جرجي زيدان.. رائد المؤرخين
أتى جورجي زيدان إلى القاهرة لا يملك من الدنيا شيئا، فصنع لنفسه حياة عريضة وشهرة واسعة في ميدان الصحافة والأدب والتاريخ. ويعد نموذجاً للرجل العصامي الذي شق حياته وسط طريق ملبد بالغيوم مملوء بالعثرات.
ولد جرجي زيدان في بيروت في 14 من ديسمبر/ كانون الأول 1861 لأسرة مسيحية فقيرة، كان عائلها أمياً يملك مطعماً صغيراً كان يتردد عليه طائفة من رجال الأدب واللغة، وطلاب الكلية الأمريكية. ولما بلغ الخامسة أرسله أبوه إلى مدرسة متواضعة ليتعلم القراءة والكتابة والحساب؛ حتى يستطيع مساعدته في إدارة المطعم وضبط حساباته، ثم التحق بمدرسة “الشوام” فتعلم بها الفرنسية، ثم تركها بعد فترة والتحق بمدرسة مسائية تعلم فيها الإنجليزية. ولم ينتظم جرجي في المدارس، فتركها وعمل في مطعم والده، غير أن والدته كرهت له العمل بالمطعم، فاتجه إلى تعلم صناعة الأحذية وهو في الثانية عشرة ومارسها عامين حتى أوشك على إتقانها لكنه تركها، لعدم ملاءمتها لصحته. ولم تشغله هذه الأعمال عن القراءة، فقد كان يبدي منذ صغره ميلا إلى المعرفة، وشغفا بالأدب على وجه الخصوص، وتوثقت صلته بعدد كبير من المتخرجين في الكلية الأمريكية، ورجال الصحافة وأهل اللغة والأدب من أمثال يعقوب صروف، وفارس نمر، وسليم البستاني وغيرهم، وكان هؤلاء يدعونه إلى المشاركة في احتفالات الكلية، فهفت نفسه إلى الالتحاق بها مهما كلفه الأمر، أو بذل من جهد ومشقة، فترك العمل نهائيا سنة 1881م وانكب على التحصيل والمطالعة، راغبا في الالتحاق بمدرسة الطب، فتحقق له ذلك بعد اجتيازه اختبارا في بعض المواد العلمية عكف على تعلمها ثلاثة أشهر، وبعد أن أمضى في مدرسة الطب عاما كاملا تركها إلى مدرسة الصيدلة.
اعتزم جرجي زيدان الهجرة إلى القاهرة ليتم بها دراسة الطب، ولم يكن معه ما يكفي نفقات السفر، فاقترض من جار له ببيروت ستة جنيهات على أن يردها إليه حينما تتيسر له الأحوال، ولما نزل القاهرة في أكتوبر/ تشرين الأول 1883 صرف عزمه عن الالتحاق بمدرسة الطب لطول مدة الدراسة، وأخذ يبحث عن عمل يتفق مع ميوله، فعمل محررا في صحيفة “الزمان” اليومية التي كان يملكها ويديرها رجل أرمني الأصل يدعى “علكسان صرافيان”. وكانت الجريدة اليومية الوحيدة في القاهرة بعد أن عطل الاحتلال الإنجليزي صحافة ذلك العهد، وبعد نحو عام عُيّن مترجما في مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة عام ،1884 ورافق الحملة الإنجليزية التي توجهت إلى السودان لإنقاذ القائد الإنجليزي “جوردون” من حصار المهدي وجيوشه، ودامت رحلته في السودان عشرة أشهر عاد بعدها إلى بيروت في سنة 1885. وفي بيروت انضم إلى المجمع العلمي الشرقي الذي أنشئ في سنة 1882 للبحث في العلوم والصناعات، والإفادة منها بما يعود على البلاد بالنفع والخير، وتعلم اللغتين العبرية والسريانية، وهو ما مكّنه من تأليف أول كتبه “فلسفة اللغة العربية” سنة ،1886 وهو يعد أول جهد واضح بُذِل في تطبيق مبادئ فقه اللغة المقارن على اللغة العربية، وإن كان غير عميق التناول، وهو ما جعله يعيد فيه النظر مرة أخرى، ويعود إليه منقحاً ومعدلاً في طبعة جديدة أصدرها بعد ذلك في سنة 1904 بعنوان “تاريخ اللغة العربية”، ثم زار جرجي زيدان لندن، وتردد على مكتباتها ومتاحفها، ومجامعها العلمية، ثم عاد إلى القاهرة.
استقر جرجي زيدان بالقاهرة، وتولى عقب عودته من لندن إدارة مجلة “المقتطف”، وظل بها عاماً ونصف العام، ثم قدم استقالته منها سنة 1888 ليشتغل بتدريس اللغة العربية بالمدرسة “العبيدية الكبرى” لمدة عامين، ثم تركها ليشترك سنة 1891 مع نجيب متري في إنشاء مطبعة، ولم تستمر الشركة بينهما سوى عام، انفضت بعده واحتفظ جرجي زيدان بالمطبعة لنفسه، وأسماها مطبعة “الهلال”، على حين قام نجيب متري بإنشاء مطبعة مستقلة باسم مطبعة “المعارف”، ثم أصدر جرجي زيدان في سنة 1892 مجلة الهلال، وكان يقوم بتحريرها بنفسه، إلى أن كبر ولده “إميل” وصار مساعده في تحريرها.
كان جرجي زيدان متمكنا من اللغتين الإنجليزية والفرنسية إلى جانب اللغة العربية، واتجهت مؤلفاته الأولى نحو التاريخ والأدب، وإن مالت نحو الدراسات التاريخية؛ فأصدر في سنة 1889م كتاب “تاريخ مصر الحديثة” في مجلدين، و”تاريخ الماسونية والتاريخ العام”، وهو موجز في تاريخ قارتي آسيا وإفريقيا، ثم توالت كتبه: تاريخ إنجلترا، تاريخ اليونان والرومان، جغرافية مصر وطبقات الأمم وغيرها، غير أن هذه الكتب لم تلفت إليه الأنظار، ولم تلق نجاحاً يذكر، إلى أن أنشأ مجلة “الهلال” التي ارتبطت حياته بها ارتباطاً وثيقاً. وصدر العدد الأول من المجلة في 1892م يحمل افتتاحية بقلم جرجي زيدان أوضح فيها خطته، وغايته من إصدارها، وعكف على تحريرها بنشاط لفت إليه الأنظار، وكان ينشر فيها كتبه على هيئة فصول متفرقة، ولقيت المجلة قبولا من الناس حتى لم يكد يمضي على صدورها خمس سنوات حتى أصبحت من أوسع المجلات انتشارا، وقد مد الله في عمرها حتى تجاوزت قرنا من الزمان، وكان يكتب فيها عمالقة الفكر والأدب في مصر والعالم العربي، ورأس تحريرها على مدى حياتها المديدة كبار الكتاب والأدباء، من أمثال: الدكتور أحمد زكي، والدكتور حسين مؤنس، والدكتور علي الراعي، والشاعر صالح جودت وغيرهم.
واشتهر جرجي زيدان برواياته التاريخية الشهيرة التي بدأها برواية “المملوك الشارد” التي صدرت سنة ،1891 ثم تتابعت رواياته حتى بلغت اثنتين وعشرين رواية تاريخية، منها سبع عشرة رواية تعالج فترات من التاريخ الإسلامي، تمتد من الفتح الإسلامي إلى دولة المماليك، مثل: أرمانوسة المصرية، وغادة كربلاء، وفتح الأندلس، والعباسة أخت الرشيد، والأمين والمأمون، وشجر الدر، واستبداد المماليك. ولقيت هذه الروايات رواجاً وإقبالاً، وتُرجمت إلى الفارسية والتركية، والأذربيجانية، وغيرها من اللغات، وتنحصر أهمية هذه الروايات في أنها قدمت التاريخ في صورة سهلة ومشوقة.
ويعد كتاب “تاريخ التمدن الإسلامي” الذي صدر في خمسة أجزاء في الفترة من 1902 إلى 1906 أهم مصنفاته، وأفاد الرجل من قراءاته ودراساته في المؤلفات الغربية، ومناهج التأليف في التاريخ والحضارة، فضلاً عن مطالعاته الواسعة في المصادر العربية، وكان من يكتبون في تاريخ الإسلام يجرون على منهج رواة المسلمين القدامى مع شيء من التحسين.
كما يعد كتابه “تاريخ آداب اللغة العربية” الذي صدر في أربعة أجزاء في الفترة من 1911م إلى 1914 من أهم المراجع للمشتغلين بتاريخ الأدب العربي في عصوره المختلفة، وكانت فكرة تأليف هذا الكتاب شغلته منذ وقت مبكر، فنشر فصولاً في مجلة الهلال سنة 1894م تحت هذا العنوان، ثم وسّع هذه الفصول حتى جعل منها كتاباً مستقلاً، ويعد جرجي زيدان رائد هذا الميدان.
وكان يعمل بانتظام شديد، وبعزيمة قوية، وينكب على القراءة والتدوين ست عشرة ساعة متوالية يومياً، مكتفياً من النوم بأربع ساعات في أخريات حياته، يسابق الزمن في إنجاز أعماله الضخمة، ووافته المنية وهو بين كتبه وأوراقه في مساء يوم الثلاثاء الموافق 21 من يوليو 1914م، وقد رثاه كبار الشعراء من أمثال شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران بقصائد مبكية.
أحمد البيومي
المصدر: الخليج
إضافة تعليق جديد