القنوات الدينية في غيبوبة تامّة
قبل أسابيع قليلة، تعرّض شيخ الأزهر الإمام محمد سيد طنطاوي لحملة صحافية شرسة بعد انتشار الصورة الشهيرة التي ظهر فيها وهو يصافح الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز. إلا أنّ الحملة ما لبثت أن توقّفت إثر تعرّض الشيخ لوعكة صحية أدخلته المستشفى. ورغم انتهائها، استمرّ طنطاوي بالدفاع عن نفسه. إذ قال في البداية إنّ المصافحة كانت عادية وطبيعية، وإنه لم يستطع تمييز بيريز عن غيره من الشخصيات وسط مئات المشاركين في مؤتمر حوار الأديان. ولاحقاً، اختلف تبرير الشيخ الذي أكّد أن لا مشكلة لديه في مصافحة أي مسؤول إسرائيلي إن كان ذلك يسهم في تحقيق السلام في الشرق الأوسط. اليوم، ومع دخول العدوان على غزة يومه الثامن، عادت هذه الحادثة إلى الواجهة: ما هو موقف شيخ الأزهر من شيمون بيريز بعد هذه المجازر؟ أين بيانات الاستنكار والتنديد؟ وأين هو مسعى السلام؟ ثمّ ما هو موقف جامعة الأزهر ـــــ بصفتها أكبر جامعة إسلامية في العالم ـــــ مما يحدث؟ إلا أنّ الإمام الأكبر ـــــ وهو اللقب الذي يطلق على شيخ الأزهر ـــــ ليس رجل الدين الوحيد الذي لم يبد أيّ ردة فعل تجاه ما يعرف بعملية «الرصاص المتدفّق» في غزة. إذ يكفي مشاهدة القنوات الدينية التي انتشرت بكثرة في الآونة الأخيرة للتأكّد من «الغيبوبة» التامّة التي دخل فيها رجال الدين وإعلامهم. أمّا السبب وراء هذا التخاذل، ففسّره كثيرون بأنّه تماهٍ مع مواقف الحكومات العربية. إذ إنّ أيّ دعوة من رجال الدين والدعاة على شاشات التلفزة لنصرة غزّة، كانت لتتحوّل بلا شكّ إلى صدامٍ مباشر مع الحكّام العرب، وتحديداً المصريين.
وبالتالي، خفتت الأصوات وارتفعت فقط الأكفّ بالدعاء، ليكون الخبر الوحيد الذي صدر عن أشهر الدعاة في وسائل الإعلام، أي عمرو خالد، بعد أسبوع من القتل والذبح، هو دعاؤه لأهل غزة في بداية محاضرة له في كندا! نشر الخبر على موقع خالد وتناقلته الوسائل الإعلامية المصرية بحماسة. لكن لا أحد يذكر ويقارن بين هذا الدعاء الصغير والمجهود الخارق الذي بذله خالد نفسه في حملة «حماية ... حياة بلا تدخين»، أو زيارته إلى الدنمارك للرد على الرسوم المسيئة للرسول، رغم احتجاج كبار العلماء في الوطن العربي.
وبعيداً عن شيخ الأزهر وعن عمرو خالد الذي يحتفي على موقعه بتصدّره قائمة «أقوى الدعاة في مصر لعام 2008»، لم يجد أهل غزة سوى فتوى، صادرة عن الشيخ السعودي عائض القرني، تنصّ على استهداف الإسرائيليين في أي مكان في العالم. لكنّ القرني لم يظهر في أي وسيلة إعلامية لشرح هذه الفتوى، بل اكتفى على ما يبدو بتسريبها صحافياً، وهو ما يفسّر عدم تحقيقها أي صدى بين الشعوب العربية. كذلك جاءت تصريحات الشيخ يوسف القرضاوي مخيّبة للآمال، على حد قول كثيرين، لأنه اكتفى بتوجيه الرسائل إلى الحكّام العرب. ورفضاً لهذا «التخاذل»، قام كاتب أردني ـــــ محسوب على الإخوان المسلمين ـــــ وهو زياد أبو غنيمة، بانتقاد القرضاوي بشدة «لأنه لم يستغلّ مكانته الكبيرة لدى المسلمين ليهاجم وينتقد الأنظمة التي صمتت وهي تشاهد المذبحة».
لكن هل يعني ما سبق أنّ «الصمت» كان شعار الدعاة؟ الواقع أن قلة قليلة من القنوات الدينية قدّمت ما يمكنها للمشاهد، كفضائيات «الرسالة» و«المجد» و«الناس»، التي كانت في مقدمة مَن استَضاف شيوخاً ومحلّلين للتحدث عن العدوان، كما عملت على جمع التبرعات المالية. غير أنّ كل تلك القنوات مهدّدة بالإغلاق في أي وقت، إذا تخطّت الخطوط الحمراء المرسومة لها من السلطات. وكانت فضائية «المجد» قد وحّدت كل فواصلها الإعلانية لتحمل شعار «غزة حصار ونار»، عارضةً صورة شرطي جريح من حماس يتلو الشهادتين. كما عرضت كلمات للشيخ الشهيد أحمد ياسين. أما «الرسالة»، فأطلقت حملة «أغيثوا غزة»، وقدّمت سهرات يوميّة بعنوان «لك الله يا غزة». من جهتهم، تحدّث الشيوخ، وخصوصاً حازم أبو إسماعيل ومحمد حسان ومحمد حسين يعقوب، عن العدوان في برامجهم، مع إلقاء الضوء على تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. لكن كعادة شيوخ السلف، كان الكلام المباشر في السياسة في أضيق حدوده.
شهيد أم قتيل؟
لم يمنع الصمت الطاغي على مواقف رجال الدين من وقوع صدام حادّ في ما بينهم. أما السبب، فهو فتوى أطلقتها «جبهة علماء الأزهر» ـــــ وهي جماعة تضم شيوخاً أزهريين مختلفين في التوجهات مع شيخ الأزهر ـــــ تنصّ على أن الضابط المصري ياسر عيسوي الذي قتل برصاص الفلسطينيين على الحدود مع غزة ليس شهيداً، لأنه كان يمنع العون والغوث عن المسلمين في القطاع. وأكدت الفتوى أنه كان يُفترض بالضابط أن يساعد «أخاه المسلم» مهما كانت الاعتبارات السياسية. أثارت هذه الفتوى غضباً عارماً لدى علماء آخرين من مختلف الفئات، واعتبروا الجبهة «مجموعة ضالة وغير شرعية». حتى إن بعض الغاضبين اتّهموا أعضاء الجبهة بالانتماء إلى «الإخوان المسلمين» الذين يدعمون حركة «حماس» على حساب «مصلحة مصر».
محمد عبد الرحمن
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد