تعقّب مسيرة مدام بوفاري عبر الإنترنت
قال هنري جيمس عن غوستاف فلوبير يوماً إنه «روائي الروائيين». لكن ما الذي دفع هذا الروائي الكبير إلى الاحتفاظ بكافة مخطوطات أعماله؟ ربما أراد أن يثبت لأسرته المكونة من أطباء شكاكين بأن الكتابة عمل شاق، أو ربما كان غير قادر على رمي أي شيء في سلة المهملات، أو ربما كان يشعر بخشوع عميق تجاه القوى الخفية للأدب والفن.
على أي حال بدأت حالياً في منطقة روين، مسقط رأس فلوبير في مقاطعة نورماندي، محاولات فريدة من نوعها تهدف لكشف الأسرار الدفينة لمخاض العملية الإبداعية التي مر بها هذا المبدع الكبير. فقد تبرع نحو 130 متحمساً ينتمون لـ13 دولة بنسخ الصفحات البالغ عددها 4561، التي كان فلوبير قد قام بكتابتها وإعادة كتابتها مراراً وتكراراً لتتحول في نهاية المطاف إلى تلك التحفة الأدبية التي تحمل عنوان «مدام بوفاري»، والتي لا يتجاوز عدد صفحاتها الـ400 ونيف، ثم قاموا بنشرها على الإنترنت.
الباحثون في مجال الأدب كانوا يعلمون منذ زمن بعيد بشأن هذه المخطوطات، إلا أن ضخامة حجمها جعلتهم يترددون في الاقتراب منها. ويرى إيفان ليكليرك، الاختصاصي في فلوبير في جامعة روين، والذي يقف خلف هذا المشروع، إن الباحث الواحد يحتاج بين 3 و10 ساعات من أجل فك شيفرة صفحة واحدة من كتابات فلوبير اليدوية، التي هي في قسمٍ كبير منها عبارة عن كلمات مشطوبة وخربشات في الهوامش وكلمات مقحمة بين الأسطر. لكن بفضل فريق متطوع مكون من معلمين وأكاديميين وأطباء وموظفي جمعيات خيرية من كل من فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا والأرجنتين ونيوزيلاندا وتايلاند، فقد تم الانتهاء من عملية النسخ هذه في غضون سنتين ونصف.
يقول ليكليرك «إنها المرة الأولى التي يتم فيها وضع هذا الكم الهائل من المخطوطات على الإنترنت». ثم يضيف أن هذا العمل ما كان ليرى النور لولا الأطروحة التي قدمها أحد طلابه وتناول فيها إعادة ترتيب صفحات المخطوطات الخاصة بأعمال غوستاف فلوبير.
لقد بذل فلوبير (1821 - 1880) جهداً كبيراً في كتابة هذه الرواية التي تتناول مواضيع شتى، مثل الإحباط والجنس والدين والعلم. فقد بدأ بكتابتها في العام 1851 وانتهى منها بعد مضي نحو أربع سنوات ونصف، وهيمنت على كافة جوانب حياته خلال تلك الفترة، حيث عمل بها في منزله الريفي المحاذي لنهر السين في قرية كرواسيه في روين، وأحياناً في شقته في باريس. وفي هذه الرواية أتقن الأسلوب الموضوعي البعيد عن الذاتية في الكتابة، الأمر الذي جعل الباحثين يعتبرونها أول رواية حديثة. كان يهتم كثيراً بالصوت الموسيقي لكل كلمة يكتبها؛ ومن بين التقنيات التي اعتمدها هي أنه كان يردد الجمل التي يكتبها بصوتٍ عالٍ ليضمن بأن كتاباته تحتوي على كافة المقومات الموسيقية للشعر.
وبعد نشرها على شكل حلقات في مجلة «لا ريفيو دو باري» العام 1856، تمت محاكمة فلوبير والناشرين بحجة انتهاك الأخلاق العامة والتعدي على الدين. وبعكس رواية دي إيتش لورنس «عشيق الليدي تشاترلي»، التي نُشرت بعدها بنحو نصف قرن، وحوكمت بسبب تصويرها لعلاقة عاطفية تنشأ بين طبقتين اجتماعيتين مختلفتين، فإن أسباب محاكمة «مدام بوفاري» تمثلت في اللغة الجنسية المستخدمة وفي التقريب بين الصور الدينية والجنسية، وأيضاً في استخدام كلمة «الزنى» التي كانت محظورة آنذاك. لكن بفضل العلاقات التي كانت تجمعه بالمسؤولين وبعض الأشخاص النافذين، فقد تمت تبرئة فلوبير والناشرين، وحققت الرواية نجاحاً مذهلاً بعد تلك الفضيحة. لكن فلوبير لم يقتنع بهذا النجاح، لأنه كان يريد من الناس أن يُعجبوا بالجانب الفني والأدبي الرفيع لهذه الرواية، لا أن يقبلوا على قراءتها بسبب الفضيحة التي أثارتها.
ويتمتع الموقعان www.bovary.fr و flaubert.univrouen.fr/، اللذان خُصِّصا لنشر هذه المخطوطات، بدرجة عالية من الجاذبية نظراً للحقائق العميقة التي يقدمانها حول صناعة الرواية. يُعتبر فلوبير من الكتاب الموسوسين، حيث كان أحياناً يعيد كتابة الصفحة الواحدة نحو 20 مرة، لكنه كان دائماً موفقاً في ذلك، فكان تارةً يكثِّف وتارةً يقص العبارات الانتقالية وتارةً أخرى يحذف الاستعارات، كما كان دائم الحذر من استخدام الكلام المباشر لأنه في رأيه يضفي صبغة مسرحية مبالغاً بها. ولم يكن يكف أبداً عن إدخال التعديلات حتى تصل الرواية إلى الطبعة الأخيرة. وقد أعاد فلوبير كتابة أحد المقاطع الشهيرة من رواية «مدام بوفاري» 52 مرة، وهو المقطع الذي يبدأ عندما تكون بطلة الرواية إيما بوفاري في حالة من الإثارة البالغة نتيجة العلاقة العاطفية الجديدة التي أقامتها مع الأرستقراطي رودولف، فتتسلل إلى خارج منزلها عند الفجر وتجري عبر الحقول حتى تصل إلى غرفة نوم عشيقها.. في البداية ينتاب رودولف شعور عميق بالبهجة عندما يتم إيقاظه من قبل تلك المرأة التي تفوح منها رائحة الحقول والندى، لكنه لا يلبث أن يشعر بأن حيويتها وعاطفتها البالغة قد تجلبان لها المتاعب، فيحذرها من التمادي في خوض المغامرات. ولخشيتها من أن ينفر منها تتخلى عن طابعها اللامبالي. وفي صباح أحد الأيام تلتقي بجابي الضرائب الذي كان يحاول اصطياد بطة برية بجانب النهر.
قراءة النسخ المتعاقبة التي كُتب بها هذا المقطع، بدءاً من النص المنشور وصولاً إلى مختلف المسودّات والأجزاء المهملة، تُعتبر أشبه بالغوص بين طبقات اللاوعي لدى الكاتب. وبإمكان زوار الموقع على الإنترنت أن يضغطوا على شريط ملون (الأزرق للمسودات والأصفر للأجزاء المهملة، الخ) لقراءة كل نسخة على حدة، كما يمكنهم إجراء مقارنة بين النص الأصلي المكتوب باليد والنسخة المطبوعة عنه. فضلاً عن ذلك بإمكان القراء أيضاً إرسال ملاحظاتهم في حال عثروا على أية أخطاء.
مالك عسان
المصدر: «أوان» الكويتية نقلاً عن مجلة «بروسبيكت» البريطانية
إضافة تعليق جديد