جامع خالد بن الوليد... رمز حمص
جامع «سيدي خالد»، كما يلقّب في حمص، هو الصرح التاريخي والسياحي والديني للمدينة. مئذنتاه المضلّعتان بالحجر الأبيض ترشدان الزائر إليه عبر ساحة حمص الواسعة. ففي تلك المدينة التي تشتهر ببيوتها المتوسطة العلوّ تبرز مئذنتا الجامع وقببه. وجامع خالد بن الوليد يخبر تاريخ مدينة حمص، من ناحية البناء والتعايش الديني. فسكان هذه المدينة المسلمون يفاخرون بأن عائلات مسيحية شاركتهم في بناء جامع الصحابي الجليل، ومن ناحية البناء فإن مزيج الحجر الأسود والأبيض الذي بُنيت به أركان الجامع هو شكل يكاد يكون موحّداً في البيوت الحمصية والكنائس القديمة. فحمص تعرف بأمّ الحجار السود.
يعود تاريخ بناء هذا الجامع إلى عام 1266، عندما أمر الظاهر بيبرس أثناء عبوره حمص ببناء جامع يليق بمقام الصحابي الجليل. لكن، البناء اقتصر آنذاك على ضريح من الخشب، سجّل بجانبه بيبرس توثيقاً لانتصاره على الممكلة الأرمنية. وتشير إلى ذلك كتابتان أثريتان بالخط النسخي حفرتا على قطعتين خشبيتين مؤرختين في 664 للهجرة. بعد ذلك اهتم أكثر من سلطان مرّ بحمص بتدوين انتصاراته في جامع خالد بن الوليد، ومنهم السلطان المملوكي صلاح الدين خليل عندما انتصر على الصليبيين في الساحل عام 1292. لكن، لم يتمّ إنجاز البناء الفعلي للجامع حتى عام 1895، ولتشييده قصة.
يروي المؤرخ الحمصي فيصل شيخاني: «كانت للسلطان عبد الحميد الدروبي أخت مرضت مرضاً شديداً وغريباً أعيا الأطباء من ألمانيا إلى الصين، فنصح العلماء السلطان بأن يستعين بخبراء الطب النبوي، ووقع الاختيار على الشيخ محمد سعيد زين العابدين المشهود له ببراعته في الحكمة وطب الأعشاب، وبالفعل، نجح هذا الشيخ في شفائها بواسطة أدوية قام بتركيبها من الأعشاب. أرادت الأميرة مكافأته بأراضٍ يختارها أينما يريد، رفض الشيخ ذلك لأنه رجل علم ودين، لا دنيا ومال، لكن السلطان عبد الحميد أصرّ على إهداء الشيخ الحكيم قائلاً: «اختر أي شيء في اسطنبول لأقدّمه لك، معك ثلاثة أيام لتفكر»، عاد الشيخ محمد سعيد زين العابدين بعد الأيام الثلاثة ليقول للسلطان: «أعجبتني جوامع اسطنبول كثيراً، لكن أكثر ما أعجبني كان جامع السلطان أحمد، فأتمنى أن يكون في حمص جامع مثله على قبر الصحابي خالد بن الوليد».
من هنا كانت ولادة مسجد خالد بن الوليد في حمص، وكان شكله الهندسي صورة طبق الأصل عن جامع السلطان أحمد في تركيا، لكن بمساحة أصغر. وتقول بعض الروايات إن مهندساً معمارياً أتى خصيصاً من اسطنبول، وتخرّج من جامعة السوربون الفرنسية، كلفه السلطان عبد الحميد بإجراء مخططات الجامع. وقد خلّد اسم المهندس علاء الدين أولسوي وصورته في المتحف الإسلامي المبني في الجامع. والمعروف أن أبناء كل حي في المدينة شاركوا بأعمال مجانية في البناء، فبعضهم ينقلون الحجارة، وآخرون يقومون بالعمران.
بُني الجامع من مواد مجلوبة كالكلس والتراب والحجر الأسود. والقرميد الذي صنعت منه القباب جُبِلَ وشُوي بأيدٍ حمصية، ولم يؤتَ من الخارج سوى برخام المنبر والمحراب، أما الحجارة البيضاء فقد جيء بها من حماه وغيرها. يضيف شيخاني عن أشهر المعماريين الذين بنوا الجامع فيقول: «شارك في بناء الجامع من المسيحيين عارف بن عبد الله خزام (1880-1940) الذي بنى أروقة الجامع وصحنه وبحيرته، وكان لقبه «المعمار باشا» أو رئيس البنّائين. بعد تخطيط المهندس التركي أُرسل «المعمرجي» السوري إلى القاهرة ليطّلع على نمط معمارية جامع محمد علي فيها، فجاء جامع خالد بن الوليد مزيجاً من العمارة التركية والمصرية بأيدٍ حمصية. وقد ساهم المعماري إميل عارف خزام أيضاً في بناء قسم حديث من الجامع، وكان آخر الاختصاصيين في بناء المصلبات والأقواس ومن مؤسسي نقابة المقاولين في حمص، إضافة إلى المعماري مطانيوس خزام الذي ساهم في بناء الجدران والمآذن، بمساعدات من أفراد آل سارة وآل برجود في حمص. هنا، تجدر الإشارة إلى أن التحديثات والترميمات التي شهدها الجامع بدأت عام 1912 من بنّائين حماصنة بعد مداولات جرت بين السكان المحليين والسلطة الحاكمة في اسطنبول، وفي عام 1959، أضيفت بعض الترميمات، وتم إنشاء مدرسة وقاعات للمحاضرات ومتحف للآثار الإسلامية عام 1972 داخل الجامع. لدى دخولك باب المسجد الرئيسي تجد إلى اليمين ضريح الصحابي خالد بن الوليد محاطاً بصلوات وأدعية المسلمين والمسحيين الذين يزورونه، ما يختصر قصة التعايش الديني في حمص وبقية المدن السورية. وتعلو 9 قبب صحن الجامع، أعلاها القبة الوسطى ويبلغ ارتفاعها نحو 30 متراً، وفي صدر الصحن توجد ثلاثة محاريب (جمع محراب) لكل منها عمودان من الرخام الأبيض. وقد زيّن المحراب الأوسط برخام ذي أشكال هندسية، ملوّنة بالأحمر والأسود والأبيض.
ويضم الجامع في جهته الشمالية عدداً من الأروقة والأقواس المبنيّة وفق نمط البناء «الأبلق»، أي توالي الحجارة السوداء والبيضاء وهو النمط المعماري السائد في حمص. لا يعدّ جامع خالد بن الوليد رمزاً دينياً للمدينة فحسب، بل هو مركز سياحي وتاريخي ويعتبر اليوم من المحطات الأساسية في زيارة حمص، وخاصة أنه في بداية طريق حماه لا يحتاج الوصول إليه سوى بضع دقائق مشياً على الأقدام من مركز المدينة.
همام كدر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد