«مطرز» معن خليفة: مساء جديد لأغنية سورية معاصرة
دائماً كانت الموسيقا لا تمنح نفسها إلا لمن امتلك مخيلة سمعية متقدمة؛ وذاكرة موسيقي
ة تفسح المجال للقراءة الباطينة الروحية، التي يلعب فيها اللون النغمي Ton-color دوراً ملهماً يوقظ هذه الذاكرة ليشعل جمرتها من جديد، عبر كافة التفاصيل التقنية الجمالية ومناخات التعبير التي ترتسم مشرقة على تخوم وحدود النوتة وفتنة الصوت وعذوبة الكلمة التي هي البدء والمنتهى.
بهذه الألوان الموسيقية العاشقة، يحاول الموسيقي– معن خليفة- في عمله الجميل (مطرز) أن يوقظ ذاكرتنا المتعبة وروحنا المتعطشة إلى كل ما هو مبدع وأصيل، بعد أن طال الانتظار بسبب نتاجات حضارة البلاستيك التي تحيط بعالمنا من دون أن نعثر على أمل حقيقي في التغيير بعد أن سكنت القتامة وتيارات التغريب والتقليد كامل المشهد الموسيقي على الرغم من- وهذا ما يدعو فعلاً للتعجب والاستغراب- وجود أسماء عربية مهمة تحصلت على المعرفة الأكاديمية وامتلكت الموهبة الحقة في تقديم موسيقا وأغنية تسعيان- ولو بالحدود الدنيا من التغيير- إلى ترسيخ مشهد مختلف ومغاير، ما يغني الممارسة الموسيقية المتقدمة ويضع هذا الفن في مكانته التي يستحق.
يعتمد الفنان خليفة في عمله هذا على قراءة واعية ومبسطة لأهمية المعرفة الأكاديمية في تقديم مسار جديد وواعد لأغنية سورية تعبر عن عصرها الراهن دون أن تتخلى عن جذورها وموروثها الإبداعي، وكل ذلك يأتي عبر تبني لغة البساطة والتلقائية التي هي منبع حقيقي للجمال الموسيقي المشتهى، فيعمد في كثير من الأحيان إلى لغة التكثيف الزمني الخاطف- الذي يحسب له وعليه بآن واحد- وهو على كل حال تكثيف على مستوى عالٍ من التقنية والفكر دون إبهار أو تصنع فينشر شباكه وأدواته الموسيقية المتاحة بحذر ووعي ينبعان من فهمه العميق لدور الآلة والصوت والتوزيع الموسيقي الأنيق المدروس بعناية- على الرغم من محدوديته وهذا شيء طبيعي في عمل محلي لا يحتمل الإغراق في التوزيع الأوركسترالي المعهود- ينم عن ذوق وحساسية عالية في التقاط كافة الذبذبات التعبيرية التي أغنت الكثير من تفاصيل هذا العمل بوجود عازفين أكاديميين خاصة مع روح الجاز الشرقية الملامح التي خيمت على مقاطع عديدة من هذا العمل كما نرى في أغنية (ايد عم ترجف) التي تبدو إلى حد ما متأثرة بإبداعات زياد الرحباني في أعماله الجميلة لشاعرة الصوت الكبير فيروز في العديد من أعمالهما المشتركة وهو ما يتضح بشكل مباشر مع ترانيم عذبة وساحرة بصوت (ليندا بيطار) التي غنت في هذا العمل بكل طاقاتها التعبيرية والروحية، تحديداً في الجملة الفاتنة (عامهلك دخلك شو بحبك) من أغنية (صار الكلام غالي) حيث تقارب الجو الفيروزي المعهود بما يمنحنا مساحات وفضاءات ممتدة منعمة بالحب والشوق كما الانكسار.
وجاءت أغنية (مطرز) عنوان الألبوم لتحلق بأرواحنا إلى عذوبة وشفافية الكلمة الشعبية الصادقة عبر لحن شعبي رشيق يتوق للانعتاق والتوثب بعد أن عيل صبره حبيساً في الصدر ووجع الروح والفقد.
ولعب الترومبيت دوراً حاملاً وأساسياً في الأغنية الشهيرة (عالعين) حيث تم نقل هذه الآلة من مناخاتها الغربية المعهودة بكل قساوتها لتبوح بكثير من الحب والحنان في إبداع مشهود لعازف هذه الآلة (نزار عمران) وتطويعها لتعبر بصدق وحرارة عن لحن عربي صميم الروح والطابع.
وجاءت أغنية (أمي) بمنزلة بيت القصيد في العمل كله حيث يمكننا اعتبارها أهم المقطوعات التي اشتغل بها الفنان خليفة خاصة مع السولو الجميل والمشرق لعازف الكمان (الذي أغفل اسمه من العمل؟!) الذي نهل من أوتار وأوجاع القلب ليعيدنا إلى حضن ودفء ونقاء الأم بعد أن أخذتنا الحياة وسكنتنا الغربة، فجاء صوت (أسامة كيوان) ليضيف جمالاً وعذوبة إلى العمل الممهور بتوقيع فنان أكاديمي يتوق ويسعى جاهداً- ومعه أسماء أخرى بالطبع- إلى كتابة موسيقا عربية أصلية مطعمة ومطرزة بصيغ غربية كلاسيكية وهو نجح في مسعاه إلى حد كبير على الرغم من بعض الهنات التي لا تخطئها العين أو المخيلة السمعية مع التأكيد هنا على جماعية وحميمية فريق العمل كله من أصوات جميلة ومعبرة بحق (سومر النجار، ليندا بيطار، أسامة كيوان) وعازفين موهوبين سواء في الآلات الشرقية أم الغربية على حد سواء وإنتاج خاص لإذاعة الشام FM في التذكير بدور قطاعات عديدة يمكنها أن تتبنى نتاجات مهمة لجيل شاب مثقف يمتلك حساسية موسيقية مذهلة وذهنية معرفية منفتحة على فضاءات النور الموسيقي والتجارب الحداثية العقلانية التي وحدها يمكنها أن تقف في وجه صناع الرداءة وتجار الفساد والابتذال.
مطرز للفنان معن خليفة، محاولة جدية لحفر مسيل عذب لأغنية سورية معاصرة تغتني بالعلم والمعرفة وتحتفي على الدوام بجذورها ومنابعها الخصبة كما تغتني بالموهبة الخلاقة المبثوثة إبداعاً وأصالة في كافة أرجاء الوطن.
علي الأحمد
المصدر: الوطن السورية
إقرأ أيضاً:
إضافة تعليق جديد