حقوق الإنسان من وجهة نظر إسلامية
كان بودي أن أتابع الكتابة فيما أسلفت الكتابة عليه في أعداد سلفت من مجلة رسالة الإسلام ، ولكن أمراً عَدَّه الناس حدثاً جديداً ، أو أمراً ذا بال ثناني إلى الوقوف قليلاً عند ذلك الموضوع الجديد في نظر العالم، والقديم جداً جداً في نظرنا، ذلك هو ما أسموه: " حقوق الإنسان ".
وقد هبت دور العلم ومؤسسات الثقافة في العالم لتهيئ الناس لاستماع ذلك النبأ الخطير، والترحيب
بذلك المولود الجديد، ولم تكن مصر بمنجاة عن التهليل لذلك الحدث الجليل، فقد نشرت إحدى
صحف الصباح اليوم 7/12/1949 ما يأتي : " طلبت الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف إلى حضرات نظار المدارس تمكين تلاميذ الفرق الكبرى من سماع الإذاعة المدرسية في الاحتفال بالذكرى الأولى
لإعلان حقوق الإنسان، وذلك في الساعة 12 ظهراً يوم السبت 10/12/1949 " ثم قالت : " وتدرس هيئة الأمم المتحدة بالاتفاق مع اليونسكو بيان مشروع إعلان حقوق الطفل توطئة للاعتراف بأن الجنس واللون والسلالة والدين لا ينبغي أن تكون حائلاً بين أي طفل من أطفال العالم، وتمتعه بما يتمتع به
الأطفال الآخرون من العلم والمعرفة ..الخ " .
هذا هو المولود الجديد، مولود القرن العشرين الذي اشرأبت له الأعناق، واستشرفت له الأعين
بعد أن جاءها على ظمأ ليروي الغلة، وعلى فاقة ليمدها بالغنى والثروة، وهذا هو النبأ العظيم الذي
سنهيئ له آذان الشيب والشباب في شتى بقاع الأرض، ومن بينها مصر، ليُدوِّي فيها إيذانا بأن العالم قد
جاءه خبر جديد اعترف به للإنسان بحقوقه، وسيعترف للطفل بحقوقه قريباً وميزته – حسبما ذكرت الجريدة آنفة الذكر – إنه لم يكن وليد تفكير فرد، وإنما هو وليد اعتراف اثنتين وخمسين من الأمم
في الأرض صغيرها وكبيرها، قويها وضعيفها، وإقرارهم بأن الإنسان أصبحت له حقوق وأصبح له كيان وأصبح له ما شئت من مقومات ومهيئات .
هذا هو قصارى أمرهم، وذلك هو منتهى العلم من شأنهم، أما نحن، وأما المنصفون من غيرنا،
وأما التاريخ، فكلهم شهود عدل على أن حقوق الإنسان لم تكن من الجدة علينا بحيث نستبشر
بمولدها، ونقيم الاحتفالات للذكرى الأولى لإعلانها، ونحرق البخور، ونهيئ الأثير ليحمل على موجاته
تلك البشارات، وهاتيك الإعلانات .
نعم نحن نعرف والتاريخ يصدق على أن حقوق الإنسان لم يكن بدء إعلانها في ليك سكسس،
ولا في فلشنج ميدوز، ولا في باريس، ولا في الأطلنطي، وإنما قررت في بقعة بسيطة من بقاع الأرض اختارها الله لتكون موطن إشعاع جديد، ومهبط شعلة ستضيء العالم بعد أن غشى من ظلمات كادت
تودي به، ورفع الله بذلك عنه إصراً وأغلالاً كانت عليه، ولم تعترف بها خمسون أو مائة من الأمم في
القرن العشرين، وإنما أقرها واعترف بها لأربعة عشر قرناً دين كان خاتمة الأديان، على يد نبي كان
خاتم الأنبياء، ببلاغ عن الله عز وجل لم يكن منشئاً لما جاء به ( وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها
قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي )ولم يتقوله على ربه ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) كما نطقت به نصوص الآيات الكريمة، وقد سوت بين العالم أبيضه وأسوده
وأحمره وأصفره، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى ( يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) .
وقبل أن ندخل في تفصيل وجهة النظر الإسلامية في حقوق الإنسان وكيف أعلنها، وكيف فصلها وبينها، وكيف طبق المسلمون من الخلفاء وأولى الأمر نصوص ما جاء به لذلك الدين من لدن أشرق نوره حتى اليوم، قبل ذلك نحب أن نذكر إجمالاً تلك الحقوق التي أعلنوها باسم حقوق الإنسان، كما نص عليه مشروع الميثاق، وإليك ترجمة أهم فقرات المشروع .
1- الناس متساوون في الحقوق والاعتبار – وهم بما أودعه الله فيهم من عقل وضمير ملزمون بأن يعامل بعضهم بعضاً على أساس روح الأخوة.
2- كل شخص له الحق في التمتع بالحقوق التي نص عليها الميثاق من غير تفرقة بجنس أو لغة أودين أو رأي سياسي أو غيره .
3- لكل إنسان الحق في الحياة والحرية والأمن .
4- لا يسترق إنسان ولا يعذب ولا يعامل بقسوة ولا إذلال .
5- لكل إنسان الحق في أن يعترف به شخصاً أمام القانون في كل مكان .
ثم ذكر المشروع فقرات لم نر داعياً لترجمتها لأنها – في نظرنا – حقوق مترتبة على ما أسلفنا من حقوق في الفقرات السابقة .
وذكر بعدها فقرات تتعلق بمساواة المرأة للرجل وحرية كل منهما في الزواج وذكر حق الإنسان في التملك وحماية الملكية، وحرية الفكر والعقيدة، وأن يظهر عقيدته علناً ويمارس طقوسها، ويعبر عن آرائه وأفكاره، ويكون له الحق في الاشتراك في حكم بلده، وله وافر الحرية في العمل، وله حق الأجر، ولكل واحد حق التعليم والتربية، ويجب أن يوجه التعليم نحو رعاية حقوق الجماعة الإنسانية، وتقوية روابطها، لا إثارة العداوات الجنسية والدينية ..الخ ما ذكر هناك .
هذا ملخص مجمل لما جاء في مشروع إعلان حقوق الإنسان يعنينا منها الفقرات التي افتتح بها المشروع وهو في جملته يدور على أساس مهم، هو اعتبار الإنسان كائناً حياً حراً له حقوقه، وعليه واجباته وله كيانه ومقوماته، وهو على أساس ذلك الاعتبار يتمتع بكل الحقوق التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان حر مفكر عاقل اجتماعي عضو في الجماعة البشرية العامة التي تعتبر الكون كله وحدة واحدة مهما تباين الجنس واختلف العنصر وتباعد اللون وافترق الدين .
والبحث كله في نظري يجب أن يدور على هذا الأساس؛ ويتجه التفكير فيه على هذا الاعتبار. أما أن الإسلام دين يفرض المساواة بين الأجناس البشرية ومساواة الإنسان لأخيه الإنسان دون أي اعتبار آخر، فذلك لاعتبارات لا تعدو الاعتبارات التي تقوم على أساس الجنسية في العصر الحديث، فوحدة المسلمين تقوم على أساس موطني، وطبعاً نحن لا يعنينا المفاضلة بين الاعتبارين وأيهما أولى بالاعتبار والتقديس، ولكن مع هذه الفروق قدس الإسلام مال غير المسلم ودمه وعرضه، وحماه من كل طغيان وعدوان، اقرأ قوله تعالى : " يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " . قال المفسرون في سبب نزولها : إن ثابت بن قيس نزولها : إن ثابت بن قيس حين قال لرجل لم يفسح له عند النبي صل الله عليه وسلم : يا بن فلانة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من الذاكر ابن فلانة؟ فقام ثابت فقال : أنا يا رسول الله، فقال: انظر في وجوه القوم فنظر، فقال : ما رأيتَ يا ثابت؟ قال : رأيت اسود وأبيض وأحمر. قال إنك لا تفضلهم إلا بالدين والتقوى. وعن مقاتل : لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى أذن على ظهر الكعبة فقال عتاب بن اسيد : الحمد لله الذي قبض أبى حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحرث بن هشام : أما وجد محمد غير هذا الغراب مؤذناً، فنزلت وأخرج أبو داود في مراسيله، والبيهقى في سننه عن الزهوى قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أب هند أمراة منهم، فقالوا يا رسول الله أنزوج بناتنا موالينا؟ فنزلت . وكان أبو هند حجام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج البيهقى عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يشيم الأركان بمحجنه فلما خرج لم يجد مناخاً فنزل على أيدي الرجال فخطبهم فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها يأيها الناس: الناس رجلان بَرُّ تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله- الناس كلهم بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، قال الله تعالى « يأيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلنا كم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ». ثم قال : أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال : يأيها الناس، ألا إن ربكم واحد . لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر، على أسود إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت. قالوا : بلى يا رسول الله . قال فليبلغ الشاهد الغائب »إلى غير ذلك من أحاديث لا نريد الإطالة بذكرها . وقد نهى الله عز وجل العصبية وحذر منها إذ يقول في حق فرعون « إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شعيا يستضيف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم » فالإسلام قد جاء منذ أربعة عشر قرناً ليقرر للعلم حقوق الإنسان، وكان البشر أجناساً متفرقين يتعادون في الأنساب والألوان واللغات و الأوطان والأديان والمذاهب والمشارب والشعوب والقبائل والحكومات والسياسات، ينازع كل فريق منهم مخالفة في شيء من هذه الروابط البشرية وإن وافقه في البعض الآخر، فصاح الإسلام بهم صيحة واحدة دعاهم إلى الوحدة الإنسانية الجامعة وفرضها عليهم « يأيها الرسل كلوا من الطيبات وأعملوا صالحاً إني بما يعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون » في معنى قررته الآيات والأحاديث، وقرره الرسول عليه السلام في مؤتمر عام في حجة الوداع كما رواه الطبراني في المعجم الكبير، وسوى بين الناس جميعاً لا فرق بين إنسان وإنسان بشيء لا قبل له بدفعه ولا شأن له في تحصيله كلون جلده، أو جنسه، أو لغته، وما فرق بينهم إلا بعوامل هم مسؤولون عن وقوعها وإيجادها كالعمل الصالح والفضيلة وما إليها، فالمسلم بإسلامه يستوي مع أخيه في شتى بقاع الأرض في كل الحقوق، ويحمل مثله كل الواجبات، ويشترك في نظام الحكم والانتخاب وما يتفرع عنه من حقوق هي وليدة الكيان الإنساني، وغير المسلم يشترك في وحدة الدولة أو الجنسية السياسية للدولة، فجميع البلاد الخاضعة للحكم الإسلامي متساوية في الحقوق العامة كحماية أهلها، والدفاع عنهم، وحرمة أموالهم وأنفسهم، والتاريخ شاهد بأن كثيراً من غير المسلمين قد ولوا مناصب ذات سلطان في الدولة لم يمنعهم دينهم من شيء، وقد تمتعوا في ظل الرسول عليه السلام والخلفاء من بعده بعطف سابغ، ومجاملة لم يعهد مثلها في تاريخ، ولا نريد أن نمل القارئ بالإضافة فيها، ولم نسمع بعشر معشارها في البلد الذي أعلن على أرضه وتحت سمائه حقوق الإنسان، بل افترق فيه أبيضهم وأسودهم، وتناحر الفريقان، واقتتل الطرفان، وحرم هذا من كل حق يتمتع به أبسط مخلوق حتى في الدخول لمكان، أو الأشراف في بنيان، مما حدث عنه الأخبار، وتضافرت على ذكره الروايات من رسمية وغير رسمية، وكما اختلفوا للجنس اختلفوا للدين، هناك وفي غيره من الأماكن والدول.
هذا هو ابسط حق للإنسان وهو المساواة، عرفه الإسلام وقرره لكل إنسان باعتباره كائناً حياً لم يحرم من طائفة إلا في بعض الأشياء لبعض الاعتبارات التي تمس الفكرة التي قامت على أساسها وحدة الدولة الإسلامية، كما تقوم الوحدة اليوم على أساس الجنسية، ويحرم على أساسها طائفة من لا يحلونها، ولا يعد ذلك عيباً في الفكرة، ولا نقصاً في الدولة.
وحسبنا اليوم هذا القدر في الكلام على الأصل الأول من حقوق الإنسان ولعل لنا عودة قريبة إن شاء الله للكلام على تفاصيل ما بقي من حقوق الإنسان التي ستعلن جديدة على الناس في القرن العشرين، وليست بجديدة على الإنسان على الإسلام والمسلمين، فعندهم من أربعة عشر قرناً خبرها، وعندهم علمها ونبؤها( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
الشيخ عبد العزيز المراغي
من مختارات الجمل
إضافة تعليق جديد