سوريـّون فوق القانـون
الجمل– حسان عمر القالش: الشارع، بما يعنيه ويحتويه، من طرقات وأرصفة وأبنية ولوحات اعلانية وسيارات وبشر، هو منبع قصص المواطنين وأحوال البلاد.
***
ساهم دخول بعض القوانين والأنظمة الجديدة، وتحديث وتفعيل بعضها الآخر، في تهذيب مواطننا السوريّ بعض الشيء، بأن فرضت عليه الالتزام بالتمدّن والتخلّي عن كثير من سلوكياته السابقة في تجاوزات النظام العام. ومن أكثر هذه القوانين والأنظمة ملاحظة وتدليلاً على هذا التهذيب هو قانون المرور الذي يحكم الشارع بنظام جديد. الأمر الذي جعل الكثيرين يتفاءلون ويتوقون للوصول الى قمة الانصاف وبداية تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية، في أن يكونوا متساوين أمام القانون العام والنظام الاجتماعي.
لكن الأمور ليست كذلك، وليست كما نشتهي ونحلم ونستحق. فقبل أسابيع، شهدت شوارع مركز المدينة بعد منتصف الليل، أداءً متميزاً في مهارات القيادة، قام بها مجموعة تقود سيارات كبيرة من نوع المرسيدس والجيب بزجاج أسود عاكس، عندما جرّبوا أحاسيس المجازفة بأرواح البشر والتعدّي على القانون، فتجاوزوا الاشارات الضوئية الحمراء، وقام أحدهم بحركة استعراضية بأن توجه بسيارته عكس السير الى احدى السيارات المتوقفة على الاشارة ليتوقف أمامه. وقبلها بأيام، وخلال سفري في عطلة نهاية الأسبوع الى صافيتا، تجاوزتني على طريق السفر السريع سيارة رانج روفر حديثة بزجاج فضّي عاكس، لكنها بلا لوحات، بلا أي رقم يدل على أنها نظاميّة وأنها قد مرّت على دوائر وقيود الدولة. وهو ما تكرر في طريق العودة أيضا مع سيارة كبيرة فارهة من نوع آخر.
أما سيارة المرسيدس السوداء اللون، بزجاجها الأسود "المفيـّم"، والتي أصادفها في طريق عودتي من دمشق الى بيتي في منطقة عرطوز في الريف، فقد بقيت لوحاتها مطليـّة باللون الأبيض حيث لا يستطيع أحد قراءة أرقامها الا عن قرب. هذه السيارة، والكثير الكثير منها، تسير في شوارع العاصمة وهي مخالفة للقانون والأنظمة: زجاج عاكس – تشويه لوحات – سرعة زائدة ورعونة. فهي لا تتمهّل حيث السرعة محدّدة، ولا يُعرف من يقودها وما شكله، وكأنه يريد أن يوحي بأنه الشبح الخفيّ، الذي ليس من المفترض أن يظهر ويبان على الناس العاديين أمثالنا، انه شخص مهم ومدعوم، أو ربما شخصية من شخصيات موظفي الدولة المهمين والمستهدفين أيام ثمانينات القرن الماضي كما تدل عليه سيارته وطريقة قيادته لها.
هذه هي الموضة الجديدة في شوارع العاصمة وغيرها من المدن في سوريا، هي تقليد جديد، والشكل الحديث لمظاهر التمايز والأفضليّة، وهي الحل الأمثل لتجنّب محاسبة القانون، والحفاظ على كل الأُبّهة وايحاءات الخصوصيّة. فعندما يفرض الشارع على مستخدميه هويّة مؤقتة واحدة، تضعهم في سويّة واحدة دون تمييز، يعمد أولئك الى رفض هذا القانون، وبالتالي اللجوء الى ما يؤكّد رفضهم هذا وتحديهم، ويضمن لهم ابراز أهميتهم. من هنا أتت موضة دهن لوحات السيارات بالأبيض، والزجاج الأسود العازل العاكس وغيرها. وتمرّ هذه السيارات يوميًّا من أمام ضبّاط الشرطة، اللذين باتوا يشرفون بأنفسهم على حركة السير في الشوارع بعد أن فقد شرطي السّير العادي كل اعتباره وكل رمزيّته كرجل ينفّذ القانون ويحرص على تطبيقه ما أمكن. تمر بسهولة، بثقة، بقوة، ودون حساب. وكثيرا ما تساءلت: ماذا لو اصطدمت بي هذه المرسيدس أو غيرها؟ ماذا لو عرّضت حياتي وحياة أسرتي الصغيرة للخطر؟ هل من الممكن ملاحقتها؟ هل من الممكن محاسبة أصحابها ومن يقف وراءهم؟
تحدث مثل هذه الأمور يوميا، لكن الُمهين في الأمر هو احساس المواطن العادي بخضوعه للقانون ولمحاسبته القاسية أحيانا، بينما يرى بأمّ عينيه أشخاصا لا يراهم هذا القانون، أشخاصا فوق هذا القانون، أشخاصا يدوسون على هذا القانون. والمشكلة ليست في فساد أفراد من شرطة المرور أو غيرهم من الموظفين الحكوميين، فهؤلاء في النهاية يتحمّلون أحيانا ما لا يستطيع أحد تحمله وبمقابل متواضع ومضحك. المشكلة هي في الفساد العام، في احساسنا الذي يقارب اليقين، بوجود ناس فوق القانون وأهمّ من القانون، والأدلّة تملأ شوارع البلاد من أقصاها لأقصاها. المشكلة في أحد أقسى وجوهها، للأسف، هي في استخفاف هؤلاء بهيبة الدولة، والمشي في سياسة "الخيار والفقّوس". واذا ما بحثت في المخيلة الشعبيّة للسوريين عن صور وأشكال هؤلاء الناس، لوجدتهم طبقة تضم أولاد وأقارب مسؤولين رفيعي المستوى، وأبناء الميسورين والطبقة الغنيّة، والأثرياء الجدد المتحالفين معهم. فالمشكلة أيضا، هي استفحال الفروقات الطبقيّة، واشتداد حدّة التفاوت الاجتماعي.
هؤلاء، كما يبدو من سلوكياتهم، وكما هو معروف ومؤكّدٌ عنهم، لا تهمهم البلد. هي عندهم أشبه بمستودع كبير لبضائعهم، سوق كبير لتجارتهم ونفوذهم وللبشر المحتاجين لهم، هؤلاء، هم من يظن الناس بأن القرارات الاقتصادية تفصّل على مقاسهم، هم من لأجلهم وفي سبيلهم تخرق كثير من القوانين ، فتغدو موضوعا للتباهي والاستعراض، فهم من يقولون لأصدقائهم " ولا يهِـمّـك "، هؤلاء، هم من يزيدون مرارات الناس وشعورهم بالضعف.
ولنكون أكثر موضوعيّة، ولا نبدوا متحاملين على هذه الطبقة، لا نستطيع انكار واقع وجود سوريين آخرين فوق القانون، لكن من نوع مختلف. انهم سائقوا الدراجات الناريّة الذين يقودونها كالمجانين ودون أي حساب للشارع وكل من عليه من أرواح وأرزاق، وشوارع مدينة درعا وضواحي منطقة صافيتا وغيرها تشهد لهذا الحال المزري. انهم سائقوا حافلات النقل الصغيرة (السرفيس)، ومعظمهم ممّن يقودونها بوحشيّة وهي محمّلة بالناس، الناس الفقراء، دون أي اعتبار لانسانيّة هؤلاء الركاب، أو لانسانيّة ركّاب السيارات الأخرى حين يزاحمونهم ويعرضونهم لخطر وحشيّة قيادتهم. انهم سائقوا الشاحنات الصغيرة والمتوسطة، أصحاب السيارات الكوريّة والصينيّة الـ"ستوك". انهم كل من يرى الشارع بكل محتوياته وكأنه "مكسـر عصا"، كأنه الساحة الوحيدة التي يستطيعون أن يفرّغوا فيها عن ضغوطهم وهمومهم وقهرهم، وربما كرههم للحضارة لأنها لا تلاحظهم ولا تهتم لأمرهم. لكنهم في النهاية، يبقون في نظر الطبقة الأولى، تحت في الأسفل.
صحيح أن البلاد قد تغيرت كثيرا في السنوات العشر الأخيرة، واختفت كثير من الظواهر السلبية التي أعاقت مسيرة التمدين والتحضّر، لكن يبدو بأن هناك من يُعاند المدنيـّة، من يحتقرها، من يضع نفسه في مقام فوق مقام باقي المواطنين. انهم كثيرون .. فهي مصيبة اذاً، ولا شيء يمنع من محاسبتهم.
الجمل
التعليقات
له
رد
الغابة
إضافة تعليق جديد