غسان الرفاعي: كلا.. الكون لم يعدد قرية صغيرة
الثنائية الفاضحة في القرن الحادي والعشرين هي المواجهة بين «تكاملية» العالم من جهة، وانشطاره من جهة أخرى، إذ مادام من المستطاع قصف أي مدينة في العالم من أي قاعدة عسكرية، ومادام أي »ارتجاج« في بورصة لندن أو طوكيو أو نيويورك قد يؤدي إلى إفلاس مؤسسات إقليمية مزدهرة، وتسريح عشرات الألوف من العاملين فيها، ومادامت كانت شاشات التلفزيون قادرة على أن تنقل «غثاثات وابتذالات» مافيات الإعلام إلى كل القارات، ومادام يتعذر تسوية أي قضية بشكل منعزل أو مستقل، دون تدخل إقليمي أو دولي، فإنه لابد من الاعتراف بأن هذه التكاملية، أو على الأصح هذه «العولمة» قد استقرت في كل الضمائر كواقع لا يمكن تجاوزه، ولكن يوجد انشطار فاقع، في مقابل هذه العولمة يقوم على الإقرار بأن 20% من سكان الأرض يحتكرون 80% من ثروات العالم، وان ازدهار قلة متخمة في الغرب يكلف العالم «هيروشيما جديدة» كل يومين -كما يقول «روجيه غارودي».
وينعكس هذا الانشطار على المفردات المتداولة في أدبياتنا: إننا نسمي «تقدماً» التخريب المنهجي للإنسان والطبيعة، ونسمّي «حرية» النظام القائم على حرية السوق التي تسمح للأقوياء أن يفرضوا نهجهم على الضعفاء، ونسمي «عولمة» لا الحركة التي تتخذ من حوار الحضارات مدخلاً إلى تحقيق الوحدة السمفونية للعالم، وإنما، على العكس، المؤامرة الخبيثة التي تسعى إلى تقسيم العالم إلى شمال متخم وجنوب مملق، وتقوم على الهيمنة الامبريالية، وعلى تدمير الخصائص والهويات الحضارية المختلفة بهدف فرض «اللاثقافة الاستهلاكية»، ونسمي «تنمية» نظاماً في الإنتاج والنمو الاقتصادي إنتاج غير المفيد، بل المؤذي، بل القاتل، مثل إنتاج الأسلحة الفتاكة، والمخدرات، والمواد الغذائية السامة.
ـ 2 ـ
أهم تطور شهده هذا القرن تجاوز الخطوط الحمراء، وقبول الانتهاكات السياسية والأخلاقية على أنها أمور طبيعية، أو على الأصح، تحويل المحرمات إلى قوانين معترف بها، أو إلى حقوق مشروعة. يتساءل «جاك جوليار» الذي مازال يعتنق اليسارية: »هل نحن بصدد تبرير القتل، وانتهاك كرامة الإنسان، وإحلال النظام الجنائي مكان النظام الأخلاقي؟«. هناك حدود حمراء لا يجوز تجاوزها في كل الحضارات، بل إنها موجودة حتى في شريعة حمورابي 1700 سنة قبل المسيح، ولكن ما يجري اليوم هو انتهاك لهذه الحدود وتبرير لهذا الانتهاك بحجج لم تخطر على بال أعتى البرابرة في التاريخ، ومن المؤكد أن المجتمعات التي تقبل، بل تبارك هذه الانتهاكات والتجاوزات تصبح مجتمعات قمعية، تقبل الاستبداد، لأنها تمارس الاستبداد ضد غيرها، وإلا فما تبرير تدمير المنازل على رؤوس أصحابها، وحرق المزروعات، وممارسة القتل بإيعاز من أكبر مسؤول في الدولة؟ ما تبرير حرمان المعتقل الذي لم تثبت إدانته بعد من حقه كإنسان، ومعاملته معاملة الحيوان الكاسر، ووضع التشريعات والقوانين لإضفاء الشرعية على مثل هذه التجاوزات، وكأن المحرمات أصبحت جزءاً من العقائد.
ـ 3 ـ
لقد سقط مفهوم «القرية الكونية»، وليس صحيحاً اننا نتقاسم كل شيء، وان مفاهيمنا قد تتلاقى، والأصح أن هناك خندقين يتمترس وراءهما صنفان من البشر يفترقان في كل شيء. إن شاشة التلفزيون التي تنقل كل ما يجري في كل مكان تعمّق الخلاف، وتظهر لنا أن الآخر قد يكون بغيضاً ومخيفاً. وانه لا يمكن التواصل معه. كيف تريد من الفلسطيني الذي يشاهد التنكيل الذي يعامل به أطفاله وأقرانه أن يقتسم ذات المشاعر مع الإسرائيلي الذي يتلذذ برؤية هذه المشاهد.
هناك ثلاث كوارث تهدد العالم اليوم: الجوع، البطالة، الهجرة، ولهذا سبب لا يحلو للكثير الاعتراف به: إن المسافة بين عالم التخمة، وعالم الإملاق تتسع باستمرار، ومن خلال الثلاثين سنة الأخيرة قفزت هذه المسافة من 30 إلى 150 ضعفاً، وثبت أن خمس العالم من المترفين الجشعين يستثمرون أربعة أخماس العالم المتبقين وان هناك ما لا يقل عن مئتي مليون عاطل عن العمل، يعيشون حياة لا تليق بالحيوانات على أرض جدباء. هاجس النمو السريع القائم على طوفان الإنتاج، وسرعة تصنيعه هو الذي يسكن أباطرة الاستفراد الغربي، ولا يعنيهم في شيء نوع الإنتاج، ولا فائدته، وقد يكون الإنتاج المؤذي بل القاتل /كإنتاج الأسلحة الفتاكة/ مرغوباً فيه أكثر من الإنتاج الضروري، ومن هذا المنظور ينحصر الإنسان بين الإنتاج الكثيف والاستهلاك السريع، وقد يتعذر عليه الخروج من هذه الحلقة المفرغة المزورة.
ـ 4 ـ
ولكن هناك حركة رفض عالمية، تقف بشجاعة في وجه «العولمة الغربية» وتعقد المؤتمرات الصاخبة في عواصم العالم للتنديد بالطغيان الذي يقوده «أشرار يرتدون مسوحَ الرهبان»، وهذه الحركة المتفلوذة لا تدعو إلى الاستيلاء على السلطة، ولا إلى إسقاط الأنظمة القائمة، وإنما تسعى إلى إحداث التغيير بالطرق السلمية وتنادي بالعصيان المدني، وتفاخر بما قاله «ماركوس» من أميركا اللاتينية حينما بدأ تمرده:
ما الذي ينبغي أن نعتذر عنه؟ أنعتذر لأننا لم نمت جوعاً؟ لأننا لا نكتم شقاءنا وعذابنا؟ لأننا لم نتحمل بتواضع وصبر الاحتقار والإذلال والقمع؟ لأننا حملنا السلاح بعد أن فشلت كل وسائل الإقناع الأخرى؟ لأننا أردنا أن نثبت للعالم بأسره أن الكرامة الإنسانية مازالت تغلي في القلوب؟ من الذي ينبغي أن يعتذر ممن؟ هؤلاء الذين صبروا لسنوات، ورفضوا الموت الذي يدق أبوابهم كل يوم، أم الذين يمارسون القتل والقمع والنهب والاغتصاب؟ هل نعتذر لأننا لم نعد نخاف، ولم نعد نحتمل، وقررنا أن نصرخ بشجاعة: «كفى، كفى!»؟.
ـ 5 ـ
على أن «العورة» الأخلاقية الكبرى التي تشكو منها المجتمعات المتقدمة والمتخلفة على حد سواء هي انتشار الفساد، ومما يدعو إلى الدهشة أن أحد غُلاة الكتاب المجندين لخدمة أباطرة المال والفساد يفاخر بأن جماهير الناس، في كل مكان، يعيدون انتخاب السياسيين المتهمين بالفساد، دون احتساب للأذى الذي يمكن أن يلحقوه بالمجتمع. وإذا كان القضاة قساة على الفاسدين فإن الأوساط الشعبية أميل إلى التساهل معهم، بل لعلها تنظر إليهم بإعجاب، إن لم يكن بإكبار.
أجرت عالمة الاجتماع «جانين لوسوز» استطلاعاً لمعرفة كيف ينظر عامة الناس إلى السلطة الفاسدة، وكيف يفسرون تزاحم المسؤولين السياسيين على عقد الصفقات المشبوهة في دهاليز الهرم الحاكم. وقد رصدت 6 مواقف تتراوح من الإدانة المريرة إلى التبرير المتعاطف.
يجسد الموقفَ الأول المتطرفون وغلاة اليساريين، وهؤلاء يصرون على معاقبة الفاسدين مرتين: معاقبتهم شخصياً لتخلعهم الأخلاقي ومعاقبة الأحزاب والتيارات التي يمثلونها. إن الشخصيات السياسية المتحدّرة من أوساط غنية عريقة غارقة حتى أذنيها في «طنجرة الفساد» في سن مبكرة، إذ تلقن، منذ طفولتها، على تقديس الربح والمنفعة. وسلوكها الشائن بعد أن تسلمت مسؤوليات سياسية هو انعكاس لأخلاقية أوساطها التقليدية، في حين يلقن اليساريون، وفي سن مبكرة على احترام المال العام، وعلى الفصل بين الفائدة الشخصية والنّفع العام.
ويتجلى الموقف الثاني في رفض التسامح، وإدانة الفاسدين بقسوة، إذ يؤخذ عليهم أنهم دخلوا المعترك السياسي لغرض واحد، هو توريم ثروتهم الشخصية، والاغتناء بسرعة. يؤخذ على هؤلاء انتهازيتهم الرخيصة، واستغلال مناصبهم للحصول على المزيد من المال الحرام، بالإضافة إلى أنهم يجسدون القدوة السيئة، إذ ينتظر أصحاب المصالح أن يعاملوا بذات القدر من التسامح، على الرغم من أنهم ليسوا مؤهلين لهذا التسامح.
وهناك فئة من المتنفذين في المجتمع تجمع بين الاستنكار المخملي الهش والتسامح المتعالي، وحجة هذه الفئة أن الفساد هو سلوك إنساني طبيعي، وقد عرفته المجتمعات منذ أقدم العصور، ولولا الحملات الإعلامية التي تشن على الفاسدين لاغتفر الناس لهم سلوكهم، إذ إنهم يتعرضون لمواقف محرجة بسبب مناصبهم، قد لا يكون من الحكمة رفض الرشوات، على اعتبار أن الرشوة هي للمنصب لا للشخص. وإذا جرت مقارنة بين سلوك بعض السياسيين الفاسدين عندنا بسلوك سياسيين في بلاد أخرى أكثر تقدماً لترحمنا على عفة سياسيينا وترفعهم، بالإضافة إلى أن المجتمعات تشكو من علل أخرى أكثر خطراً وأذى مثل الجوع، البؤس، المرض...
وقد لا يفوتنا التحدث عن فئة رابعة تتخذ من الفساد موقفاً متسامحاً، بمقدار 90% إنها تتقبل هذه العاهة السلوكية، وان كانت لا تبررها، وتفضل دوماً التأكيد أن الكثير مما يقال عن ممارسة الفساد في أعلى دوائر الدولة، هو مزور، ومختلق، والهدف منه الإساءة إلى شخصيات مسؤولة لأسباب شخصية لا علاقة لها بالأخلاق العامة.
ولعل موقف عدم الاكتراث، وقبول الظاهرة على أنها سلوك شائع، ولا علاقة لها بحياة الناس، في قليل ولا في كثير، هو الموقف الأكثر انتشاراً. مادام لا يؤثر على السيرة العامة للمجتمع، ثم ما الأذى من اغتناء بعض الناس بطريقة شرعية أو غير شرعية مادام الربح مطلباً شعبياً عاماً، وقد يكون من الحكمة الاعتراف بأن المسؤول الذي يحتل منصباً مرموقاً يستحق أن يحيا حياة مريحة، وليس من الإنصاف مقارنة سلوكه الحياتي بسلوك الناس العاديين.
وأخيراً، لعل الموقف الأكثر اجتذاباً للدراسة هو موقف الذين يعتبرون الفساد ممارسة مألوفة وعادية. ونُقِل عن رجل أعمال مرموق قوله: «إن الفساد هو سلوك الزعماء المسؤولين، والمديرين العامين الذين يحتكرون اتخاذ القرارات» رغبة منهم في إعطاء المنصب الذي يشغلونه الأهمية التي يستحقها، ومما لاشك فيه أن سلوك الوجيه يختلف عن سلوك فرد من الرعاع، ولابد من توفير الوسائل كيما يحافظ المسؤول على مرتبته.
ـ 6 ـ
بعد أن بدأ فكر المكابرة والغطرسة يتمخطر في عواصم العالم، بما يحمله من تعال وعنصرية، وشراسة وجنون، نجد لزاماً علينا أن نرسم خارطة جديدة تحدد مواقع الصديق والعدو، وتجرد المخزون الفكري والاجتماعي بهدف متابعة المقاومة.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد