«صدمة الحداثة في اللوحة العربية» كتاب جديد لأسعد عرابي
لم يدّعِ أسعد عرابي أنه يعيد كتابة تاريخ الفن التشكيلي العربي ويرسم خرائطه، إنما ادعى أنه يحقق في كتابه هذا بعض الإثارة، وهذا الكتاب معدل عن كتاب له صدر العام 2006، ويحمل العنوان نفسه «صدمة الحداثة في اللوحة العربية». الجديد صدر عن «دار نينوى» نفسها، لكن بطبعة أنيقة تليق بكتاب مختص بالفنون، من شأنه أن يبرز عدداً كبيراً من اللوحات الملونة التي احتلت 63 صفحة. تفنن في إخراجه الفنان أحمد معلا.
قارئ الكتاب يجد نفسه أمام ناقد محترف، لا يدرك فقط الأبعاد النظرية لموضوع الحداثة في الفن التشكيلي، ولا يتوقف عند النظريات التي أطلقها نقاد وفنانون عرب في هذا المجال، إنما يذهب أكثر من ذلك في الحفر في التجارب العربية. ومما لا شك فيه أن أسعد عرابي يكاد يكون الناقد العربي الوحيد، من الجيل الجديد، الملم بالتجارب العربية في مشرقها ومغربها، والأكثر متابعة للتجارب القديمة والحديثة منها، وعلى تماس بالعديد من الفنانين، من خلال تنقله الدائم، فضلاً عن إقامته الباريسية التي جعلته على تماس ليس بالتجارب الغربية الجديدة وحسب، إنما بالتجارب العربية المهاجرة أيضاً، إضافة إلى هوسه في البحث عن تراثنا المقيم في خزائن العالم ومتاحفه.
المهم أن عرابي يتقدم في تحاليله ووجهات نظره من دون مهابة أحد، ولا رهبة من أسماء كبيرة، ولا انحياز إلى فئة أو جنسية أو تيار أو عصابة، وبعيداً عن العصبوية التي من شأنها أن تخرب كل شيء، ذلك أن ثقته بنفسه، وقدرته على إعطاء الحجج، وتقديم مادة نقدية مقنعة، تجعل مواجهته لا تحيد هنا عن فلان، ولا تستثني هناك فلاناً. على أن همه ينصبّ دائماً على حفر مهني صادق في تجارب الفنانين وفي التظاهرات الفنية.
المشكلة في الكتاب لا تكمن في كل بحث من بحوثه على حدة، إذ يعطي المؤلف كل عنوان من عناوين فصوله حقه بالتمام والكمال، كما يحفر عميقاً في تفاصيله. إلا أن تكوين الكتاب من مجموعة أبحاث منفصلة، كتبها أسعد عرابي في تواريخ مختلفة، سبّب بعض الإشكالات المنهجية، التي كان يمكن تفاديها لو أن الكاتب ألّف كتابه بتخطيط يأخذ بعين الاعتبار متطلبات العنوان الرئيس، لا كيفية ضم مجموعة من الأبحاث المتجانسة بين دفتي كتاب واحد.
هكذا كان على عرابي أن يعيد النظر ببعض ما جاء في مقالاته وأبحاثه قبل أن يدخلها في الكتاب، أي كان عليه أن ينحتها كي تأخذ مطرحها في المؤلف الجديد، وهذا ما حاول إنجازه، إلا أن ذلك من الصعب أن يحصل، ليس في كتاب عرابي بالذات، إنما في كل الكتب التي يجمع فيها أصحابها مقالاتهم وأبحاثهم في إصدار جديد. بقي أن الفصل الأخير الذي أعطى فيه المؤلف فسحة للمختبر البصري، جاء أكثر انسجاماً مع منهجية تأليف كتاب، خصوصاً أنه أضاف إليه ما يهرب منه بعض المؤلفين، أي الشرح النقدي الخاطف لكل عمل من الأعمال المصورة، مع اختصار مكثف لصاحبه.
تظهر مشكلة المنهجية التي نتحدث عنها، في فصول الكتاب، على شكل تكرار لبعض الأفكار والعبارات، وقد رصدنا ذلك في الصفحات 37 و38 و58 و75 و130 و160، حيث تكرر ما جاء في صفحات سابقة. كما تظهر في بقاء آلية المقالة السريعة التي تحتمل أحكاماً خاطفة، وتحتمل عدم التوقف عند التواريخ الدقيقة، كأن يقول مثلاً «شهدنا منذ عقود قريبة اجتياح أشعة لايزر». آلية البحث العلمي تقتضي الصبر أكثر، والتأكد من التواريخ والأماكن. وهو، إلى ذلك، يعرف أن النصب الذي نفذه النحات الفرنسي الراحل أرمان ليس في وسط بيروت، كما ذكر، إنما أمام وزارة الدفاع في تلة مطلة على بيروت. وقوله إن كورنيش جدة يعانق أعمال أشهر النحاتين والأوابد العالمية على مساحة «عشرات الكيلومترات» (ص 96)، يحتاج إلى تدقيق، فالرقم الدقيق 12 كلم يختلف عن «عشرات». ومن المشكلات المنهجية أيضاً التفاوت في مستوى الفصول، بين واحد يغرق في الناحية الإخبارية، وآخر يغرق في فلسفة الفن إلى أبعد حدود.
وإذا كان المؤلف يعتمد العودة دائماً إلى أصول الأنواع التشكيلية، أي يغوص عميقاً في التأسيس لأفكاره وآرائه، وتدعيمها بالأمثلة الواضحة المقنعة، ويؤكد جدية عالية وملحوظة في التعامل مع الموضوع المكتوب، فإن هذا التوسع جعل الأصول في موضوعه أكثر اتساعاً من الفروع، أي أن حضور التراث الفني والحفر فيه أخذا مساحة أوسع من مسألة الصدمة التي أصيبت بها الحداثة العربية. وجاء البحث المهم الذي قدمه حول هوية الفن العربي والمكونات الأساسية لهذه الهوية، على حساب تفصيل الاتجاهات الحديثة في التشكيل العربي.
هكذا تركز الفصل الأول من الكتاب على البحث في ذاكرة الحداثة، محتلاً ما يقارب نصف الكتاب، متنقلاً بين صناعة الكتاب، والحروفية، والخصائص المتوسطية، وفن الأوبتيك العربي ونحت المدينة (المحراب) وعلاقة العمارة بالرقش... كلها عناوين مهمة، لكنها حملت الكثير من الاستطرادات التي سررنا بها وكانت مفيدة، لكنها تفيض على حاجتها. نستطيع أن نمثّل على كلامنا بما جاء عن الحروفية في هذا الفصل. فهي المرة الأولى التي نقرأ فيها إحاطة كاملة ومركزة بالحروفية العربية، لكنني أظن أن طبيعة الكتاب لا تحتمل كل هذا التوسع، كما لا تحتمل التوسع في صناعة الكتاب العربي، والأعمال الميكانيكية عند العرب...
تندرج كل هذه الملاحظات ضمن الشكل، إلا أن مضمون فصول الكتاب كان مفيداً جداً، وضرورياً لوضعنا أمام إشكالات الحداثة التشكيلية العربية، وبالتالي رسم ملامح صدمة الحداثة التي نحن بصددها. المهم أن الاستطرادات والتوسع في التحليل جاء بهدف إعطاء الحق والإخلاص لموضوع البحث المستقل قبل ضمه إلى الكتاب، لا بمنطق الاستعراض الذي ينهكنا به بعض النقاد.
ولا بد من ملاحظة أن خروج البحث عن المنهجية الصارمة كانت له بعض الإيجابية التي لا نستطيع القفز فوقها، إذ سمح له هذا الخروج بكسر برودة البحث العلمي، والتعبير بالتالي عن بعض الانفعالات، التي أطلقت قلمه نحو ضرورة الفضح وتصويب أنظار القارئ إلى خطورة في اتجاهات بعض الفنانين العرب، عندما يذكر أن بعض الفنانين العرب سافروا إلى إسرائيل منذ سنوات لتهنئتها بعيد ميلادها، وأن أحد الفنانين المغمورين الجزائريين يقيم معارضه في باريس احتفاء شكلياً بالشمعدان الإسرائيلي، وأن أحد مشاهير الحروفيين يخلط الخط العربي بالعبري...الخ (ص22).
وبدا عرابي جريئاً في تناوله تجارب بعض الفنانين مثل السوري مروان الذي «تشارف لوحته حدود ما بعد الحداثة، عندما تتمدد على فلك الفراغ ضمن طوبوغرافية مجهرية، لكنه يظل أسير الأسلبة التعبيرية الجرمانية» (ص 159). كذلك انتقد العراقي شاكر حسن آل سعيد واعتبر أنه «شارك من دون قصد في الالتباس حول الحروفية، فلوحته غربية بحتة ذات ثلاثة أبعاد، موادية على غرار جداريات تابييس. أما كتاباته العاصفة فهي أقرب إلى الحساسية العدمية الدادائية منها إلى العرفانية الغرافيكية التي بشر بها» (ص 52). وفي مكان آخر دعا إلى التخلص من الأفكار النقدية السابقة بقوله: من الأفضل رفع اسم التيار «الحروفي» إلى «غرافيكي» (ص 27).
كعادته المعروفة، لا يستطيع أسعد عرابي أن يبقى هادئاً وبعيداً عن المشاغبة، ليس على الفنانين وحسب، بل على النقاد أيضاً، عندما «يتعصب بعضهم للطرف القبطي في تجربة الفنان المصري جورج بهجوري، ويخرجه آخر من إطار اللوحة بتهمة الكاريكاتور» (ص 23). وفي مكان آخر يستهجن كيف «توصل أحد النقاد اللبنانيين إلى اعتبار أن أصل الفن اللبناني يرجع إلى كنائس الفاتيكان، بدلاً من البحث في تأثير الإيقونة الشرقية المالكية السريانية.... (ص 26). ويتحدث، بشيء من الحرقة، حول عجز النقاد عن كتابة تاريخ فن الأمة العربية خلال قرن من الزمن، معتبراً أن ذلك، لو حدث مع قدرة على التمييز بين النخبوي والاستهلاكي، لسقطت أسماء كثيرة، وظهرت مفاصل أساسية مضمرة (ص 26 و27).
في الكتاب وقفات بارزة أمام تجربة الفنان الجزائري الفرنسي رشيد كمون، وأمام تساؤله: «كيف نعيش في مدن وشقق تناقض أشكالنا العضوية المكورة، لا شك في أن الطائر أشد ذكاء وفطرة منا، لأن عشه يشبهه» (ص 116). وأمام تجربة الفنان المغربي محمد القاسمي «العربي الوحيد الممثل لفناني البيئة وبتقنية البرفورمانس، دون انقطاع عن تقنية التصوير على القماش. فهو أنجز أقمشة عملاقة صباغية، بالاشتراك مع عمال مصابغ مدينة مراكش (ص 142). وتوقف عرابي أمام البرفورمانس كواحدة من تجارب ما بعد الحداثة، «التي ترفع الحواجز بين التعبير الفني والحياة اليومية، بحيث تتحالف في أداءاتها الجماعية شتى الفنون السمعية - البصرية والتوثيقية، ابتداء من الإيمائية والمسرح والسينوغرافيا والرقص، وانتهاء بالمؤثرات الضوئية والصوتية وإسقاطات الفيديو، مروراً بالمنشآت الفراغية والملصقات والديكورات والهولوغرافي» (ص 138). كما توقف عند إبهارات نحت الهولوغرام، وتسرب أشعة لايزر إلى ساحة التعبير التشكيلي، معتبراً هذه الظاهرة اليوم من أبرز التنبؤات حول مستقبل التشكيل البصري (ص153).
نعم، يحمل عرابي راية الفن العربي بشيء من التوازن، فهو لا يضعه في مكان متقدم في الفن العالمي من جهة، لكنه يطالب بعدم إنكار تقدمه، وإن بشكل متعثر، في دخول مخاض وعر للوصول إلى الساح العالمية، من جهة أخرى، مستنكراً ما يجري من شطب وتغييب لدور الفنانين الغربيين اللامعين ذوي الأصول العربية، ومن إبعاد لمشاركة الفنانين العرب عن المشاركات البارزة في عواصم الفن. ولما «كان الفنان العربي اليوم لا يملك القدرة على الانفصال عن مفاهيم الحداثة التشكيلية في الفن الغربي، فإن هذا الإقرار بالتواصل لا يعطي للنقد الغربي الحق في مسخ صورة الفن العربي، واعتباره نسخاً مكرورة مستلبة ومنقولة عن النماذج الغربية» (ص 173).
كتاب مفيد في فهم منابع الفن التشكيلي العربي وأسسه التاريخية، بعيداً عن الدفاع الأهوج عن هوية صافية مصفاة، وقريباً من واقعية غير مستسلمة لتقدم الغرب. وإذا كان عرابي يطرح الكثير من الأسئلة حول المستقبل، فإننا نعثر في كتابه أيضاً على الكثير من الأجوبة التي تؤسس لفهم تاريخنا الفني، والانطلاق به نحو المستقبل بثقة أكبر.
أحمد بزون
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد