رؤية نقدية في رواية " لو لم يكن اسمها فاطمة "
تنتمي رواية " لو لم يكن اسمها فاطمة" (1) (2005) إلى خطاب التأزم الحضاري مع الذات والعالم، ومن خلال تخييل رؤى التاريخ واشتراطات الحاضر أوالراهن، ويقوم النقد فيها على وصف الحال وتشكلات القهر متعالقاً مع محاور الإحالة الكلامية والتناص لإثراء بنية الخطاب الروائي وفيض دلالاته.
مضى المخرج السينمائي سليمان إلى دير الزور لإنجاز شريطه عن هذه " المدينة الميتة"، مثلما خاض عميقاً في تاريخ سورية الحديث ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية إبان الاحتلال الفرنسي، وهي الفترة نفسها التي مازج فيها سرده الانسيابي التاريخي في الثلاثية " التحولات" ولا سيما "حسيبة" (1987) و " فياض" ( 1990) ونهض الخطاب الروائي على بعدين، الأول هو التاريخي في تغليب سرد السيناريو الرئيس عن الاحتلال الفرنسي وأشكال مواجهته بترميز " فاطمة" التي أقسمت ألا تخرج من بيتها حتى يخرج جنود الاحتلال من مدينتها، ويؤشر هذا الرمز إلى فعل المقاومة برمته إحالة كلامية إلى نعتها بجان دارك سورية، والبعد الثاني هو الحضاري بارتباط الرمز مع جدلية التخلف والتحديث من طرح فاطمة للحجاب والخروج إلى الناس سافرة إلى تمثيلها لحرية الإبداع عن ضنى الحياة لدى اختيارها للتعبير عن الذات المؤرقة والمتطلعة إلى الوجود الحر من خلال فن الرسم وتعضيد ألوان الإقبال على الحياة.
توزعت الرواية إلى فصول معنونة وغير معنونة، فحمل الأول كلمة "صاعقة" إشارة إلى حال المدينة الميتة " ديرالزور" متبدياً في التحولات المجتمعة الكامدة والكامنة، وفي تبدلات الطبيعة من عمق الصحراء أو بادية الشام والسماء القاصفة بضربات البرد إلى وابل المطر الغاضب حتى عمق الروح، وتتماثل هذه الصاعقة مع المتعالية النصية في قول شكسبير "الحياة مسرح"، وهذا هو شأن المخرج السينمائي " يتأمل مجزئاً نفسه على عادته التي طالما تركته على رصيف الحياة يعيش ولا يعيش" (ص5)، وها هو ذا متوجعاً من قول سميحة:" الممثل يعيش بعض حياته على المسرح ، مندمجاً في الدور الذي يمثله، ولكن ما إن يغادر الخشبة حتى يعود نفسه" ( ص 5-6 ).
وألمح الراوي إلى الدليل في المدينة الميتة " أبو الشيما" وحمل الفصل الثاني اسمه عنوانا، بينما أمعن المخرج السينمائي في أسئلة التسييس التي طبعت الحياة كلها، وأفاد أن الآخر حاضر في تمثيله ومرتجاه من التصوير، فهو أقرب إلى زوربا الشامي، وما يقوم به إجابة لطلب المحطة الفرنسية التي أرادت تجسيد المدينة الميتة في شريطه، واستغرق في مواجهة مع النفس من أزماته إلى نمذجة الناس، والإشكالية قائمة، " فهذا الشاب مشروع راسكولينكوف، أما هذه المرأة فليست إلا آنا كارنينا، وحين سمّى واحدة من صديقاته غادة الكاميليا، سعدت بهذه التسمية فترة ، ولكنها حين عرفت أن غادة الكاميليا عاهرة, ماتت بالسل هجرته بعد أن قصفته بوجبة من الشتائم" ( ص16)، وما يزال يرى أصدقاؤه فيه، مثل يوسف ، زوربا، وهو لا يفترق عن رؤية الناس من خلال نماذج أدبية وفنية.
واستمرت الفصول دون عنوانات باستثناء الفصل الثامن " فاطمة السنغال" والفصل الثامن عشر "غسان" والفصل الأخير التاسع " تقارير 6593 سري جداً ".
وشرع الراوي متعاضداً مع منطوق الشخصية الرئيسة في الإفصاح عن الدلالات من خلال الترميز والتورية وعمق التخييل ، فهذه المدن مستقلة بالنظر إلى تحكمية السلطة المحلية التي تصبح معها " المدن الإقليمية والبلدات ممالك مستقلة، كل مدينة، وكل بلدة تعيش استقلالها، وعليك كي تسهل أمورك أن تقابل الملك الصغير" ( ص 17)، أمثال أمين الفرع والمحافظ ومدير الناحية، وهي " مدن كانت تضج بالحياة والصلوات والمؤامرات، مدن كانت تعج بالعشاق والمخبرين ورجال السلطان، مدن تخلت عنها الحياة والأحياء فهجرت.. كما كتب في المعالجة التي أرسلها للمحطة الفرنسية" (ص 18) ورمز لهذه المدن بتدمر والرحبة والرصافة وسرمدا، و فيلمه عن المدينة الميتة لا ينقطع عن خياله الروائي المكبوت.
وزاد أمين الشعبة الذي وضع تحت تصرفهما سيارتين خدمة للعلم والثقافة والتاريخ، وقدم لمدير الناحية مخرجاً كبيراً وكاتباً كبيراً، وأفضى إلى التصوير، لتعود الحياة إلى المشهد الصامت، وقرأ اسم الرسام فاطمة الشاكر واللوحة مرسومة عام 1943، وموجودة منذ العهد الفرنسي لتبدأ جدلية الاستعمار والسلطات المحلية وعمليات المواجهة التي رمز لها بفاطمة.
وترافقوا معاً إلى المقصف على نهر الفرات بدعوة مدير الناحية للغداء، والتقى بغسان الذي خاطبه بأنه ابن فاطمة، لتتمازج الذات الخاصة مع الذات العامة، " فاكتشف لوحة رسمتها أمه قبل ستين سنة" ( ص23) أما الساقي الدليل أبو الشيما فتحرك لهم طويلاً، واستخدمت ألفاظ كثيرة غير معربة إغناء لدلالة التواصل مع الآخر الأجنبي في صفحتي 24و25 على سبيل المثال، مثل " الموسيو" و " وسكي"و " الكريستال" و "كومبارس" و" الكاميرا" و " السينما" ... الخ .
ثم مضى سليمان إلى البيت بسيارته، وتأمل اللوحات ودلالاتها قياساً إلى تجربته، إذ "تحول الصمت إلى طنين داخلي، يطن في الرأس" (ص 31) كلما قرأ لوحة ، ولامس مدلولاتها، من " الساتيريكون بكل شهوانيته وحيوانيته ووثنيته" ( ص 26) إلى قلقه من الساتيريكوني بدواعيه الوثنية الأخرى، فقد " تبدت الوجوه بورتريهات.. وشهق مذعوراً، كانت وجوهاً لفاطمة، إنها فاطمة، أمه، ولكن.. تلفت من حوله حائراً ، غاضباً، فاطمة" (ص 33)، وتلك هي بداية المجازية والتورية عن استخدام فاطمة في تأطير أدلجات الرواية، من خلال وجوه فاطمة المتعددة، وتوازي التصوير ( وفيه شواغله الذاتية ورؤاه) وفضاء التخييل (وفيه الاخيولة او الفنطزة ومكابدات التجربة التاريخية والحضارية).
وأثار الراوي فكرة الرواية عند التفكير بالسيناريو من أول عبارة فيه «لو لم يكن فاطمة» متسائلاً عن دلالات اسم فاطمة من كثرة شجار أمه السوقي مع ابيه ركني البندقدار الى الحيرة المطلقة عن اسم فاطمة تجاذباً مع اوضاع كل فاطمة حيث التداخل بين اسئلة فاطمة عن اسمها واسئلتهم عنها: فاطمة الرسامة، فاطمة السنغال، فاطمة أمه، لتحين المواجهة من «الاوديبية مع أب ميت لا ينافس» (ص47)، الى معاني الوجود والحضارة إزاء فيلمه عن المدينة الميتة ودراسته في موسكو ولقاء شعوب الارض كلها هناك، وهذا هو دأبه في تنابذ القطيعة المعرفية مع الابداع، فأنقذ ما جرى، ويجري معه طوال خمسة عشر عاماً، وهو ينتج اعمالاً، ويعتذرون عن تنفيذها، وتبدى مصدر قلقه عن تحقيق مسعاه: «هل ستنسى ان الموضوع هو فاطمة... هل تستطيع تصوير الممثلة التي تمثل أمك وهي بين ذراعي ...معاوية مثلاً»0ص55)، وعمق السؤال عن بعد الاطروحة الحضارية الشاملة: « أليس هذا الموضوع موضوعاً انسانياً شاملاً يمكن ان نجده في كل الحضارات ولدى كل الشعوب فلم تخجل من مواجهته»(ص56).
وتحولت فكرة فاطمة الى تاريخ ولغة من الموت الى الحياة احياء للمدينة الميتة وفاطمة الميتة تعاملاً مع طغيان الدولة الحديثة واشكالية نساء العصر: ديزدمونا وآنا كارنينا وسونيا راسكولينكوف وروز اوكسمبورغ (ص58) وتعالى التناقض بين النص الادبي والواقع، وتواردت الاسئلة عن فاطمة على الورق وفاطمة في الذاكرة لتشابك الارتباط بين فاطمة الحقيقية وفاطمة الاسم، وتتكاثر التفاصيل والافكار كأن يثار السؤال مثل اسئلة كثيرة: «آه ...لماذا يعمد الرجل الى اذلال المرأة بعد ان يخمد الحب»(ص66).
وتتعمق اشكال مواجهته الذاتية مع نفسه، وهو يقرأ السيناريو ، لأن اسم فاطمة متعلق بأمه وبتحديات الحياة وخياراتها، وفاطمة شخصية ورقية ليصل الى مرحلة التعامل مع فاطمة وركني شخصيتين مخطوطتين، مما يستدعي تجنب التورط بعداواتهما وصداقاتهما، فقد آل التعامل مع فاطمة الواقع الى فاطمة على الورق،من قلق التجربة في حياته المعطلة والمخيبة الى تعاظم الوعي بالتاريخ والحضارة والوجود .
وافصح الراوي عن اطروحة التاريخ وامتداده او انقطاعه في معاينة وقائع فاطمة السنغال عن زوجها من ركني وتحديها للمواصفات وفرض قوانينها في مواجهة السنغال، فقد «اقسمت فاطمة ألا تخرج من بيتها ما دام هناك سنغالي واحد في سورية.( اي جنود الاستعمار الفرنسي)» (ص87).
وأوغل الراوي في الفصل التاسع ( المحذوف الرقم طباعته) في الوقائع مثل مواقف صديقتها مسرة خطيبة نجيب الصحفي غير المتفرغ، اذ نشروا «آخر الرسالة عن المرأة التي تتحدى الرجال الذين رضخوا لمحاولات التهدئة الانكلوفرنسية فلا يجوز تعكير السلام الآن وألمانيا تغزو العالم والديمقراطيات والنازيون قد كشروا عن انيابهم»(ص89).
وصارت فاطمة جان دارك سورية، وحسم السينمائي في تخييله خياراته لرؤى فاطمة من ثلاث سيناريوهات، وفي مقدمتها سيناريو سيرة فاطمة وفيليب قولاً للفرنسيين: «سنقاومكم المقاومة الكبرى، ها نساؤنا اللواتي لسن اقل من جان دارك يعلن احتجاجهن عليكم» (ص92).
وهدأت نفسه ولوغاً في تخييله للواقع وللتاريخ زاعماً ان «فاطمة المخطوط امرأة لا اعرفها... لم أرها ولا علاقة بنوة بيني وبينها، لو كان الامر كذلك افكنت أحبها، صدمه السؤال»(ص95).
وعذبه السؤال - المفتاح في عتبة العنوان، المتعالق مع بنية الرواية عن معوقات النهضة التي آلت الى المدينة الميتة والفقر الحضاري وانحسار الحريات والديمقراطية الحقة: لو لم يكن اسمها فاطمة، لما حضر التاريخ في جنبات الواقع واستشراف المستقبل ، واستأنس بمشروع السيناريو المدهش والحضاري :«حوار شرقي المتوسط وغربيه عبر فيليب وفاطمة» (ص101-102).
غدت فاطمة رائدة مقاومة ضد الفرنسيين وقائدة للمعتصمين والمعتصمات، ونظرت فرنسا الى «فاطمة امرأة طائشة أعلنت الحصار في بيتها ما لم يخرج الفرنسيون» (ص104)، وأمعن الراوي في سرد بعض سيرة فيليب مضياً في تخييله لرؤيا التاريخ في ذروة التعالق بين فاطمة او المعنى على الورق وفاطمة او المعنى في الواقع، إذ «تنهد سليمان اسفاً لقد شفي مصحح النص ومراقبة غليله من خصمه ركني، ولكن ... ولكن..الغريب أنك لم تشعر بالغضب لمواقف فيليب من ركني.. لماذا...لماذا... فيليب الورقي ينافس ركني الورقي على فاطمة الورقية، وأنت... انت... وضع رأسه بين كفيه يفكر ...أنا...أنا»(ص120-121) واتجه الراوي والسيناريو معاً الى بعض وقائع فاطمة زوجة البندقدار إزاء جانب من سيرة فيليب، وثمة قبض على عربيين ومسعى اطلاقهما تورية للتاريخ في تفريد حوادث واقعية مؤرقة على سبيل الدعابة (السخرية المريرة) ثم عادا الى ارضهما على أنهما هربا عاريين حافيين :«إن خزي تسول ما يستران به نفسيهما من أقرب بيت سيجعلهما يفكران عشرين مرة قبل محاولة الامساك بقرني ثور التاريخ وتحويله مرة أخرى» (ص 129)، ثم تضاءلا، وصفرا، «حتى صارا نقطتين ، ثم نقطة مالبث الصحراء والغبار والسراب ان ابتلعهما»(129) وأفاد الراوي في الفصل الثاني عشر بعض سيرة نضال فاطمة ضد فرنسا ضمن الصمود الوطني المستمر.
وشرح في الفصل الثالث عشر مقاومة فاطمة وانتشارها في الاعلام الغربي، وفي الفصل الرابع عشر موقف المفوض الفرنسي من فاطمة وفعلها، ورد الفعل السوري على الانتداب، وامتد الهجاء الى النسوية والذكورية قليلة الانسانية في الفصل الخامس عشر من خلال عملية نشر صورة فاطمة وموافقة الزوج المرغمة، وكأن الذكورية مثيل الخالق إزاء النسوية، فقد قالت فاطمة: إن زوجها يملك حقوقاً كبيرة عليها، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (ص146) وافصحت الرواية استكمالاً للأخيولة فيها ان فاطمة نتاج التخييل لتعضيد الرؤية الفكرية: «ففاطمة المخطوط، فاطمة الورقية لاعلاقة حقيقية تربط بينها، وبين الحوّل ياغنام حول، ولا بفاطمة جوعان بدي آكل ..
إنها فاطمة أخرى ، فاطمة روائية وهذا من حق واضع المخطوط، من حقه الادبي والفكري فها هو الكاتب في لعبة لا ادري مدى خطورتها حتى الآن يحاول ادخالها في دائرة خارج دائرة الطيش والعفرتة والتمرد الممكن لصبية في سنها، تنهد وقد اعجبته التحولات التي ما كان يقدر انه سيقاد اليها ولكنه- فكر- سيعطي للسيناريو زخماً أكبر»(ص153) ولعله سيوافق على انها شخصية روائية ليريح نفسه ولعله يمضي الى الخلاص الروحي ومنجز العمل الفكري في كتابة السيناريو التنفيذي فخاطب في الفصل السابع عشر المحطة الفرنسية المكلف بالعمل لديها أنها اعدت السيناريوهات لانجاز شريطه، وما عليه سوى ملء الثغرات والمهم هو تخييل روائي يستحضر التاريخ لوصف اولئك المعذبين الذين عاشوا في مدينة ميتة رمز البلاد نقدا لحال الذات العامة من ماضيها الى حاضرها.
وجاء الفصل الثامن عشر باسم غسان الذي تخاطبه فاطمة عن نجاتها في الحج على أمل ان يكتب لها في المستقبل ، فهي سعيدة بحوار سيدها وحبيبها وأملها ومستتيبها (ص184).
وختمت الرواية باستكمال الاخيولة فيها تحت عنوان «تقارير 6593 سري جداً» فقد ارسل غسان له تقارير عن الطيارين و...و... ليدرك سليمان اخيراً ان المدينة ماتزال ميتة، وانقطع الحوار مع الآخر بأي لغة وكأنها قطيعة تاريخية ومعرفية وحضارية قصوى مع الذات والعالم ، فقد جرب ان يناديه بالفرنسية والروسية والامريكية دون جدوى، وما تزال الشوارع المتربة المختزنة بالحفر المملوءة بالرمال شوارع مخترقة بحفر مملوءة بالرمال ولا جواب ولا مجيب (ص188).
«رأى شارة منصوبة غبراء مسحت اكثر كتاباتها ضربات الرمال وسفعات الشمس ، مسحها بكمه فرأى سهماً، ورأى رقماً، وعرف ان الاشارة تدل الى الطريق السريع الذي يقود الى المدن الاخرى التي تعج بالناس
رفع قميصه فوق رأسه صانعاً منه قبعة واتجه الى حيث يدل السهم مشيحاً بعينيه عن هياكل الجمال والقعد المنثورة على جانبي الطريق»(189).
(*) : لو لم يكن اسمها فاطمة- خيري الذهبي ، روايات الهلال 2005
د. عبد الله أبو هيف
المصدر: البعث
إضافة تعليق جديد