غسان رفاعي: المحافظة على رباطة الجأش
ـ 1 ـ تحاول المحافظة على رباطة جأشك، وأن تتمسك باتزانك، وأن تحتكم إلى المنطق، وأن تضع الوقائع أمامك، وأن تناقش الاحتمالات الساخنة والباردة، وأن تستعرض موازين القوى الإقليمية والدولية، وأن «تغامر» باستنتاج متواضع، وأن تعلن أن ما يجري هو ضرب من الجنون، وأنه لا بد من تسوية سريعة، وأن الإنسانية المتحضرة لا يمكن أن تقبل بهذه المجازر المروعة، ولا بهذه «الخسة»، ثم فجأة ينقلب كل شيء رأساً على عقب، ويختفي الاتزان، وتتناثر الحكمة والتعقل، وتلتهب الهستيريا في الخلايا، ويغلي «الغضب الساطع» في النسج ويتعالى صراخك وأنت ترفع قبضتك: «سنقضي عليهم، الأوغاد، أولاد الزنا!».
تتسمر أمام شاشات التلفزيون، وتنقل أبصارك من فضائية وطنية إلى أخرى إقليمية، إلى أخرى دولية، وتتساقط جثث الأطفال على رأسك، ويغوص الدمار المنتشر في كل مكان في صدرك، وتدميك ابتسامات «زعماء العالم الحر» وهم يتداولون، ويكذبون، ويخادعون، وتتولد عندك الرغبة في رجمهم بالحجارة، وتنطلق من حنجرتك الشتيمة: «إنهم يسخرون منا!».
ما يؤلمك ليس الطغيان، ولا الخسة، لا الدنس، ولا العربدة، إنما العجز، بمختلف أنواعه، العجز المعلن، والعجز المستتر، والعجز المبرقع، والعجز المنافق، ما يحز في نفسك ليس الرؤوس المتدحرجة، ولا الأطراف المتناثرة، ولا الدماء المتدفقة، وإنما الغزاة المدججون بالأسلحة وهم يطاردون الشيوخ والأطفال والنساء، ومكبرات الصوت، وهي تهدر «غادروا بيوتكم، سندمر المنازل على رؤوس ساكنيها»، وإنما الزعماء العالميون المنافقون وهم ينبحون بأصوات مقززة: «حماس هي المسؤولة، لا بد من وقف إطلاق الصواريخ، لا بد من اجتثاث الإرهابيين!».
ـ 2 ـ
بعد أن بدأ فكر المكابرة والغطرسة يتمخطر في عواصم العالم، بما يحمله من عنصرية وشراسة وجنون، أصبحت المعاندة الحقيقية هي بين الحلم والجرح، الحلم بالمحافظة على الوطن العربي، مرفوع الرأس، موفور العافية، يتمتع بكل حقوقه الإنسانية والديمقراطية المشروعة، والجرح المتمثل بتفتيت الوطن العربي، أرضاً وثروات وتراثاً، وإخضاع الإنسان العربي للذل والقهر والاستبداد، ولئن كان النصر للجرح حتى الآن، فإن الحلم لا يزال في أهداب العيون وشغاف القلب، وقد يكون الموقف، الشريف الوحيد لجيلنا ـ وهو الذي بدأ بالحلم وانتهى بالجرح ـ أن يرفض رمي السلاح، وأن يستهجن الهزيمة.
قد يحتاج جيلنا المقهور، وهو يواجه قوى الظلام والشر إلى استراحة قصيرة، لا ليعيد النظر في مواقفه، فهذه محسومة، لا مجال للمساومة عليها، ولا لرسم خارطة جديدة، تحدد مواقع الصديق والعدو، وهذه مفروغ منها، ولا يفيد في شيء إخضاعها لعملية فرز جديدة، وإنما لتجميع القوى وجرد المخزون بهدف متابعة المقاومة.
لا بد من الاعتراف بأن رفض المساومة والاستمرار في المقاومة موقف صعب، ومحفوف بالمخاطر، منذ البداية، وخصوصاً بعد أن ضاقت مساحة التحرك المستقل الحر، واحتكرت أهرامات الكلمة المسموعة والمرئية والمكتوبة كل وسائل الاتصال التي فرضت على الفضاء السياسي والثقافي والاقتصادي العربي، والشرق أوسطي، وصاية لا مثيل لها حتى الآن، ولكن لا بد من التسلح بالحكمة الوطنية والشجاعة الأخلاقية.
ـ 3 ـ
قد نزعم، وفي شيء من قلة الأدب، أن الأحداث تباغتنا، وتنتزع عنا ورقات توت كنا نتدثر بها، ولكن فاتنا أن نعترف بأننا تمسكنا بالشانتاج وسلكنا سبيلين: العنف والكاريكاتور، وكلاهما يقود إلى تبخيس الأحداث قيمتها، ولئن كان من المغتفر لنا الولوغ في العزلة حينما يكون الصمت موقفاً، فإننا ننقلب إلى دمى متحركة، إذا ما سربنا كلاماً بذيئاً حينما يباح الكلام، لقد عشنا قروناً طويلة، ونحن نهدهد وهماً كاذباً في قضايا الأمر والطاعة، حتى باتت الحكمة هي في «تقبل غير الطبيعي على أنه طبيعي، مع العلم أنه غير طبيعي» وحينما فشلنا في قلب الشاذ المرضي الى ما هو طبيعي، قررنا أن نكيف انفسنا مع الشاذ المرضي جاعلين من أنفسنا جزءاً من الشذوذ. لقد فضلنا أن نزور كل أجزاء كياننا كيما نتكيف مع الخلل، وهكذا تأرجحنا من غير توقف، بين أكثر أنواع الكرم جنوناً، وأكثر أنواع الانتحار أنانية: نصبح مضللين إذا آمنا بما نفعله، دجالين إذا لم نؤمن به، فننكمش على إرادتنا، ويبدو لنا النضال كله كوميديا ساخرة وعندما يتبين في الوقت نفسه أننا نموت من أجل لا شيء، تأخذنا الرغبة في أن نؤكد في الوقت نفسه بطلان كل مشروع، فكأننا نريد الفشل الذي كنا نرفضه، ونرفض الانتصار الذي كنا نتمناه.
لا عتب على الشامتين، فهؤلاء كانوا يراهنون على الفشل والاندحار أمام ضخامة المهمة وخطورة التحدي، ولكن العتب كل العتب على الأصدقاء المناصرين الذين اكتفوا بالمراقبة عن بعد، وإظهار «التعاطف المؤدب» دون التحرك الجدي والمنقذ. كان الشامتون يملكون الوسائل والأعتدة، ويلوحون بها ترغيباً وترهيباً لأنهم كانوا على ثقة بأننا سنسقط في الفخ لا محالة، في حين كان الأصدقاء لا يملكون إلا القناعة والحماسة، وشيئاً من الحرارة، ولكن هذا كله لم يوظف التوظيف الأمثل، ولم يطف على السطح وقت الحاجة الماسة.
ـ 4 ـ
حاول المهرج هنري ليفي الذي يقتات على فتات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة وفضلات اليمين الاسرائيلي الفاجر أن يروج لخمس نقاط تبرئ إسرائيل من دنسها السياسي. بدأ اطروحته بذرف دموع التماسيح على ضحايا مجزرة غزة. تساءل بصوت حزين: «هل من الممكن، بعد رؤية صورة المجزرة، خاصة صور أجساد الأطفال المشوهة التي تستخرج من حطام المنازل المدمرة ألا نغرق في الحزن والألم والغضب، ولكن لابد من الكشف عن /5/ حقائق «تعيسة»: أولاها أن هذه الحرب البشعة ككل الحروب التي تقتل المدنيين العزل والأطفال لم تردها إسرائيل «المعروفة» بعراقة التزامها الأخلاقي، وانما أرادت اسكات الصواريخ. وثانيتها، ان اسرائيل، خلافاً لما يقال ويشاع عنها لا تحارب الشعب الفلسطيني، وانما مواقع الإرهاب، ولها هدفان: كسر آلة الحرب التي تهددها، وتحرير الشعب الفلسطيني من القتلة والأصوليين، وثالثتهما أن اسرائيل لا تزال وجهاً للاستقامة الأخلاقية والديمقراطية في منطقة خاضعة للإرهاب والاستبداد. ورابعتها، إذا كان الرأي العام يتعاطف مع ضحايا الفجور الاسرائيلي فلماذا لا يتعاطفون مع ضحايا دارفور والكوسوفو.
وخامستها، أن قادة إسرائيل مصابون بعقدة الهولوكوست وهم يشعرون انهم مهددون بالتصفية آجلاً أم عاجلاً.
ولكن الذين قرؤوا مطالعة المهرج ـ ويمثلون تيارات مختلفة ومتناقضة ـ رجموه وفضحوا الآلة الإعلامية الجهنمية التي جعلت منه أهم مفكر في القرن الحادي والعشرين، وأثبتوا أن نقاطه الخمس هي نوع من الاحتيال المتفسخ، وأن أحداً لا يقتنع بصدقها ولا بجدواها، وأن المثقفين قد نضجوا وأصبحوا قادرين على التمييز بين الحقيقة والدجل.
ـ 5 ـ
أكاد أعتقد أن مثل هذه الأفخاخ منصوبة لنا، في كل مكان، وأن حسن النية قد لا يكون متوافراً، عند من يدّعون صداقتنا والاعجاب بمواقفنا، ولكن الحكمة ليست في الشكوى من وجود هذه الأفخاخ، ولا في الكشف عن خبث من ينصبها، وإنما في تجنبها، وعدم الوقوع فيها، وفي تحويل هذه الأفخاخ الى منابر حقيقية تنشر على الملأ، ما نملكه من رصيد ثقافي رصين ودسم.
د. غسان رفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد