عام على رحيل الفتى الأسمر
تكن ملامحه شديدة السمرة وجسده النحيل ذو العظام البارزة مصدر تشجيع لدى العديد من المنتجين والمخرجين لإسناد أدوار هامة إليه. كانت ملامح البساطة والحزن التي تمتع بها العبقري أحمد زكي، وكانت سبباً في انطلاق موهبته وتأكيدها، هي نفسها عوامل تأخر نجوميته. وقد لا يعلم كثيرون أن الدور الذي لعبه الفنان نور الشريف في فيلم «الكرنك» أمام سعاد حسني، كان مرشحاً له أحمد زكي، إلا أن منتج الفيلم رفض إسناد الدور لذلك الفتى الأسمر المجهول.
هذا الموقف على وجه التحديد أثار موجات من الإحباط داخل نفس ذلك الفتى اليتيم الموهوب، وأشيع وقتها أن أحمد حاول الانتحار بعد سماعه رأي المنتج، إلا أن أحمد زكي علق في إحدى المرات على تلك الحادثة بقوله: «عندما علمت برفض المنتج كنت أشرب كوباً من الماء، ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أضغط على الكوب وأحطمه بيدي التي جرحتها قطع الزجاج».
هو أحمد زكي عبد الرحمن بدوي، ولد في الثامن عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 1949، لازمه سوء الحظ منذ لحظة ميلاده، فقد توفي والده وهو بعد لم يكمل عامه الثاني، ولم تنته المأساة بموت الأب، بل كان من المحتم أن تتزوج الأم كعادة أهل الريف، خاصة إذا كانت صغيرة في السن، ليحرم الطفل من حنان الأم وهي على قيد الحياة ليلازمه الشعور باليتم طوال حياته.
وتمثل علاقة احمد زكي بأمه رتيبة السيد محمد بؤرة تجمع فيها الكثير من العواصف والغيوم، فبلحظة تخليها عنه فقد بوصلة التواصل التي غالباً ما تربط الأم بطفلها، حيث قدر له أن يقابل أول أيام عمره ويعيش طفولته الحائرة في بيت جدته لأمه، ويكبر بلا أخوة، وكانت أول مرة يرى فيها أمه بعد زواجها وعمره سبع سنوات، ولم يستمر اللقاء بينهما لحظات يصفه احمد زكي بمرارة قائلا: «قبلتني ثم اختفت»! انفجرت موهبة الطفل الأسمر احمد زكي كما تنفجر مواسير المياه في الأحياء الفقيرة، فتغرق البيوت وتوقظ الأحياء والأموات، ففي تحول مفاجئ وجدت العائلة أن هذا الطفل يقلد «الغائبين» من العائلة، فصار وسيلة تسرية للنفوس من القلق وتسلية للعقول من الهموم، وانفجرت الضحكات وبدأ الفتى الأسمر يشعر بالأنس لأول مرة، وتحولت حياته إلى قناع ضحك يخفي به ألمه الدفين، واستطاع أن يتجاوز أصعب اللحظات بالتقمص، حيث يدخل في شخصية أخرى ويستعير انفعالاتها ويهيم بين الناس. هو أحمد زكي وليس أحمد زكي، قال في حوار: أنا هارب على طول، نفسي أجد نفسي.
بعد أن أنهى أحمد زكي المرحلة الإعدادية التحق بمدرسة الزقازيق الثانوية الصناعية واجتاز كافة الاختبارات وعمل كحداد، ولم تمنعه الدراسة الصناعية من ممارسة هوايته المفضلة وهي التمثيل، فقد كان بداخله إحساس دفين بأنه سيصل في يوم من الأيام للصفوف الأولى.
وقد بدأ أحمد زكي تاريخه الفني عقب التحاقه بمدرسة الصنايع، حيث وجد ضالته في ناظر المدرسة المحب للفن بدرجة كبيرة، حيث كان يحرص الناظر على أن تقدم المدرسة 12 حفلا خلال شهر رمضان من كل عام، وبذلك تتحول ليالي رمضان إلى مهرجان مسرحي صغير داخل هذه المدرسة.
وفي إحدى الحفلات قام ناظر المدرسة بدعوة صلاح منصور وزكريا سليمان وحسن مصطفى، ليكونوا لجنة التحكيم، وبعد انتهاء العرض الذي قدمه وأخرجه أحمد زكي استمع من هؤلاء الفنانين الكبار إلى كلمات الإعجاب والتشجيع ونصحوه بالالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية فزرعوا في أعماقه الأمل وبذور الإصرار على استكمال طريق الفن.
بعد حصوله على الدبلوم كان من المفترض أن يكمل دراسته بالمعهد العالي الصناعي ولكنه اتجه لأكاديمية الفنون بالهرم وقدم أوراقه لمعهد الفنون المسرحية ونجح في الاختبارات وجاء ترتيبه الأول، وبدخول أحمد زكي المعهد أعاد الدكتور رشاد رشدي النظر في بعض قوانين المعهد، حيث كان زكي يحصل على الدرجات النهائية في جميع المواد بينما يرسب في اللغة الإنجليزية.
وفي السنة الثانية بالمعهد أسند إليه الدكتور رشاد رشدي دوراً مهماً في مسرحية «القاهرة بألف وجه» ولكن اعترض طريقه الفنان سعيد أبو بكر، مؤكداً أنه لا يصلح للدور، ورغم ذلك تمسك به رشاد رشدي، ولم يكن هذا هو الاعتراض الوحيد الذي واجه أحمد زكي في مشواره، ولكنه تحمل وصمد أمام قسوة الظروف واشترك في مجموعة أعمال بسيطة حققت نجاحاً كبيراً مثل «أبناء الصمت»، و«العمر لحظة» حتى جاءته فرصة ثانية أمام سندريللا الشاشة سعاد حسني ليكون بطلا في فيلم «شفيقة ومتولي».
وفي شخصية الفنان الراحل احمد زكي ازدواجية محيرة، فقد كانت لديه قدرة على التقمص الانفعالي وقدرة أكبر على قراءة انفعال الآخر الذي يتقمصه بدقة، فهو يجيد التعايش المطلق مع الشخصيات المكتوبة على الورق حتى تتحول إلى لحم ودم يتفاعل معها الجمهور، وهذا المخزون الفني يعود لوجود شخصيتين بداخله، احمد زكي الإنسان واحمد زكي الفنان، فالأول كان يقابل ويتفاعل مع أنماط عديدة على كل لون وشكل في الحياة ويلتقط من خلال قربه لها الملامح الرئيسية الخاصة بها من صفات وسمات ومكونات نفسية إلى أن تكتمل الصورة فيعطي كافة التفاصيل والمعلومات الدقيقة لأحمد زكي الفنان، فيبدأ في غربلة كل هذه النماذج واختزالها ويستعيدها عندما يحتاج إليها، وكان يقول عن ذلك: «إني أتفرج على الفنان داخلي وهو يؤدي وأظل أعدل وأغير في الشخصية لأن بداخلي 100 ناقد ولا أقنع بسهولة ولا يهدأ لي بال أبداً، إذا أحببت دوراً ملكني وصرت خادمه المخلص الأمين».
طوال مشوار احمد زكي وخاصة مرحلة البطولات السينمائية والتلفزيونية كان يتعامل مع شخصياته المختلفة مثل الطبيب النفسي يدرسها جيداً ويحللها ثم يأتي دور التشخيص وهي المحطة النهائية لاكتمال الرؤية ووضع اللمسات الأخيرة.
وتعتبر أشهر ثلاث شخصيات لعبها احمد زكي في مشواره هي: طه حسين في «الأيام»، جمال عبد الناصر في «ناصر 56»، والرئيس السادات في «أيام السادات»، ورغم أنهم الأشهر ولا شك، إلا أنهم لا يمثلوا الابداع في مشواره، لقد كانت شخصية الدكتور طه حسين في «الأيام» هي الشخصية التي وضعته على أول درجات سلم النجومية وفتحت أمامه طريق البطولات المطلقة على الشاشة الكبيرة، وعوامل كثيرة ساعدت أحمد زكي في التعبير الصادق عن معاناة الدكتور طه حسين ولا سيما في مرحلة الشباب المبكر منها، ذلك الرصيد الضخم من الألم والمعاناة والأحزان المختزنة في «اللاشعور» وعندما تم ترشيحه للدور اعترض كثيرون ولكن المخرج يحيى العلمي راهن عليه وكسب الرهان بعد أن قالت ابنة طه حسين لأحمد زكي «أهلا بابا لقد شاهدتك على الشاشة».
وقد ظهرت براعة أحمد زكي في التوحد مع الشخصيات وخاصة التاريخية من خلال تجسيده لشخصية الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في فيلم «ناصر 56» ونفس الشيء حدث أثناء تقمصه لشخصية السادات.
واحمد زكي شلال من الموهبة توقف برحيله، فهو الكوافير في «موعد على العشاء»، والمحامي في «ضد الحكومة»، وعسكري الأمن المركزي في «البرئ»، وضابط أمن الدولة في «زوجة رجل مهم»، خريج الملجأ في «أحلام هند وكاميليا»، مدرس الفلسفة والدجال في «البيضة والحجر»، الصعيدي المتمرد في «الهروب»، البواب في «البيه البواب».
وإذا كانت الواقعية هي المدرسة التي يمكن أن تصنف المخرجين بها، فإن احمد زكي هو الفنان الوحيد الذي يمكن أن تنسبه إليها، ففي معظم أفلامه كان يرفض الدوبلير لأنه كان يريد أن يعيش بكيانه المشاهد الصعبة، ففي النمر الأسود رفض الاستعانة بـ «خراط» وفي «أحلام هند وكاميليا» قفز من الأتوبيس أثناء سيره عدة مرات، وفي «الهروب» أصر على التصوير على سطح القطار وهو منطلق، وفي «موعد على العشاء» نام بنفسه داخل ثلاجة مشرحة حقيقية، وفي فيلم «ولاد الإيه» صور مشهداً وهو يجري عارياً في شوارع القاهرة. وقد كان الفنان الراحل بمثابة الملهم في الشعر بالنسبة لجيل من المخرجين مثل محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة وداود عبد السيد وصولا إلى شريف عرفة، فقد كان هو الحلم الذي يتجسد أمامهم كلما داعبتهم شخصية درامية يجدون المفتاح وفك الشفرة عند أحمد زكي، ولكن كان الأقرب لأحمد زكي المخرج محمد خان، الذي يصف أحمد زكي علاقته به بأنها عبارة عن حبل سري، أما عاطف الطيب فهو المخرج الذي تستطيع أن تضبط موجة أحمد زكي السينمائية عليه.
واشتهر أحمد زكي خلال مشواره بعصبيته الشديدة وكان ينفعل كثيراً وقد برر زكي ذلك قائلا: «أنا عصبي لأن لسه عندي ضمير، لسه مدخلتش في طابور الطناش وشراء الدماغ، أنا كده طبعي كده، عايز أشتغل صح وكل شيء يمشي مضبوط، العصبية دي رد فعل طبيعي أمام دهاء الناس وكذبهم، لازم أكون عصبي أمام التجاهل والغلاسة والرذالة واللف والدوران وإلا مبقاش إنسان، وأذكر قولا للعم صلاح جاهين يقول فيه (علم اللوع أكبر كتاب في الأرض بس اللي يغلط فيه يوقعه ويجيبه الأرض)».
كان أحمد زكي منذ ميلاده بداخله أحلام ولكن حياته التي عاشها اختلفت عن أحلامه، فقد كان يرسم لنفسه دنيا ثانية وعالما ورديا، كان يحلم ببيت صغير وزوجة طيبة وحنونة وأولاد كثيرين يسببون له الصداع، تزوج هالة فؤاد وأنجب منها ابنه الوحيد هيثم، ولكن أشياء كثيرة خارجة عن إرادته أدت إلى تدمير العلاقة بينهما بعدها أغلق احمد زكي قلبه فلم تدخله امرأة حتى وفاته في السابع والعشرين من مارس (آذار) 2005.
محمد قناوي
المصدر: الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد