة بغداد، مع بداية الخريف، بعد أن تأكدت إصابة 1500 شخص بالمرض في أنحاء متفرقة من بلاد الرافدين، وتوفي عشرة أشخاص بسببه. وزاد من مخاوف المنظمة الدولية أن الهيئات الصحية سجلت ظهور حالات إسهال شديد لدى قرابة 30 ألف عراقي، بالترافق مع انتشار موجة الكوليرا. ولا يعني ذلك أن تلك الحالات كلها نجمت عن ذلك الوباء، لكن تزامنها مع انتشارها يثير شكوكاً بأن نسبة كبيرة من تلك الإصابات نتجت من ذلك المرض. وبلغ من انتشار المرض في الاقليم الشمالي للبلاد حدّ أن انتقل الى إيران المجاورة، على رغم اقفالها الحدود موقتاً مع اقليم كردستان. والمفارقة أن الاصابات العراقية تصادفت مع انتشار الوباء عينه في أفريقيا بسبب فيضانات نجمت عن أمطار موسمية غير مألوفة في غزارتها. وفي المقابل، أعطت السلطات الصحية الرسمية أرقاماً أكثر تفاؤلاً، ولاحظ البعض أنها من المرات القليلة التي يدور حديث علني عن الاصابة بالكوليرا في العراق، الأمر الذي كان محظوراً أثناء حقب سياسية سابقة. وأشارت تلك المصادر الى أن الكوليرا ليس وباء غريباً عن بلاد الرافدين. والارجح أن تدهور البنية الصحية التحتية، التي تشمل العناية بمياه الشفة ومياه الصرف الصحي والنفايات والمجارير وغيرها، في الفترة الأخيرة ساهم في انتشار المخاوف من تحوّل موجة الاصابات الى وباء متفش. والمفارقة أن اقليم كردستان ينعم بأمان نسبي جذب إليه عدداً كبيراً من الأطباء من مختلف أرجاء البلاد؛ كما تفاخر سلطاته بمنجزاتها العمرانية والاقتصادية المتعددة. ويبدو ان الجهود التي تبذل على ما يظهر للعيان فوق الأرض، مثل المباني والمؤسسات ومقاهي الانترنت والفنادق وغيرها؛ لا تتطابق مع الجهود للعناية بما يسير في «بواطنها»، مثل تمديدات الصرف الصحي والمجاري وشبكات المياه وغيرها!
لا يعد تفشي الكوليرا في العراق أمراً غير شديد الغرابة. ففي العادة، تتفشى الكوليرا وتنتشر وتشغل المستشفيات بعينات البراز الذي يشبهه الأطباء بـ «ماء البحر». وتحاول المختبرات تقصي جرثومة المرض، عند كل من يعاني حال إسهال لإثبات علاقتها مع الكوليرا. وفي المقابل، تبقى الأرقام النهائية طي الكتمان، وكثيراً ما تعلن أرقام أقل من الحقيقة بكثير. وشكل هذا التكتم جزءاً من حال الكتمان التي كانت قائمه في العراق. وراهناً، تبدو الشفافية وكأنها حكر على الكوليرا. فقد تحدث غير مسؤول رسمي عن هذه الموجة، وأعرب غير مسؤول عن قناعته بأن خريطة المرض قابله للاتساع كثيراً. وذهب المفتش العام لوزارة الصحة الى القول إن شهري تشرين الأول (أكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) ربما شهدا تصاعداً شديداً في موجة الوباء. وعلى رغم ان وزارة الصحة تعمل بثلث طاقمها من الأطباء، كان معظم الإصابات في إقليم كردستان الذي يعاني تخمة في عدد الأطباء العراقيين الذين تركوا مناطقهم ليرفلوا بالأمان فيه! ومن المعروف أن هذا المرض ينتشر من طريق مخالطة مخلفات المرضى (من براز وقيء) للأطعمة والماء. لذا، فإن وجود مياه شرب نظيفة وشبكه صرف صحي جيدة هي من العناصر التي تحدّ كثيراً من انتشار هذا الوباء. وفي هذا المعنى، بدا للبعض انتشاره في إقليم الشمال المزدهر عمرانياً أمراً «مستغرباً». وقد يكون تباعد القرى ووعورة الطرق الجبلية في ذلك الإقليم من أسباب انتشار ذلك المرض في كردستان، ثم انتشاره في مناطق إيرانية متاخمة للإقليم؛ وربما للأسباب عينها.
وتحدث وزير صحة إقليم كردستان زريان عثمان بصراحة عن ظهور حالات إصابة بالكوليرا بين المواطنين في مدينة كركوك. وأشار إلى قلة عدد تلك الحالات، التي لا تدعو الى القلق، بحسب قوله. كما بيّن عثمان، بحسب المعلومات الواردة من دائرة صحة كركوك، وجود حالات إسهال شديد ظهرت بالتزامن مع انتشار الكوليرا. وأشارت الفحوص الأولية التي أجريت على عدد من المصابين إلى إصابتهم بهذا المرض، فأُرسلت العينات إلى المختبرات المتخصصة في العاصمة بغداد للتأكد من صحة نتائج الفحوص الأولية. وخلص الوزير الى القول ان الحالات المؤكدة التي رصدت معدودة، ولا تدعو إلى الخوف أو القلق. وأكّد أيضاً أن تلوث مياه الشرب وارتفاع درجات الحرارة يساعدان في انتشار هذا الوباء؛ وأشار الى أن الجرثومة تتكاثر بسرعة في الجو الحار في فصل الصيف، يساعدها في ذلك انقطاع الكهرباء، وقلة الخدمات الصحية، وتلوث مصادر المياه وغيرها.
وعزا عثمان أسباب ظهور هذا الوباء في مدينة كركوك إلى عدم اهتمام الحكومة العراقية بتوفير الخدمات الأساسية في المدينة. وقال: «بصراحة نعتبر أن هذه المشكلة نتجت بأثر من الإهمال الشديد للحكومة المركزية ووزارة الصحة العراقية المركزية لهذه المدينة وعدم توفير الدعم والخدمات الطبية فيها، ما أدى إلى انتشار هذا المرض».
في المقابل، أعلن المفتش العام في وزارة الصحة العراقية عادل محسن أن نقص مادة الكلور المطهرة لمياه الشرب في العراق هو السبب في تفشي وباء الكوليرا، محذراً من انتشار أوسع للوباء خلال شهري تشرين الأول وتشرين الثاني.
وأقر محسن، خلال حديث أمام جلسة البرلمان العراقي بـ «عدم قدرة وزارة الصحة على السيطرة على الوباء أو إيقاف انتشاره من كركوك التي شهدت ظهور الإصابات الأولى لبقية المحافظات». وأضاف: «نحن بحاجة الى 150 مليون حبة من مادة الكلور حتى نهاية العام الجاري».
وكذلك استعرض المفتش العام أمام النواب العراقيين الإحصاءات المتوافرة للإصابة بالمرض في المحافظات العراقية المختلفة. وأوضح أن «مدينة السليمانية سجلت 842 حالة إصابة و11 حالة وفاة وسجلت مدينة كركوك 2196 إصابة وثلاث حالات وفاة وسجلت نينوى إصابة واحدة وحالة وفاة. وكذلك سجلت ناحية جسر ديالى (جنوب بغداد) إصابتين وحالتي وفاة؛ في حين سجلت مدينة دهوك إصابة... أما محافظة صلاح الدين فقد سجلت خمس حالات إصابة وسجلت البصرة إصابة طفلة تبلع ثلاثة اشهر، كما سجلت الأنبار حالة إصابة وكذلك محافظة الكوت».
وانتقد محسن الاجراءات الأمنية المطبقة على الحدود التي منعت شحنات الكلور من الوصول الى السلطات الصحية المركزية. وأشار الى وجود «شحنة كبيرة من الكلور على الحدود العراقية - السورية... بيد أن إجراءات الوزارات الأمنية العراقية (الدفاع والداخلية والأمن الوطني) أخرت دخولها، ما حدا بالشركات المرسلة الى إعادة الشحنات الى مخازنها». وأضاف: «ان الشحنة لو سمح لها بالدخول لكانت ستكفي مدة شهرين».
وفي سياق متصل، أكدت تقارير «منظمة الصحة العالمية» انتشار الكوليرا عراقياً، بداية من الشمال ووصولاً الى بغداد والبصرة. وقدرت المنظمة أن قرابة 30 ألف شخص أصيبوا بحالات حادة من الإسهال، ترافقت مع الكوليرا، ما يثير احتمال تشخيصها لاحقاً باعتبارها حالات مؤكدة من ذلك الوباء.
يذكر أن أكثر من ثلثي الحالات التي تأكدت إصابتها بالمرض موجودة في محافظة كركوك حيث شخصت أول حالة إصابة هناك في آب (أغسطس) الماضي.
ويتسم مرض الكوليرا بحدوث إسهال حاد مفاجئ يمكن أن يسبب الوفاة خلال ساعات، إذا كانت الإصابة شديدة، نتيجة الجفاف والفشل الكلوي. وينتشر داء الكوليرا من خلال المياه والأغذية الملوثة. ولا تظهر أي أعراض على نحو 75 في المئة ممن يصابون بجرثومة الكوليرا، لكنها تبقى في فضلاتهم لمدة تصل الى أسبوعين.
تعتبر الكوليرا من الأمراض التي تصيب الجهاز الهضمي وتفرز جرثومتها سُماً يؤدي إلى زيادة إفراز خلايا الأمعاء للأملاح والماء، ما يؤدي إلى حدوث جفاف يعقبه هبوط في الدورة الدموية. تتراوح مدة حضانة المرض من ساعات عدة إلى خمسة أيام. ويترافق ظهوره مع حدوث إسهال شديد غير مصحوب بمغص، وتعقبه نوبات من القيء الشديد لا يصاحبها غثيان. ويعاني المريض عطشاً شديداً نتيجة الإسهال والقيء المتكررين. وثم يظهر الجفاف الذي قد يؤدي إلى هبوط في الدورة الدموية. وقد يشكو المريض من تقلصات مؤلمة في الأطراف أو البطن أو الصدر بسبب نقص أملاح الكلوريدات والكالسيوم. وكذلك قد يشكو بعض المرضى كبار السن من ضيق شديد في منطقة الصدر ويحدث ذلك نتيجة زيادة لُزوجة الدم التي تؤدي إلى حدوث التصاق الصفائح الدموية وينتج منها قصور في تغذية عضلة القلب عبر الشرايين التاجية للقلب. وقد يحدث نقص في البول نتيجة للجفاف مؤدياً في بعض الحالات إلى توقف إدرار البول.
وأعطى الكاتب الكولومبي الشهير غابرييل خوسيه غارسيا ماركيز (ولد في 6 آذار/ مارس 1928) مساحة كبيرة للكوليرا في أدبه. ولد في مدينة أراكاتاكا في مديرية ماجدالينا. وفي عام 1982 حصل على جائزة نوبل للأدب عن رائعته «مئة عام من العزلة»، قبل أن يكتب رواية «الحب في زمن الكوليرا»، محاكياً ما فعله الكاتب الفرنسي البير كامو الذي أعطى للطاعون المكانة ذاتها في رواية حملت اسم ذلك المرض.
وعلى رغم ان بطل رواية «الحب في زمن الكوليرا» تطفل على هذا المرض ليبقي سفينة الحب تجول الكاريبي رافعة علماً أصفر كدليل على وجود المرض ورغبة في ان تبقى سفينته بعيدة عن السواحل. ويعيش العراق اليوم حال حرب. ودخلت عليه الكوليرا غير آبهة بمعاناة أبنائه؛ فهل بات مطلوباً رفع علم أصفر فوق العراق، ليُضاف الى الأعلام المتكاثرة فيه؟
طالب المحسن
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد