هــل الشــعر تقنيــة محتضــرة؟
بموت محمود درويش (1941 ـ 2008) دبّ ذعر شعري عام بين الناس. ونسأل لماذا؟ ونجيب لعله الاحساس الشعبي بانقطاع خيط من آخر خيوط التواصل بين الناس والشعر الحديث. وبالرغم من غموض هذا التواصل وما يشوبه من التباسات إلا انه كان حاضراً ومؤكداً... والإحساس بأن الشعر ينسحب من حياتنا لمزيد من العزلة والاختناق، احساس تتشارك فيه ثقافات كثيرة، حتى ليبدو أحياناً كالنبات الذي يتقلّص في الصقيع في انتظار الدفء والشمس.. او كالعجائز الزَمْنى في أيام الجاهلية الذين ينسحبون الى الصحراء ليموتوا تحت الشمس وفي الرمل. ولكن هل هذا الافتراض في مكانه؟
صحيح ان الاحساس العربي بفداحة هذا الأمر مقرون بدور الشعر التاريخي في تكوين الذاكرة العربية، فإنهم (أي العرب)، لم يكن لهم في يوم من أيام حياتهم القديمة سوى هذا الابن الوحيد المدلل. لكن.. ما من شيء يقنع دور النشر في هذه الأيام، على سبيل المثال، لتعوّل على الشعر كثيراً او لتستمر في المغامرة... فدار نشر مثل «دار الجديد» في بيروت بقيت مهووسة بالشعر لسنوات، تدلله وتزينه وتفتح له صفوفاً جديدة وتنشره... ثم ما لبثت ان اكتشفت انها تربي خيط دخان، فانكفأت... وربما صاحب ذلك شيء من الندم ومقدار من التشفي. اتضح لها انها تعاملت مع مادة معزولة، غير محروسة، فطرحتها انتقاماً منها بالمجّان.
دين القسوة
تعوزنا في الثقافة العربية الاحصاءات الدقيقة عن اصدارات الشعر ونسبتها للاصدارات الأدبية الأخرى (رواية، قصة، مسرحية...) كما يعوزنا الرصد الاحصائي والتجريبي لحركة الشعر في الجامعة، وفي صفوف التعليم والمناهج التربوية، على غرار ما هو معمول به في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً، حيث يقومون باحصاءات حول قراء الشعر حتى بين رعاة البقر وفي أنفاق المترو، وفي المقابر.. وبين ربات المنازل، وليس في الجامعة وحدها او في الدوائر الثقافية... ولكن لا يعوزنا الاحساس بتآكل الصورة القديمة للشعر، وان دين القسوة يقرض مساحات كثيرة منه مثلما تقرض الأَرَضَة خَشَبَ الموبيليا القديمة الجميل، او كما تقرض الصحراء أطراف الأرض المعشبة. انه الاحساس الأكثر رواجاً هنا وهناك. ولنا ان نتساءل: أهو صحيح؟ وأي شعر هو هذا، طريد العصر او خنيقه؟
تحوّل
عشر سنوات أخيرة من الشعر او أكثر او أقل الأمر سيّان. فهي لن تكون معزولة بحال من الأحوال عن السياق العام له هنا وهناك وفي العالم.. في بيروت كما في القاهرة، وفي القاهرة كما في نيويورك وأماكن أخرى. فالشعر كطاقة ضرورية وجوهرية للانسان، لا يزال يبحث عن مخارجه وصوره وأشكاله. فليس من باب الترف والفنتازيا قراءته في السنوات الأخيرة في بيروت، في مقاه وحانات ليلية (جدل بيزنطي ودينمو)، بل هي حاجته للتنفّس حملته الى أماكن تشبهه وتمنحه الاحساس بالحرية والصعلكة والجنون، وهي أقانيمه بكل الأحوال... وهي أقانيم نؤاسيّة قديمة، شاهدنا استطراداً لها في ديونيزيسيّة نيتشه الذي مجّد الغريزة باعتبارها الحياة، وتعامل مع العقل الأبولوني بحذر وريبة.
بيروت الشعر في السنوات العشر الأخيرة ليست معزولة عن ذاتها ولا عن العالم.. تتفاعل وتتطوّر وتغامر وتستمر. صحيح ان مجلة «شعر» توقفت من مدة طويلة عن الصدور، ومثلها مجلة «مواقف» وان «الآداب» تحوّلت من مجلة أدبية الى مجلة فكرية.. ولكن الشعر الذي جرّب التنفّس في الحانة، تمزّق وانطرح في أماكن كثيرة: في الصحف والانترنيت وعلى أرصفة المقاهي، وفي المعارض والندوات والسجالات المفتوحة على مصراعيها وهي في بعض الأحيان مشاحنات واطلاق نار. لم يكن في موت محمود درويش خوف على وقوع القطيعة بين الشاعر العام الرائي الإمام، والناس فقط، بل كان ثمة خوف من انتقال مركز الشعر من طبقة الى طبقة ومن مكان لآخر ومن لغة لأخرى.
لم تعد الغواية الأدونيسية مثلاً (نسبة لأدونيس) موجودة بمثل زخمها القديم (في سبعينيات القرن الفائت) وذاك الاستعلاء الشعري الذي جاء به الروّاد الأوائل تشظّى وتكسّر وكاد يضيع في فسوخ الشعر وكسور الشعراء. عدد من شعراء السنوات الأخيرة، انطحن مع الوقت المطحون. لقد دافعوا عن وجودهم كما تدافع كائنات الغابة الحية عن نفسها وقت الخطر فتأخذ لون المكان الذي تختبئ فيه.
ترى الى قصائد «حب في غسّالة» ليحيى جابر (دار الريّس 2009) على سبيل المثال، فتجدها تختلف جذرياً عن «قصائد حب على بوابات العالم السبع» للبياتي او «أغاني مهيار الدمشقي» لأدونيس. والمقارنة هنا ليست قيمية بل نوعية. تحب هذا الشعر أم لا تحبه، تلك مسألة أخرى. تجد فيه خطوة الى الوراء أم خطوة الى الأمام، أيضاً مسألة أخرى. ما حصل هو ان ما انكسر في العصر انكسر في الشعر أيضاً.. وكان لا بد لدين القسوة ان يفعل فعله في الكلمات والصور والصيغ والموسيقى، بل في المعنى ذاته... لأنه ليس صحيحاً بالمطلق قول الجاحظ ان المعنى مطروح على الطريق.. أي مبذول ومتشابه.. المعنى ذاته متغيّر مع الصيغة والأسلوب... المعنى دائماً على سَفَر، والشعر على سَفَر... من هنا إشكالية التحديد والتمييز.
الشعر إذن، في السنوات العشر الأخيرة، لم يكن في تقدم او تأخر.. ولم يكن في عزلة او انفتاح.. لقد كان في تحوّل. وفي التحوّل تموت أشياء وتولد أشياء وتتغير المعاني. ثمة بالتأكيد موت جزئي او كلي لبعض الماضي.. وتفسّخ للقصيدة، وتحولات من المركز الى المجرى، وهوامش رثة تفترض أرضاً كانت مليئة بأربابها فتحطمت فلم تقبل الفراغ فامتلأت بكسورها.. ازداد الميل الوحشي لتحطيم كل معنى يثبت في تحديد.. ما الشعر؟ طبعاً هذا هو السؤال وسيبقى. ينضغط وينفجر ويتسرّب في كل اتجاه. ولا يحدث ذلك من دون مشاغبة وطيش وبعض الاعتداء. انهم أكثروا القول مؤخراً، حتى غدا الأمر ببغائياً، حول تسيّد الرواية على الشعر وانه زمنها وليس زمنه (جابر عصفور) وعزوا ذلك الى المدن والاستهلاك والطبيعة السردية للانسان المعاصر... ما يناسب الرواية دون الشعر... والكلام هذا وأشباهه هزيل كبيت العنكبوت... كالكلام عن العصر انه عصر الأعطاب والتهرآت لذلك فهو لا يصلح للشعر بل للرواية.. او للمسرح، او للسينما... الخ. لكأن الشعر واقف عند معانٍ وترسيمات لا يغادرها وهو أسيرها..
يتغيّر الزمان وهو لا يتغيّر..
للعصور شعرها
نعم: توصيف العصر صحيح. لكن عجز الشعر او تقصيره عن معانقته او ملاقاته بأدواته، هو الهراء بعينه. ان معادلة مثل معادلة الطبيعة السردية للمدن وللانسان السريع الاستهلاكي والانسان الصُنعة، بالرواية، هي معادلة قاصرة... ان لهذه المدن ولهذه العصور شعرها أيضاً. وهو يجنح للخواء والألم والتشظّي. ويتسلّق السرد كسلّم يناسب المرحلة. فليست المسألة «قصيدة نثر» أم لا.. ووزن أم لا... بل هي ضاربة أعمق في العصر وقسوته وأوصافه كيف يستوعبه الشعر كما تستوعبه الموسيقى والرواية والفنون الأدائية...؟ والشحنة العاطفية الانسانية أين تذهب؟
لقد حشرج مع العصر المحشرج «ألن غنسبرغ» الأميركي وعوى كالكلب على المقابر، ومجّد الماغوط التشرّد، وثمة من اعتبر مجد الشاعر في ان يكون منسياً، وثمة من قال بشعر اللاشعر.. وهكذا، على ما نرى، وخلافاً لما يظن، اتسعت رقعة الشعرية اتساعاً لا حدود له، واقترنت اقتراناً قوياً ومصيرياً بالحرية، وابتكرت الحيل اللغوية والأسلوبية لتلبس لباس العصر، كما كانت في كل آن...
انه في زمن الحاسوب والانترنيت، يليق بالقصيدة ان تستجيب للسرعة والرقمية وذلك من خلال طبيعتها التكثيفية، ولكن من يمنع الشاعر من ان يُغنّي أيضاً ولو على الأطلال؟
ومّنْ يلزمه بالسرد إذا أراد الوزن؟
ومن يجرؤ ان يقول له قُلْ ولا تقُلْ؟ بل من يستطيع ان يحدد له الماضي والحاضر والمستقبل بحدود من السنوات وفواصل من التاريخ، وهو ابن التهويم والغرابة والحرية؟
لعله وحده بمخيلته، القادر على ان يخترع الماضي ويؤرّخ للمستقبل.
وعشر سنوات من الشعر، على الأرجح، لا تكفي، ولكنها تعطي صورة عن مكان ما للنهر في مجراه الطويل. فهو نهر تعتكر مياهه أحياناً وتصفو أحياناً، يتدفق في مواسم الأمطار الغزيرة وتفجّر الينابيع، ويصيبه اليباس في مواسم الشحّ والجفاف. وهو أيضاً ينبع من الأعالي كما من الأعماق وهو بويب السيّاب ولكنه أيضاً «الجيفة الخالدة» التي سئمها الماغوط في «حريق الكلمات».
ويلوح لي ان الشعر هنا وهناك يتحوّل يوماً بعد يوم الى فعالية ترميمية.. فالصورة تنطوي على خدوش وفجوات وخلل. وليست هذه هي حال الشعر، وحده، بل حال عدد آخر من الفنون العريقة مثله، كالموسيقى والمسرح.. بل لعله حال الكثير من الفنون الجادة فالتفكيك لم ينل من انسان العصر في كيانه، فقط، بل طاول عيشه علاقاته وفنونه ومن بينها الشعر. فالشعر لا يموت ولا يحيا بل يتحوّل. ولبنان بحكم كونه حلقة اتصال وعبور وتحوّل بين عوالم كثيرة كان ويظل البؤرة الأكثر قابلية لتحولات العصر.. لقد ظهر وخلال أعوام طويلة من الحداثة والمعاصرة وكأنه مختبر شعري وتجريبي تشفع له الحرية وجرعتها القوية قياساً بالمحيط العربي، والتنوّع الذي هو سمة من سماته.
عشر سنوات شعر أخيرة عشر سنوات اختبار وتجريب وإبداع واختلاف... وبالتالي هي سنوات خصوبة بالمعنى الإشــكالي للشــعر لا بمعنى صفــاء النــوع. فالشعر حــركة وهذا قدره وطريقه أيضاً.
محمد علي شمس الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد