تقديم "درويش" على طريقة إعداد الوجبات السريعة

06-08-2010

تقديم "درويش" على طريقة إعداد الوجبات السريعة

يقدّر المرء للزميلة بولا يعقوبيان أن تتخلى عن السياسة في الحلقة الماضية من برنامجها Inter ـ views لتحتفل بالذكرى الثانية لغياب الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ولكن يصعب ألا يتوقف عند الإعداد العجول والاعتباطي للحلقة. هذا ما يمكن أن نلمحه منذ البداية، في التقديم الإنشائي المتأدب الذي جمع عناوين كتب الشاعر في مصفوفة فارغة من المعنى، كأن تقول بولا «في حضرة الغياب، نوجه الليلة تحية لعاشق من فلسطين، نسأله لماذا تركت الحصان وحيداً، ومن بعدك يروي يوميات الحزن العادي، وهل حقاً آخر الليل نهار..». وقد اعتدنا أن يكون التقديم تمهيداً وتسويغاً للحلقة وموضوعها، وكذلك تعريفاً بالضيوف ولماذا جرى اختيارهم هم دون غيرهم. محمود درويش_
ولكن الزميلة لم تفعل شيئاً من ذلك، ولا برهن سياق الحلقة شيئاً من هذا القبيل. لقد أوحى حضور الناقد السينمائي ابراهيم العريس، والمخرج السينمائي نصري حجاج أن الموضوع هو السينما، خصوصاً أن الأخير أنجز فيلما تسجيلياً عن الشاعر الراحل بعنوان «كما قال الشاعر»، يعرض قريباً (8 آب) على شاشة «المستقبل». راحت يعقوبيان تسأل الضيفين أشياء لا نحسبها في صلب اختصاصيهما، فهل من صلب مهنة المخرج السينمائي أن يتحدث عن تأثير درويش في المجتمع الاسرائيلي (وحتى لو كان حجاج عارفاً بهذا الشأن فهل من أجل ذلك جاء إلى الحلقة؟)، ثم لماذا يُسأل ناقد سينمائي ليتحدث عمن تأثر بهم الشاعر من بين شعراء آخرين، في الوقت الذي يعتبر ذلك من اختصاص نقاد الأدب؟
المحور الأكثر غرابة في الحلقة كان حول تكفير محمود درويش من قبل متطرفين دينيين، وهذا سيستغرق حيزاً لا بأس به من وقت الحلقة. الغريب أن قضية كهذه لم تثر في حياة درويش نقاشاً صحفياً، ولعله كان فقط في غرف «التشات»، وفي تعليقات غير منضبطة في زوايا الشبكة العنكبوتية. في إطار هذا النقاش سيأتي سبق البرنامج، حين يعرض للمرة الأولى مقابلة مقتضبة مع الراحل السيد محمد حسين فضل الله أجراها حجاج بعيداً عن فيلمه، وبدا أنه يهدف من ورائها إلى شهادة من مرجع كبير تدفع عن الشاعر تهمة الكفر.
حصل حجاج فعلاً على ما يريد، حيث قال الراحل فضل الله إن «الرجل كان مؤمناً لأن الشاعر الشاعر، والإنسان الإنسان لا يمكن أن يكون ملحداً»، لكن شهادة فضل الله ذهبت أيضاً إلى تجربة الشاعر فقال إنه «شاعر كبير مجدد»، و«ينفتح على حداثة مميزة».
ما يلمسه المشاهد هنا أن محور «التكفير» في الحلقة جاء مفتعلاً لاستثمار تلك المقابلة النادرة وغير المنشورة مع السيد فضل الله، ولذلك جاء النقاش نفسه هزيلاً، خصوصاً حين تسأل بولا ضيوفها، معتقدة أنها «جابت الديب من ديله»، وأنها بعبارة واحدة ستحسم إيمان الشاعر. تسأل بولا «أليس في قول الشاعر «حاصر حصارك» مسحة جهادية، يعني لازم ينبسطوا الإسلاميين؟»، لا ندري من قال لبولا إن فعل المقاومة يقتصر فقط على المتدينين.
حين أرادت بولا أن تخرج من ذلك المحور اختارت أن تذهب إلى أحد زملاء الصبا لدرويش في الحزب الشيوعي، فالتقت عبر الأقمار الصناعية بمحمد نفاع من مدينة الناصرة، ليتحدث عن تجربة انفصال الشاعر عن الحزب، ثم خروجه من فلسطين. وكان أغرب ما سألته لنفاع «كشيوعي إسرائيلي، أليس فيها تناقض مع يهودية الدولة؟». وهنا بالطبع تكون بولا قد نسيت نفسها تماماً، وعادت إلى برنامجها السياسي، إذ لا علاقة لذلك السؤال إطلاقاً بتجربة محمود درويش.
في الدقائق الأخيرة فقط ستلتفت بولا إلى المخرج نصري حجاج، لتعرض مقاطع من فيلمه عن محمود درويش، وسيظهر على الفور أنه كان على الحلقة برمتها أن تكون هناك، في تجربة الفيلم الذي دار حول أمكنة الشاعر، في البروة وبيروت وباريس وعمان ورام الله ودمشق وتونس وسواها. وفي تجربة المخرج مع الأدباء الكبار الذين ألقوا قصائد الشاعر بلغاتهم، من البرتغالي خوسيه ساراماغو إلى النيجيري سونيكا، والكردي شيركو بيكس، ووزير الخارجية الفرنسي السابق دوفيلبان.. وسواهم. لماذا اختار المخرج تلك الأمكنة وهؤلاء الأدباء، وما تفسير وجود شاعر إسرائيلي في الفيلم يقرأ قصيدة لدرويش بالعبرية، وأي إشكالات خلقها ذلك مع جمهور عربي اعتاد أن يرى في ذلك تطبيعاً.
لكن حجاج، المخرج الفلسطيني اللبناني، صاحب تجرية الفيلم عن درويش، كان عليه أن يبقى في الظل، من دون التفاتة تذكر من بولا. بولا التي أرادت الحلقة، على ما يبدو، استراحة من تعب السياسة، لتزيح عن كاهلها عبء الإعداد والتحضير لحلقة كانت تملك كل المقومات لتكون استثنائية.


راشد عيسى

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...