أنسي الحاج: ملائكــة
■ «قلب مفتوح»
يسترجع عبده وازن طفولته في كتابه الجديد «قلب مفتوح» «كأنها طفولة شخص آخر». كذلك مراحل حياته اللاحقة، بما فيها جراحة القلب المفتوح، مروراً بالتطوّر الجنسي والنفسي والفكري. شخصٌ آخر ينفصل عنه ويتفرّج عليه دون ارتباك، وأحياناً بتحنان. «أكتب الآن وكأنني أكتب عن جسم واجه نفسه بنفسه، عن جسم ليس جسمي، عن جسم متشبّث بصورته الأخرى، صورته الغائبة». ولعلّ التعبير الأكثر إيحاءً بهذا الغياب هو لفظة «أبيض» أو «بيضاء» التي تملأ الكتاب بدلالاتها المختلفة، عبر مروحة عريضة تشتمل على الموت والنقاء والشهوة.
الركن الأكبر الذي يقوم عليه الكتاب هو فعل «كان»، ممّا ينشر جوّاً من الحزن المقترن بالحنين والندم والأسى والوداع. كتابٌ هو، كمعظم كتابات عبده وازن، مَطْهر لم يعتزم ساكنه بعد الهبوط منه إلى أسفل ولا الصعود إلى أعلى، تَصْلبه الحيرة بين الحيوان الذي فيه والملاك، حيرة ينضح بها الكتاب كما ينضح الجريح بدمه.
«تعبر الذكريات عينيّ كغيومٍ في سماءٍ زرقاء». الألوان كثيفة الحضور. ومن أمتع الفصول ذاك الذي يتحدّث فيه عن مرحلته الأفريقيّة: «عرفتُ الحبّ للمرة الأولى باللون الأسود». حكاية علاقته، هو المراهق، بفتاة سوداء في الثانية عشرة تعرّف عليها في مدينة كينشاسا وكانت حبّه الأوّل: «تجد نفسك فجأةً في عالمٍ من الوجوه السوداء، أنت الغارق في بياض ذاكرتك». ويقول: «شعرتُ فعلاً هناك أنّ الجنس فعلُ حبّ مثلما هو فعلُ غريزة، وكنتُ أمارسه بحريّة وحينما أشاء ومع أيّ فتاة عابرة (...) كنتُ أشعر أنّني فتىً أسود وأنّ عليّ أن أكتشف جذوري السوداء هناك، في تلك البلاد التي أحببتها وأحببتُ كلّ ما فيها (...) والفتيات اللواتي كنَّ يخفين في عمق مآقيهنّ بؤساً يشبه البؤس الخبيء فيّ».
ولا يعادل اهتمامه الإيروتيكي سوى شغفه الديني. بل هذا يفوق ذاك. يصف نفسه بأنه «كائنٌ دينيّ بالفطرة (...) باللاوعي الأعمق من العالم». أبلغ ما يكون حديث الحيارى عن إحساسهم الديني لأنه الأقرب إلى التصديق، بل إلى الإقناع. مثل قوله: «في الداخل شوقٌ إلهيّ أجهل مصدره (...) وكنتُ أعتقد دوماً أن هذا الوجدان أو الشوق أو الغريزة وُجدت قبل وجود الدين نفسه وأن الدين لم يكن إلّا تجلّياً أو استجابة لها».
«كان» المعمَّدة بالرثاء. لا يصدر الكلام هنا إلّا من منبعين: الذاكرة والشعور. الذاكرة شاعريّة والشعور تراكميّ. وازن من القلّة التي تجمع بين الثقافة والإحساس، هذه الفضيلة التي نخشى عليها من التواري. وهو من الأخيار الذين يتناغم لديهم العمق والطفولة: «لم أستطع أن أصبح كائناً سياسيّاً (...) كنتُ أحتاج إلى الآخرين لكنّني لم أكن أعرف مَن هم الآخرون». ويشغله الانتحار: «لعلّني أنتمي إلى فئة من الأشخاص يُسمّون المنتحرين ـــــ الأحياء. الذين ينتحرون كلّ يوم وينهضون كلّ يوم، حبّاً بالحياة نفسها وخوفاً من الانتحار نفسه».
يتابع وازن مونولوغاً يخترقه الجدل الذاتي، في شعره وفي نثره، وحتّى في أكثر مقالاته زواليّة. هناك على الدوام في كلامه مطلّات تستأثر بنظره وقد لا يراها سواه. انخطاف إلى أقطاب لا هي تحيد عنه ولا هو يستطيع عنها انفكاكاً. حتّى وهو يسخر أو يضحك. لم أعرفه إلّا هكذا، ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً. هو نفسه في المعيشة وعلى الورق. التيه في البحث والبحث في التيه. الدهشة والسأم، الفيض والموت، الفَرَج والحَرْق، في مناخٍ من الحسيّة والأثيريّة معاً، من التركيز والضباب، وهذه المتاهة التي هي البداية والنهاية: «هذه المتاهة قد تكون أجمل ما في الكتابة، المتاهة التي يبحث فيها الشخص عن نفسه، يجدها ثم يفقدها ثم يروح يبحث عنها فيجدها ثم يفقدها ثم...».
... والملائكة. «هذا الملاك يعود إلى عالمنا من منفاه السماوي». في أواخر الكتاب فصلٌ من أعذب ما قرأت عن هذه الكائنات التي نخالها تارة فوق أكتافنا وطوراً عند النوافذ، ونكاد ننسى أنّها أيضاً فينا. وها هي تعود اليوم إلى الواجهة في الغرب فتطبع دور النشر الكتاب تلو الكتاب عنها ويُقبل الملايين على قراءتها.
«قلب مفتوح» سرديّة مفعمة بالصدق، دامعة بفرح الولادة من جديد. «أكتبُ الآن، لقد عدتُ إلى الحياة حقّاً».
وهكذا أخيراً صمَّم على البقاء في المَطْهر.
■ «التصنّع غير لائق...»
«لأنّ التصنّع غير لائق بملائكة الحقّ»، يقول توما الإكويني في كتابه «الخلاصة اللاهوتيّة» (من طبعة له صدرت في بيروت عام 1889، والترجمة عن اللاتينيّة للخوري الماروني بولس عوّاد). بين يديّ المجلّد الثاني منه، وتحت عنوان «بابٌ في الملائكة» (وهو على الأرجح مكمّل لمباحث في الموضوع نفسه تَضمَّنها المجلّد الأول) يُبحر الفيلسوف اللاهوتي في دنيا الملائكة تشخيصاً وابتكاراً، مِن: هل الملاك مجرّدٌ عن الجسم تماماً، إلى: هل تفعل الملائكة أفعالاً حيويّة في الأجسام التي تتّخذها، إلى: هل يَعْرف الملاك نفسه وهل يعرف أحد الملائكة الآخر وهل في الملائكة إرادةٌ واختيار وقوّة شهوانيّة وغضبيّة وهل يحب أحد الملائكة الآخر...
يغوص المرء في هذا الكتاب فيتفهّم متعة أن يكون أصحاب الجدل قد استغرقوا في بحثهم حول جنس الملائكة حدّ نسيان خطر العدوّ الجاثم على أبواب القسطنطينيّة. ليس هناك تاجٌ أعظم من تاج الطفولة، والغوص على موضوع كموضوع الملائكة تثبيت لأقدام الطفولة في تراب الزمن. وأنت تقرأ ينبت لكَ جناحان. ومن فرط الحسْن يغيب عنك أن هذا الكائن السعيد المذكّر في اللغة ليس ذَكَراً في ذاته ولا أنثى. ومن فرط «إنسانيّته» يغيب عنك أنه لا يهودي هو ولا مسيحي ولا إسلامي بل كَونيّ. وتنسى، في هذا المناخ المسحور الذي أكثر ما يُشبهه من صنائع البشر موسيقى موزار ورسم رافائيل ووجه الجوكوندا وأصوات جوقات المرتّلين والمرتّلات، وصوت فيروز الجامع بين دفء صورة الملاك الحارس ورقّة الملاك الخجول ـــــ تنسى في هذا المناخ أن الملاك ملاكان، واحدٌ للخدمة وآخر للعصيان، واحدٌ للرجاء وآخر لليأس، اليأس من رحمة الله، كما يفسّر «لسان العرب» فعل أَبْلَسَ، أي يئس وندم، ومنه إبليس. وقد وردت لفظةُ إبليس إحدى عشرة مرّة في القرآن، ومنها، بعد رفض إبليس السجود لآدم أسوةً بالملائكة الآخرين: «قال يا إبليس ما منعكَ أن تسجد لِمَا خَلَقْتُ بيديَّ؟ استكبرْتَ أم كنتَ من العالين؟ قال أنا خيرٌ منه خَلَقْتَني من نارٍ وخَلَقْتَه من طين».
■ العنصر الخامس
يبدو الكلام على الملاك في أحيان قناعاً للكلام على الله. ويقال لمَن يبصر ملاكاً في المنام أن هذه بشارة أو تحذير من الله. وفي التوراة يتجلّى الله تارة في الرعد وطوراً في هيئة ملاك، والتمييز ليس واضحاً دائماً بين الربّ وملاك الربّ. فالذي خاطب موسى من العوسجة الملتهبة هو ملاك الربّ لكن الحوار الذي أعقب ذلك دار بين موسى والربّ نفسه. ويظهر الملاك وسيلة استعملها الرواة للحدّ من رفع الكلفة بين الله والإنسان. أما الفلاسفة اليهود فيختلفون حول مفهوم طبيعة الملائكة ووظيفتهم. وفيما كان فيلون الإسكندري يعتبرهم كأرواحٍ مجرّدة، عقلانيّة وخالدة لم تدخل إلى أجسام بشريّة وأنها «تنقل أوامر الربّ إلى أبنائه وتحمل حاجات الأبناء إلى أبيهم» كان ابن ميمون يقول بوجوب النظر إلى الملائكة على أساس أنهم عقول منفصلة وغير ماديّة، وكان يناهض عادةَ رفع الصلوات إليهم كي يتوسّطوا لدى الله. ولدى اليهود كتاباتٌ صوفيّة تنشئ مقابلة بين ملائكة بمميّزات أنثويّة وملائكة بمميّزات ذكوريّة.
يقول مؤرخون إن تصوير الملائكة بأجنحة والهالة حول الرأس بدأ حوالى القرن الرابع، وفي القرون الوسطى ومستهلّ عصر النهضة أخذ يطغى تصويرهم ككائنات خنثويّة وأحياناً كفتيات. وإلى القرن الثاني عشر تعود مدرسة تصويرهم كأولاد دلالة على البراءة. أما الملاك الحارس الشخصي، وخاصة ذلك الذي يسهر على الأطفال، فقد بدئ بتصويره على نطاق واسع في القرن التاسع عشر.
وكالعديد من الإيمانات والطقوس ترقى جذور الفكرة الملائكيّة إلى المعتقدات الفلكيّة والنجاميّة للحضارة الآشوريّة ـــــ البابليّة، ومنها إلى سائر الشعوب الساميّة، حتّى وصلت إلى العبرانيين الذين أعادوا توظيفها في سياق التوحيد المطلق. ولا يسع المرء، حين يقرأ أن الملاك مبعوثٌ إلهيّ لتبليغ رسالة، إلّا أن يتذكّر مركور، أو هرمس بالإغريقيّة، أو عطارد بالعربيّة، وقد كان لقبه «رسولُ الآلهة». قس على ذلك آلهة أخرى تحوّلت إلى ملائكة، توزّعوا بدورهم الأدوار التي كانت منوطة بأرباب العهود الوثنيّة.
■ ■ ■
يُغْرَم الإنسان بالغياب أكثر ممّا يُغْرَم بالحضور. الغائب هو عنصره الخامس. ويمكن القول غالباً إن أجمل ما في الوجه هو ظلال ذلك الغيب الذي تتشوّق له العينان.
وَهْمٌ سحرُ هذا الغياب أم حقيقة، لا أحد يعرف.
سقطت القسطنطينيّة ولم ينتهِ الجدل حول الملائكة. لم ينتهِ أيُّ جدلٍ ولا حول شيء. ومَن يهمّه إن كان الملائكةُ حقيقة أم خرافة ما دام الاعتقاد بوجودهم أجملُ من عدم الاعتقاد؟ وهل نحن سابحون في اليقين حتّى نتوقّف عند شكٍ كهذا؟ وما دام لا خيار لنا إلّا في التمنّي ولا حريّة إلّا في الخيال، فلندعْ هذا المجنَّح الفاتن يغمرنا بحمايته. إنّه هو نفسه مَن نلمحه عندما نغمض العينين ونسرح وراء ما لا تصل إليه اليد.
يزعم الشعراءُ أن المدهش أو السحريّ هو دائماً جميل. والجميل تاجُ الوجود، فهل يكون وَهْماً ما هو في الوجود؟ وإن لم نصدّق زعمَ الشعراء وَجَبَ أن نسفّه أيضاً مشاعر الأطفال، فيما الصدق ذاته ليس أصدق من مشاعر الأطفال. الطفولة، عاصمة الشعر الكبرى، خَلَقت كلّ ما يدور الكبار في أفلاكه. أليست طفولة البشريّة هي ما شعر بالحاجة إلى الإيمان، إلى التطلّع، إلى الأسرار، إلى الأديان؟ أليست تلك الطفولة أوّل مَن خاطب السماء؟ لقد كبر العالم منذ ذلك الفجر لكن الأطفال لا يزالون يولدون. ومرّات أيضاً يستمرّون في أجساد راشدين هرموا وبقوا أطفالاً. وهؤلاء يشعرون، ولا يعرفون لماذا، أنّهم باستمرار في حضرةِ غائبٍ أو في غيابِ حاضرٍ لا يُرى.
ليكن هذا الغائب الحاضر رجلاً أو امرأة، ليكن فكرة أو غريزة: إنّه أحد الملائكة.
وأكبر برهان على وجوده، حين يبتسم لكَ في الطريق وجهٌ مجهول.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد